ينطلق كتاب «خطاب الرواية النسائية بالمغرب… نماذج تحليلية» تأليف الناقد المغربي الدكتور «حسن اليملاحي» من وعي نقدي يرى أن إبداعات المرأة تنتصر للاختلاف والخصوصية، وتتخذ كثيرا من التجليات من حيث المبنى والمعنى اللذين يجعلان منها كتابة مغايرة لها منطلقاتها وانشغالاتها ورهاناتها الجمالية، وتسعى الكاتبات من خلالها إلى الحديث عن قضاياهن وهمومهن والتأكيد على كينونتهن ووجودهن، بعيدا عن الصور النمطية التي يتم التركيز عليها في المجتمعات العربية التي تضع المرأة والإبداعات التي تصدر عنها في أطر تقليدية قاصرة.
ويقدم اليملاحي في الكتاب، الذي صدر حديثا عن مطبعة الخليج بمدينة «تطوان» المغربية، ثماني دراسات تحليلية لروايات «التوأم» و«انعتاق الرغبة» لفاتحة مرشيد، و«أغنية هادئة» لليلى سليماني، و«ورود تحترق» و«مدن الحلم والدم» لراضية العمري، و«قاعة الانتظار» للزهرة رميج، و«كأنها ظلة» لسعاد الناصر.
تقدم هذه الروايات، حسب المؤلف، نماذج نسائية بعضها إيجابي والآخر سلبي، لكنها في كل الأحوال تمسك بمسارات السرد، الذي تكون المرأة فيه في مركز أحداث الرواية، ففي رواية «مدن الحلم والدم»، مثلا، اختارت راضية العمري لمتنها السردي عنوانا يثير العديد من الأسئلة. ومن خلال قراءة العنوان وربطه بالنص، خلص اليملاحي إلى أن المقصود بالحلم هو رغبة الإنسان الدائمة بتجاوز مشكلات الواقع، فيما يرمز الدم إلى الإرهاب وأعمال العنف التي تطاله بفعل التعصب، وتهدد حقه في الاختلاف والحياة. أما عن لجوء الكاتبة لهذا العنوان الذي يزاوج فنيا بين الحلم والدم، «فلم يكن اعتباطيا، وإنما لتنبيه الجميع إلى ما بات يتهدد الإنسان من مصائر تنذر بالمجهول».
ومن هذا المنطلق تتابع رواية «مدن الحلم والدم» رحلة بطلتها زهرة صابر مع الفقر والتهميش الذي تعيشه برفقة أسرتها، واضطرارها لبيع الأعشاب في السوق كي تؤمن متطلبات الحياة، ثم هجرتها إلى برشلونة، وتعرفها على كمال الخمسيني الوسيم، ودخولها في علاقة حب معه، كادت تنتهي بالزواج لولا مقتله في هجوم إرهابي ضرب مدريد. وأمام هذه الفاجعة تقرر زهرة العودة إلى بلدتها بعد أن استبد بها الحنين إلى الوطن والأسرة، وخلال رحلة عودتها تتعرف إلى الدكتور سعيد المتقي الأستاذ الجامعي المثقف، ومع تعدد اللقاءات فيما بينهما يقرران الزواج لكنه أيضا يقتل في حادث مواجهة دامية بين طلبة اليسار والطلبة الأصوليين، فيما كان يسعى إلى التهدئة بينهما.
وتظهر دراسة اليملاحي أن الكاتبات اللواتي قام بتحليل رواياتهن يستلهمن ثيمة بالحب دائما، فيجعلنه يسيطر بمنعطفاته على الأجواء وحركة الشخصيات، ويستدعينه بغرض الاحتفاء به باعتباره قيمة مفقودة، وفي الوقت نفسه التأكيد على أهميته في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وما يمكن أن يقوم به من أدوار في تحقيق الاستقرار بين الأفراد والجماعات.
ويرى اليملاحي أن الروايات المذكورة تسعى لإلقاء الضوء على صورة المرأة المغربية في نظر المرأة الغربية، وتكشف عن الكيفية التي تنظر بها إليها، إضافة لصورة المرأة في عيون الرجل، وقد اعتمدت الروائيات عموماً تقنية التصوير السردي للكشف عن واقع وعقلية المجتمع الذكوري، كما سعت لاستجلاء أحاسيس ومشاعر الشخصيات، وذلك باستخدام الخطاب التاريخي تارة، والصوفي والرسائلي تارة أخرى، فضلا عن غيره من الخطابات الموازية، والتي تتنوع حسب الشخصية سواء كانت امرأة أو رجلا، وكذلك حسب مكانته الاجتماعية.
