حكيم مرزوقي: النصوص الأدبية في المقررات المدرسية.. اغتيال للذائقة الفنية

0

لا اختلاف على أن المدرسة كانت المصنع الأول للمثقفين والمبدعين في العالم العربي، الذين تتلمذ أغلبهم في المدارس ومنها اطلعوا على عيون الأدب والفكر ليبدأوا لاحقا خارجها نحت مساراتهم الخاصة، لكن اليوم أصبحت المقررات المدرسة إما قديمة غير محيّنة أو فقيرة تهيمن عليها المحسوبيات وذائقة من يتحكمون فيها.

إذا ما استثنينا القلة القليلة من المحظوظين الذين نشأوا في بيئة ثقافية تشجع على القراءة والكتابة منذ الصغر، فإن غالبيتنا تعرفت إلى النص الأدبي من خلال الكتاب المدرسي، ومارست محاولة التعبير الكتابي من خلال مادة “الإنشاء الأدبي”.

هذه “الغالبية” التي نتحدث عنها تضم بدورها أقلية صارت فيما بعد من أهل القلم نقدا وكتابة في مختلف الأجناس الأدبية والفنية، أي أن الثقافة في البلاد العربية إنتاج مدرسي صرف من حيث نشوء الذائقة وتطورها.

مثقفو المدارس

بناء على هذا المعطى، فإن المسؤول الأول عن واقع المشهد الثقافي العربي هو تلك المناهج التعليمية والأنظمة التربوية التي أرستها “فئة من البيداغوجيين” تتحمل وزر ما نحن عليه من فساد الذائقة الأدبية بصفة عامة.

ترى، من تكون هذه الفئة، وما هي المعايير المعتمدة في اختيار النصوص وإدماجها في المقررات المدرسية؟ ما هو الثابت وما هو المتحول في تلك العملية التربوية التي أفرزت فيما بعد نخبا ثقافية من منتجي الأدب أو متلقيه؟

ولن يخاتل أحد من مثقفي العصر ويدعي أنه خارج منظومة بلاده الرسمية في المناهج التعليمية، ما عدا من أتيحت لهم فرصة التعلم في بلدان أوروبية وأميركية، وهم قلة لا تمثل القاعدة.

يبقى أنه لا بد من الإقرار بوجود فوارق في نوعية المقررات المدرسية واختلافها بحسب التوجهات السياسية والإستراتيجيات الاجتماعية التي يتوخاها هذا البلد أو ذاك، لكن التشابه كثير. والأكثر منه، في طبيعة وآلية عمل اللجان التي تعتمد بعض النصوص الأدبية دون غيرها.

لا يختلف اثنان في أن المحسوبيات والمفاضلات والمحاباة آفة تأكل وتخرب كل شيء وقد تسربت في وقت مبكر إلى المناهج التعليمية، وآثرت نصوصا لكتاب دون غيرهم فشوهت الذائقة في أحيان كثيرة، ولا تزال تفعل ذلك حتى بدعوى التجديد والتطوير.

عادت العودة المدرسية وعادت معها نفس عناوين النصوص الأدبية في المقررات المدرسية للناشئة، وتكرس التشويه الذي سوف يلحق خللا بالذائقة الثقافية والإنتاجات الإبداعية للأجيال القادمة.

لا شك أن مثقفي اليوم هم تلاميذ الأمس، كما أن تلاميذ اليوم هم في نسبة منهم مثقفو الغد.. وكيفما كانت مقرراتنا المدرسية باختياراتها الأدبية يُكتب لنا من أدب وفكر ونقد في مستقبلنا الثقافي كما نحن عليه الآن من إنتاج ثقافي شاركت المقررات المدرسية في صنعه.

كثيرة هي الندوات التي أقيمت فيما يخص هذا الموضوع على امتداد العالم العربي، والتي تبحث في المعايير المعتمدة في اختيار النصوص الأدبية سواء كانت باللغة العربية أم الأجنبية، لكنها ما زالت متخبطة بسبب سيطرة الأيديولوجيا والحسابات الضيقة كجزء من حالة فساد شمل كل شيء.

