حمد عبود: مرآة مكسورة

0

لن أنكِرَ أهميَّةَ الثانويةِ العامة في حياتي التعليمية، فقد تحدَّدَتْ بعبورِها الجامعةُ التي استقبلتْني، وقررتْ درجاتُها طبيعةَ الفرعِ الذي نَمَا فوقَ رأسي وظلَّلَ حياتي فترةً طويلة. لكنَّها لم تكن أولَ المراحلِ الحاسِمَة، فقد سبَقَها حدثٌ أعظمُ تأثيرًا، بدأتْ بوادِرهُ عندما استَحدَثَتْ وزارةُ التعليمِ مدارسَ للمتفوقين، ينزلقُ إليها مجموعةٌ معيّنةٌ مِن الطُلَّاب، بينما يتعثَّرُ البقيةُ نحوَ مدارسٍ أُخرى، تتميَّزُ تبعًا لذلكَ القرارِ بكلِّ شيءٍ عدا احتوائِها للمُتفوقين.

كانَ تفوُّقُ بعض زملاءِ الصفِّ أمرًا طبيعيًا، إلا أنَّهُ انحصرَ بيننا وراءَ جدرانِ المدرسةِ الواحدة، فتَمايَزَ الطلَّابُ داخِلَها بينَ متفوّقينَ وكسالى، وأدْرَكْنَا مَنْ يتكاسلُ عمدًا ليكسَبَ صُحبةَ سوءٍ مُمتعَة. إلا أنَّ قرارَ الوِزارةِ شهَّرَ بالتَفرِقَةِ بيننَا، ونشَرَ غسيلنا الذي لطالَما حاولنا إخْفَاءَهُ، فلم نعد طُلَّابًا يتشاركونَ اللباسَ المدرسي العسكري: يستوقِفُكَ بين الجموعِ مَنْ ارتَدى زينةَ الأكتافِ الذهبية، دلالةً على انتِمائِهِ إلى مدرسةِ المتفوقِين، وتُشاهدُ في المقابل مَن يُجرجِرُ أسمالَهُ إلى الصفوفِ العادية.

لم تحدوني الرغبة في دخولِ مدرسةٍ معيَّنة، لكنني أدركتُ الانعزالَ المحتومَ إذَا ما انتَميتُ لواحدةٍ من الفئتين، فلم يكنْ ما سيحمِلُهُ المُستقبَل القريبُ مهمًا، وطغَى على الكثيرين شعورُ خسارةِ معركةٍ حاسِمة، وتسرَّبَ الاستسلامُ عن محاولةِ استردادِ الاعتباراتِ أمامَ الأصدقاءِ أو الأعداء.

رضختُ تحتَ ثِقَلِ تلكَ التفرقة سنواتٍ ثلاث، قررتُ في البداية التأخُّرَ عن المدرسةِ تجنّبًا لمصادفةِ المتفوّقين في الطريقِ، وتعوَّدتُ بعدَها أنْ أكفَّ نظري عن أصحابِ الأكتافِ اللامعة، حتَّى اعتنَقْتُ انتمائي إلى صفوفِ مدرستي، وأنكرْتُ ما تواجدَ خارجَ أسوارِها، وتسلّلتُ أخيرًا إلى تلكَ الدائرةِ المنغلِقة على نفسها، مَرِنًا كبُقعَةِ زيتٍ في كأسِ ماء، ألاحِقُ بنشاطٍ قطراتٍ تُشبهني.

افترضتُ أنَّ الجامِعةَ ستكونُ أدغالًا جديدة، أصطادُ فيها درجاتي الدراسية، واقتنِصُ حصَّتِي مِن العلاقاتِ العاطِفيَّةِ المُثيرة، فانشَغلْتُ بتخيُّلِ ما ستجلبه الحِقبَةُ الجديدة، متناسيًا ما كانَ مِن سنواتِ المدرسة دافنًا التاريخ خلفي، مُتزيِّنًا مِنه بآثارِ جرحٍ باهتٍ جرَّاء قرار الوزارة ومدارسها وتقسيماتها.

