محمود الوهب
كاتب سوري
مجلة أوراق العدد 12
قصص
-1-
مثقل جسمي بالدم واللزوجة.. محاصر، أنا، بأنين الجثث، والأشلاء.. مبعثرة أوصالي في غير مكان، أحاول لملمتها، أرغب إلى من يعينني.. أتلفت حولي، فلا أجد. أحدهم يركل رأسي بلؤم وقسوة، أتدحرج، رأسي متمرغاً بطين السوق ونفاياته! يعاودني الأمل في الصعود، تستحثني روحي، لا قدرة لي على الاستجابة! أتساءل في حَيْرة، وتشكك.. كيف هويت بعد أن ارتفعت؟! ولِمَ صار جسدي مزقاً تغرق في الأوحال، والمخلَّفات، والنتن..؟!”
-2-
تحدِّق بي الوجوه والأشياء، تمعن إليَّ.. تحيلني إلى حيِّنا الشعبي ذاته.. إلى صور كثيرة تتشابه.. رجال وأولاد، سيارات تُحَمَّل وأخرى تفرَّغ، عربات يقودها أولاد، وأخرى تجرُّها حيوانات، أصوات مختلفة تختلط، وتمتزج..! أياد تدفع وأخرى تقبض وتسجل! الكل منهمك في عمل ما..! بعضهم يتلذذ بقضم تفاحة، أو درَّاقة.. آخرون يمعنون إلى سمكة ضخمة، يرددون بإعجاب:
يا سبحان الله! جلَّ الخالق، وما خلق..! بائعو السمك يخرجونه من مائه، ليسلِّموه إلى السكين ذبحاً وسلخاً وتقطيعاً..!
-3-
هل أطلت الوقوف قبل أن أبوحَ بسرِّي، وأصرخَ صرختي، أيُحْسَبُ تمعُّني فيمن رأيتهم أمامي تشككاً وتلكؤاً..؟! أليس من حقي التأكد من حقيقة الموقع؟! فما رأيته لم يكن حاجزاً عسكرياً! ولا هو مقر لحزب علماني “كافر”، كذلك لم يكن مطعماً أو ماخوراً، يفسد خلق الشباب، ودينهم، كما كان الشيخ عبد الصمد يردد دائماً، ويحذر من ارتيادهما..!
إنه سوق.. سوق، يا ناس، سوق للسمك والخضار، سوق تضجُّ، بالحياة والناس..!
-4-
يناديني “الشيخ عبد الصمد.. يحذِّرني في شيء من التأنيب:
“لا تفتح نوافذ للشيطان، يا رضا، الشيطان، يا بني، يختبئ في السين والجيم، دعه غافلاً، لا توقظه! ثمَّ ما أدراك أنت؟! لعلَّ الله، جلَّ وعلا، يستعجل هؤلاء.. يريد لهم خلاصاً من شقاء حياة “كلها تعب!” ألا تراهم أمامك كم يرهقون أنفسهم..؟!”
– شيخي.. هذا.. هذا سوووق..!
“آفة المؤمن، يا ولدي، التردد.. الله وحده يدبِّر شؤون الناس في الدنيا والآخرة، “اصدع” بما أمرت، وتولَّ عن الريبة والتشكك.. لست، يا رضا، إلا عبداً مسيَّراً، فلتمض إلى مهمتك، سلِّم أمرك إلى رب العباد.. اصرف نظرك عما تراه.. حورياتك يستعجلن لقاءك! لا تجعلهنّ يمللن الانتظار..!”
-5-
لم يكن تسمُّري في المكان بإرادتي.. أنزلني أخي الشيخ الجبروني، وأوصاني باختيار المكان الأكثر كثافة.. هنأني إذ سبقت الإخوة جميعاً، ودعا لي بصعود ميمون، قال:
سيبارك الإخوة كلُّهم فعلك الكريم، يا رضا، وأوَّلُهم الشيخ عبد الصمد. إلى الجنة يا أخي، إلى الجنة.. جواز سفرك في جيبك.. الأمل أن نلحق بك قريباً.. يلوَّح لي، وهو يشغِّل دراجته، ويمضي..
وحيداً أبقى أمام الجموع.. أمعن إليها! تتسلق روحي الأجساد، تمسح الوجوه، تمدُّ شيئاً من دفء وحزن إلى عيون لا تني تروزني بريبة، وتوجس..!