وفي رواية «التوأم» لفاتحة مرشيد، تعتمد الكاتبة على تقنية الحوار السردي، كاشفة عن عالمها ومواقفها وأفكارها وسماتها، وقد وظفت الحوار الصحفي، الذي أجرته الصحفية «رافاييلا» مع مراد بطل الرواية، وهو مخرج سينمائي يعيش على عواطفه بعيدا عن الواقع، وفيه يكشف عن تجربته ونجاحه في مجال السينما والمنغصات التي تواجهه، وقد زاد هذا التوظيف بأبعاده الفنية من رحابة السرد، وجعله منفتحا، وإلى جانب توظيف الحوار الصحفي، استدعت مرشيد من أجل خلق نوع من التنويع السردي، الخطاب العلمي المتمثل في النظرية الخاصة بعلم الأعصاب التي ترى أن الحب إفرازات هرمونية موطنه الدماغ لا القلب.
وعند تحليله رواية «كأنها ظلة» تأليف سعاد الناصر يلاحظ اليملاحي حضور الخطاب التاريخي المتمثل في بعض الأحداث التاريخية التي تستدعيها الرواية، أو ما شابهها من وقائع متنوعة، اقتضتها العملية السردية مثل معركة «أنوال» التي دارت أحداثها في الريف المغربي بين المغاربة والإسبان الذين لقوا هناك هزيمة مرة، كما تستدعي الساردة على لسان صديقة «أندلس» بطلة الرواية أحداث الثمانينات التي مر بها المغرب حينما طالب شبابه بالتراجع عن الغلاء الذي عصف بالقدرة الشرائية للمواطنين المغاربة، لكن هذه المطالب سرعان ما أدت إلى موجة من الاعتقالات والمحاكمات التي طالت فئات واسعة منهم.
ويقول اليملاحي إن الكاتبة لم تستفد فقط من وقائع تاريخية، بل استخدمت في كثير من مواقف الرواية خطابا صوفيا تجلى في كثير من أقوال وأفعال بطلتها «أندلس» وزوجها المعتقل «الطيب»، ويبدو أن سفرهما الروحي الموغل في الصوفية في اتجاه العرفان يسعى إلى تهذيب النفوس وتربيتها على الحق والارتقاء بسلوكاتها إلى مصاف كل ما هو إنساني، وقد جاءت دعوة أندلس إلى هذا السفر، والتي لا يخرج عن هذه الأهداف، في ظل سيادة أجواء الظلم والعدوانية والنفاق التي باتت تعصف بالإنسانية.
وأشار اليملاحي إلى أن الناصر تستدعي الخطاب الرسائلي في بنائها الروائي، وهو يمثل نوعا أدبيا له سماته وخصوصياته الفنية، وفي هذا الشأن تبرز رسالة المعتقل «الطيب» إلى زوجته «أندلس» التي يدعوها من خلالها إلى إنهاء علاقة زواجهما، لأنها من وجهة نظره لم تعد مجدية، ومن عدم الحكمة أن تظل تنتظره إلى حين خروجه من السجن. وهي رسالة تبدو في ثناياها طافحة بالمشاعر والبوح والانتظار واليأس، وينم استدعاؤها واستثمارها فنيا في الرواية عن وعي فني كبير بأهمية هذه الخطابات، ودورها في خدمة النص الروائي من حيث المعنى والمبنى، إلى جانب جعل النص السردي حقلا لأنواع من الخطابات التي تحفل بكثير من الأسئلة والإجابات.
أما رواية «أغنية هادئة» للكاتبة الفرنسية المغربية الأصل ليلى سليماني، فتتناول حكاية خادمة فرنسية تدعى«لويز» تعمل مربية أطفال لحساب عائلة «آل ماسي»، وهي سيدة تتمتع بكفاءة تربوية وإدارة ناجعة وفعالة لأمور البيت، لكن شخصيتها تتسم بكثير من الغموض، وهي تعاني من اكتئاب هذياني جعلها تقتل طفلي العائلة «آدم» و«ميلا» على الرغم من الحب الذي كانت تكنه لهما، وقد سعت سليماني من خلال متنها الروائي أن تعرض لمظهرين طبقيين من مظاهر الحياة في فرنسا، وتجعلهما على طرفي نقيض، يسعى كل طرف منهما إلى توجيه الأخر والهيمنة عليه من خلال ما يملكه من سلطة رمزية، ويمثل المظهر الأول مريم الزوجة المحامية التي تحلم وتراهن على الارتقاء في المجتمع عبر مهنة المحاماة، ومعها زوجها «بول» الذي يعمل في أحد الاستوديوهات الباريسية الشهيرة، ومع توالي الأيام والأحداث تشهد حياتهما بداية نجاح ملحوظ، وهو النجاح الذي ستدفع العائلة عليه ضريبة مقتل ولديهما «آدم» و«ميلا» على يد امرأة فاشلة في حياتها الأسرية والنفسية، تمثلها الخادمة «لويز» التي تحلم وتسعى هي الأخرى إلى الخروج من السوداوية التي تلازمها والمشاكل الكبيرة التي تتعرض لها.
*الشرق الأوسط