إلا أنَّ قرارًا وزاريًا جديدًا لاحَ في الأفق، أتاحَ لِخِرِّيجي الثانويةِ العامة دخولَ فرعٍ جامعيٍ حكومي مُعيَّن، مُـقابلَ مبلغٍ سنوي يُدفَعُ للجامِعة، وذلكَ تعويضًا لدرجاتِ دراسيَّةٍ مَنعتْهُم مِن دخولِ الفرعِ نفسهِ بالمجَّان.

اختبرتُ وزملائي خلالَ السنواتِ الأولى صداماتٍ عديدة، دارَ مُعظمُها حوَلَ تلكَ التفرقةِ الجديدة، لكنَّنا استطعنَا في النهاية التغاضي عن الفروقاتِ وإزميلِها المُترسِّخِ بيننا، واعتنَقنا مَصيرنا المُشترك كأولادِ فرعٍ دراسيٍ واحد. جَمَّعَنَا ازدراءُنا لطلابِ الهندسة المعمارية ومساطرهِم التي يحمِلونها على ظُهورِهم كفرسانٍ مُزيَّفين، كمَا وحَّدَتْنَا حتْميَّةُ مُعاناتنا القادمة، حينَ أدركنا صعوبةَ إيجادِ عملٍ بعدَ تخرّجنا، وبأنَّ مُعظمَنا سيغادرُ البلادَ بحثًا عن عملٍ يُؤمِّنُ ما يلزمُ لتقِفَ حياتُنا المستقبلية على قدَميها، ولم يَعُدْ مهمًا إذا ما كنَّا قدْ دخلنا الفرعَ بنقودٍ أو بالمجَّان، فالهِجرةُ مكتوبةٌ ومُقرَّرةٌ على الجميع، إلَّا مَن كانَ محظوظًا باقتناصِ فرصةٍ في إحدى الشركاتِ الأخطبوطيةِ المحليَّة التي تحجِز مرتَّباتِها العالية للأجانب.

كنتُ واحدًا من الذين دخلوا الجامعة بنقود العائلة، واستقرَّ سهمي المُنطلقِ في باحةِ هندسةِ الاتصالات، فكانَ ذلكَ القرارُ أفضَلَ من القبولِ بدراسة الجيولوجيا المجَّاني، وهو الفرع الذي أمَّنتْهُ لي درجاتي الدراسيَّة، إلا أنَّ السعيَّ لدراسةِ الهندسةِ كانَ واجبًا يحفظُ سُمعةَ العائِلة، ويُنقذُ أمي على وجه التحديد مِن الخجلِ أمامَ جاراتِها مِن عدمِ تفوِّقِ ابنِها وعجزِهِ عن أنْ يكونَ طبيبًا كما تقتضيهِ البروتوكولاتُ الاجتماعية.

بدأتُ أتشرَّبُ السُمعَة الجيدة للفرعِ الذي كُتِبَتْ عليَّ دراسته وغرِقتُ في التكنولوجيا لُغَة الحاضِر والمستقبل، لكنَّني لم أكرِّس نفسي للغوصِ في ذلكَ البحرِ العميق، فأبقيْتُ قدمًا في الجامعة وقدمًا في مكان آخر، فكانت الكتابةُ ملجأً مِن أيِّ تفرقةٍ كانت، والانتماء إلى معشرِ الكتَّابِ أهمُّ مِن أيِّ دراسةٍ أو نجاحاتٍ مُحتمَلة.