مسح سريع لواقع النصوص الأدبية في المقررات المدرسية ببلدان مثل الجزائر وسوريا ومصر وتونس يكشف لنا مدى سيطرة الحسابات الضيقة على حساب القيم الجمالية والفنية، مع بعض الاختلافات في بلدان اعتمدت مناهج أكثر مواكبة للعصر مثل الإمارات العربية المتحدة، وذلك بحكم التعددية الثقافية في البلد الذي يضم أكثر من مئتي جنسية.

لجان بلا ذائقة

منذ ما يقارب العام، وتحت عنوان “النصُّ الأدبي في الكتاب المدرسي في الجزائر: الحضور والأشكال”، أقام “مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية” بمدينة وهران، غرب الجزائر، ندوة علمية بمشاركة عدد من الباحثين والأكاديميّين الجزائريّين.

تندرج أشغال الندوة ضمن مشروع بحثي أطلقه المركز بعنوان “مدوّنةُ نصوص أدبية لفائدة معلّمي الكُتب المدرسية”، والذي تناول خلال سنتَين مسألةَ حضور النصوص الأدبية في الكتاب المدرسي للمرحلة الثانية، وقارَب محاولات التوفيق بين الغايات البيداغوجية التي يحتكم إليها معدّو الكُتب المدرسية مِن جهة، وبين الأبعاد الجمالية التي ترتبطُ بطبيعة النصّ الأدبي مِن جهة ثانية.

الحصيلة كانت أن الجزائر، وعلى الرغم من أنها تزخر بأسماء روائيين كبار وباللغتين العربية والفرنسية، فإنه قد وقع تغييب أغلبهم ليقع تفضيل بعضهم على بعض بحكم العقلية السائدة والمهيمنة في وضع المقررات المدرسية، بالإضافة إلى عقدة ثورة التحرير التي لم يقع تجاوزها إلى الآن.

أما في تونس فقد كان جيل العقود الأولى من دولة الاستقلال محظوظا في الاطلاع على نصوص أدبية آسرة ساهمت في بناء الذائقة قبل أن تبدأ مرحلة الانحدار وسيطرة الذائقة المشوهة في اختيار النصوص.

يعود الفضل في ذلك إلى رواد مؤسسين لوزارتي الثقافة والتربية من أمثال الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي، وغيرهما من الذين كانوا في الأصل كتابا مبدعين ثم أن التوجه السياسي العام كان ليبراليا منعتقا من الأيديولوجيا التي كان يمقتها الزعيم الحبيب بورقيبة، على عكس الرئيس جمال عبدالناصر ذي التوجه العروبي الصارم على الرغم من وجود أسماء مثل طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.

هذا التوجه العروبي الموغل في الأدلجة يبدو واضحا أكثر في بلدين مثل العراق وسوريا حيث هيمنت أسماء بعينها على الذائقة الأدبية مثل قصائد سليمان العيسى، الذي يعرف بـ”شاعر حزب البعث”، إذ هيمن حضوره وكأن لا شاعر غيره في هذا البلد الذي يزخر بأسماء أدبية مهمة.

وفي هذا الصدد، يقول الشاعر الفلسطيني المقيم في سوريا رائد وحش “بدت الكتب المدرسية في سوريا التي عرفتها في طفولتي ثورية، لكنَّ المفارقة العجيبة أن ذلك تحت سقف نظام متشدد”.

خلاصة القول أن عموم النصوص الأدبية التي يقع عليها الاختيار في المقررات المدرسية بالعالم العربي، لا ترتقي بالذائقة الفنية للناشئة بسبب غياب الذائقة عند لجان الاختيار نفسها، بالإضافة إلى حضور الأيديولوجيا على حساب القيمة الجمالية.

*العرب