-6-
نبهان، يا نبهان، أين أنت، يا ترب المسجد، واللذات؟! يبتسم لي، وجه نبهان، يجيبني عن سؤالي حول ماهية الحوريات، ولكن ليس قبل أن يعدَّ إبريق الشاي، ويطعِّم كأسينا بحبات بيضٍ تجعل للحديث نكهة خاصة..
يأخذ نبهان في الشرح عن نوع من نسوة صغيرات السنِّ، لا يكبرن أبداً، يتميزن بأناقة قد، وبهاءِ حُسْنٍ! جمال لا وجود له في دنيانا. يلحظ نبهان شغفي بالحديث، فيذهب إلى الاستزادة، يصف أجسادهن الليِّنة، يقول:
هي أجساد بلورية لدنة، بشرة وردية اللون ناعمة كأنها حرير بلدي.. (يرفع نظره إلى الأعلى، وينحدر به إلى عينيَّ) يتابع:
كيف تريدني، يا شيخ رضا، أن أصفها لك؟! هي مصابيح نور تتوهج، بياض مطعّم بحمرة خفيفة.. أرأيت الورد الجوري؟! ألمست أوراقه؟! أشممت عطره؟! هنَّ كل ذلك.. وجوه تحاكي بدر السماء، بل تتغلب عليه! ويضيف:
تلك الجميلات الصغيرات، يا شيخ رضا، إنِّما خصصن لمتعة الشهداء الذين يضحون بأنفسهم وهم يقاتلون الكفار، ولأجل حماية ديننا دين البشرية.. الجنة مراتب، يا رضا، يتصدرها الشهداء، ثم العابدون القانتون، وبعدئذ تأتي بقية المسلمين.. ولكلِّ من هؤلاء حورياته اللاتي يناسبن فعله في حياته الفانية!
-7-
تتفرسني العيون.. تفترسني.. رؤوس وقامات تقترب متوجسة، صياح وصراخ.. ركض وتحذير.. هواتف نقالة تلتصق بالآذان! وأفواه تلهج همساً بأمور غامضة! مجموعة من الرجال تتقدم نحوي، تطوقني.. أرتعد.. أكاد أنهار.. أستجمع ما لديَّ من قوة، يرتجف صوتي، ثم ينطلق صارخاً:
الله أكبر.. ومع ارتفاع صوتي، ودويّ حزامي الهائل، أراهُنَّ أمامي، أحلِّقُ إليهنَّ..! أراهن يتصايحن في مرح وابتهاج.. ألوِّح لهن بفرح:
قادم أنا.. قادم.. أقولها عامية: “جايي.. أنا جايي..” أرتفع أمتاراً، أمتاراً فقط، ثمَّ أهوي مبعثراً في أوحال كريهة.. روث دواب، وبقايا خضار تالفة.. زنخ سمك ونواتج.. يضيق صدري.. أختنق أو أكاد.. لا أرى حولي غير الجثث والأشلاء، الكل يسبح بالدم والأوجاع.. أحاول الارتقاء، تعجزني الجراح، وبعثرة الأشلاء.. ما الذي جرى لي؟! لِمَ لمْ أصعد؟!
ثانية أبحث عن نبهان.. أناديه.. لا أحد يجيبني، لا أحد يسمع صوتي سواي.. أمدُّ بصري إلى الأعلى، أبحث عن الصورة المنيرة إياها، صورة الله، وهالة الضياء من حوله، تلك التي تراءت لي في صدر السماء! الصورة التي واتتني ليلة استفاض الشيخ عبد الصمد في وصف بهاء الله وجلاله.. لا شيء أمامي غير السواد..
-8-
أعاني انغلاق جفنيَّ.. أتخبط في دمي والأوحال، أبحث عن منقذ.. ما أنا فيه قاس ومهلك، نبهان يا نبهان.. أين أنت الآن.. نبهان يمزج حبوبه البيضَ بكأسَيْ الشاي، يقول في مرح:
اشرب يا شيخ رضا، الآن يعتدل المزاج.. نرتشف الشاي معاً، تداعبنا النشوة، أميل، من نعش، إلى الخفة، يزداد حديث الحوريات حلاوة ومتعة.. يأتي نبهان على دلعهن.. بل على ارتمائهن عاريات في الأحضان، وعبثهن بما يجلب اللذات.. أشعر بعبء ما في حجري، تمتد يدي، تتحسس ذلك الموضع، ينتبه نبهان إلى حركتي العفوية، يبتسم، يحثني على اللعب:
العب، رضا، العب لا عليك..