تشكَّلتْ السنواتُ التالية بشكلٍ واضحٍ حولَ الكتابة، وحُصِرتْ دائرةُ الصداقاتِ المُقرّبة بِالشغوفين بالكِتابة والقِراءةَ. انطلقتُ معجبًا بذلكَ الانتماءِ، تاركًا المتفوقين خلفي، متناسيًا تفاصيلَ الجامعةِ ولُغةَ العَصر، مكتفيًا بلغتي الأُم، مستمتعًا بإخْوَةٍ كُثْر، حَمَلْنا في دمِنا شغفَ القصائدِ وقراءتها، وإنْ كنَّا نتمادَى بشغفِنا أحيانًا لنحلُمَ كمُعظمِ الأطفالِ بمعاشرةِ تلكَ اللغةِ الأمِ، لنُنجبَ مِنها قصائدَ فريدةٍ من نوعِها.

كنّا أخْوَةً متشابهين، نحتسي القهوةَ أو نرتشفُها بحسبِ مِزاجِنا، نحمِلُ كالمجانينِ دفاتِرنا وقُصاصاتنا معَنَا، مُستغلّين أيَّ فُرصةٍ لنفتكَ بمنْ يُوحي باهتمامٍ صغيرٍ للاطِّلاعِ على كتاباتنا، وإنْ كان الاهتمام مُجاملةً فحسب. حاولنا أن نَظهَرَ ككُتّابنا المفضّلين، فقد حاكينا صوتَهم ومِشيتَهم وجُمَلَهم الفلسفية، وكانَ الانتماءُ إلى تلكَ الأخوَّية كافيًا لأنْ نشعرَ بوجعنا ونُحسَّ بمن يُشاركُنا وِحدَتَنا. 

لم تراودني فكرةُ تركِ هندسة الاتصالاتِ إلا بعدَ سنواتٍ من مغادرتي للبلاد، فقرّرتُ بعد تفكير طويل التخلّي عن هذا الحلم الذي لم يكن يومًا لي، والتنصُّلِ من مُلاحقة أيِّ عملٍ في هذا المجالِ، خصوصًا بعد أن هبّتْ رياحٌ تنبئُني بأنَّ طريقَ الكِتَابَةِ ما زالَ سالكًا أمامي، ولم تصادفني نهايته المسدودة بعد.

كنتُ ما أزالُ حتى بعد تنقُّلي بين بلدانٍ مختلفة أستمتعُ بأخوَّة الكُتَّابِ وعلاقاتي ببعضهم، بدلًا من آحاد المهندسين وأصفارهم، وكنتُ بقراري هذا قد غامرتُ بكل شيء أملكه ووضعتُ كلَّ أوراقي على طاولةِ المُراهناتِ في خانةِ الكِتابة، وعوَّلتُ على الفُتَاتِ التي قد تأتي منها دونَ أيِّ ضماناتٍ أمامَ مفاجآتِ الغَد.  

لم أتردّدْ للحظةٍ ولم أشكِّكَ في سَلامة قراري، فكنتُ متأكدًا بأنني لن أستطيع حَمْلَ هندسةِ الاتصالاتِ الثقيلة والإكمالِ بخفةٍ، ومع أنَّني لم أختبرْ صاعقةً سماويَّةً تَهديني إلى الطريق القويم، ولم أعْلَم بوجودِ قديسٍ يَرعى الكتَّابَ لأنادي باسمه متأملًا النجاةَ بنِعمتِه، إلَّا أنَّ ارتعادَ دواخِلي تجاهَ ما أنا مُقبلٌ عليه كانَ كافيًا للبقاء على ما قرَّرتُه.

كنتُ قد تعرَّفتُ قبلَ أخذي لقراري ذاك على عِدَّةِ كُتَّابٍ شَباب عملوا بمجالاتٍ بسيطة للتركيز على الكِتَّابة، واختارَ بعضُهم أعمالًا جُزئيَّةً تحميهم من الفقر فحسب، فلا تعوِّقهم وظيفةٌ تكبرُ كلَّ يومٍ لتحتَل في النهاية أحلامَهم وتخطِفهم منها. قلتُ لنفسي: “ما المانع من غسلِ الصحونِ ما دامَ ذلك يمنحني فراغًا كبيرًا أملأه بالكتابة، وخمَّنتُ بأنني سأرى في الصحون النظيفة انعكاساتٍ لقصصٍ جديدةٍ تملأ جسدي وروحي بالاكتِفاء”.

إذا كان عليَّ الاعتراف بسرِّ آخرَ ولا بد، فإن خوفًا كبيرًا تملّكني من أن ينتهي بي الأمر كأحد أصدقائي المقربين الذي تشاركتُ معه شغف الكتابة لسنوات طويلة، والذي رَكَنَ في يوم من الأيام قصيدَته على بابِ متاهةِ التكنولوجيا، ودلفَ فيها نصفَ راغبٍ ونصفَ مُرغم، وها أنا أنتظرُ خروجَه ممسكًا بِيَدِ قصيدتِه الخائفةِ من دونِه.

هل تعرفُ ما هي مشكلة المنفى؟ لا شيء أكثر من أنه مرآةٌ تُريكَ كلَّ ما لا تُريدُ رؤيته.

كنتُ أعرفُ صديقًا آخر، نذرَ نفسَهُ للشِعْرِ منذ بزوغ شبابه في مضافاتِ قريته. هاتفْتُهُ في أحدِ الأيام، لربما وَدَدْتُ ساعتَها مشاركتهُ آخرَ ما كتبتُه، أو لربما أردتُ الاستماع لأحدثِ أخبارِ الشارعِ الثقافي العربي، التي لا أتمكنُ من ملاحقتها بنفسي، فكان حضورهُ في حياتي نافذةً مهمةً تطلُّ على ما لا أراهُ من نوافذي المشغولة بمناظر أخرى.

لم أتلقَّ جوابًا على مُهاتفتي، إلا أنَّه أرسلَ لي فيما بعد رسالة يقول فيها بأنه مشغول بتعلُّمِ لغةً برمجيةً جديدة لحلِّ واجبه الجامعي!

لم تكن مفاجأةً بسيطةً أستطيعُ ابتلاعَ مرارتِهَا بسهولة، فرُحْتُ أمضَغُ وجعي يومًا بعد يوم، متأملًا في قراري بترك الهندسة في الوقت الذي يلاحقُها أبعدُ الناسِ عنها. فهل كنتُ ضالًا بينما يهتدي أصدقائي إلى الطريق الصحيح؟ كما أنني كنتُ أعتقد أن اكتئاب السويد سيقود صديقي إلى الجنون، فكيف يمكن لي توّقُعَ وصولِه جرّاءَ المعيشةِ هناك إلى لغةِ برمجةِ المواقعِ الإلكترونية!

في الجانب الآخر من العالم كنتُ أقابلُ شعراءَ بلغاتٍ مختلفة، لا أعرفُ إذا ما كانوا يُشاركونني عُقدَة أوديب بما يخصُّ لغاتهم الأم. فكانت المفارقة أنَّ أغلبهم كانوا مهندسين في مجال التكنولوجيا يعملون بدوامٍ كامل، ولا يدخّنونَ، وقد أقلَعَ من كانَ يُدخِّنُ منهم عن هذه العادة تبعًا لآخرِ صيحاتِ الصحةِ العالمية. يحتسي أغلبهُم القهوةَ الخالية من الكافيين. كان أغلبهم متزوجين يُخطّطون لإجازاتِهم ونشاطاتها الترفيهية أكثرَ من الاستجمام في فضاء القصيدة القادمة.

هل تعرف ما هي مشكلة المنفى؟ لا شيء، إلا أنه يجعلكَ تركضُ متلعثمَ الحروفِ لتأمينِ ثمنِ قبرٍ كريمٍ يأويكَ، فلا مدافنَ فسيحة لشعراءَ مُفلسين.

(ضفة ثالثة)