لم أكنْ لأعلم شيئاً عن ذلك اللعب، يقترب نبهان يلتصق بي، يداعب ذلك الشيء.. يخرج ما عنده، يلعب.. نلعب معاً.. أغيب للحظات في عالم ممتع لم أعهده.. يندى سراويلي بمادة لزجة، أشعر بانتشاء وارتياح.. المادة اللزجة والخجل يشغلان بالي.. أغادر إلى البيت، وعلى مهل أتحسس بقايا المادة اللزجة، أتفحصها.. أعود أستشعر ما فعلته، أستحضر ما رواه نبهان.. أكرر العملية في الحمَّام، خارج إطار السراويل.. تصير راحة كفي والأصابع وأحاديث نبهان حورياتي.. (نهاني نبهان، فيما بعد، عن استخدام يدي اليمنى، قال: ذلك مكروه، لكنني ما انتهيت إذ وجدت صعوبة مع اليد اليسرى.).
-9-
“الولد صغير يا “رجَّال”، (تقول أمي) لا يعرف ما يقول، ولا يحسن أداء حركات الصلاة.. “أبي لا يتراجع.. يغضب، يعاند أمي.. يصرُّ على اصطحابي إلى المسجد، أنزعج أنا، أبدي تثاقلاً وتذمراً، يدفعني إلى الوضوء يؤكد لي مراحله..
“اغسل وجهك ويديك حتى المرفقين، تمضمض، امسح شعرك، وخلف أذنيك، لا تنس غسل قدميك! خلخل ما بين الأصابع!” يعود إلى زجر أمي:
“على الولد أن يعتاد المسجد والصلاة، أأدخل جهنَّم بك، وبابنك! يذكِّرها بحديث الرسول:
“مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر..” إنه شرع الله، يا فطوم، ألا نطبقه؟!” يتابع: أقول لك أم رضا:
– خلِّيك أنت في حالك، وأعذارك، لا أريد أن أذكِّرك بشهر رمضان المبارك، رمضان الذي، غالباً، ما تكسرين أيامه بحججك الواهية.. يا ويلك من الله! يا ويلك من حساب يوم عظيم!
(تصمت والدتي أمام نبرة أبي المرتفعة، وتذكيرها بتقصيرها، واستعانته بالشرع الذي لا رادَّ له، وترهيبها بالعذاب الأليم!).
-10-
جهنَّم.. لم أكن، في ذلك الوقت، قد سمعت بهذه الكلمة.. شرحت لي والدتي، لدى سؤالها، دون إخافتي، إذ طمأنتني بأننا، أمة محمد، كلنا في الجنة، وحكت لي أشياء كثيرة عن الجنة التي أجهلها أيضاً.. تخيلتها بستانّ جارِنا “الحاج عمران”، ملعبنا ومرتعنا، ما أطيب خضاره وفاكهته! نقطفها دون إذن من أحد. أخذت أضيف إلى ذلك البستان أشجاراً جديدة، أزرعها في هذا الركن أو ذاك، أستبدل بساقية الماء الصغيرة نهراً من الحليب المحلى بالسكر الناعم الأبيض، وآخر للعسل الأشقر المصفَّى كذاك الذي كان والدي يغمسه بالسمن البلدي ويتناوله لوحده قبيل ذهابه إلى صلاة الفجر. أستبدل بدجاجات البستان فتيات صغيرات، حوريات كالتي حدثني عنهن نبهان.. أرى نفسي ديكاً، أقف على تلة مرتفعة، أنظر إلى دجاجاتي الجميلات، أحار في أيهنَّ أختار..! فيأتين تباعاً، يأخذن من ريشاتي الملونات يتزينَّ بها.. يقوقئن حولي.. أصيح صيحة الفجر منتشياً..
-11-
أدخل مع والدي إلى المسجد، مزاجي لمّا يعتدل بعد، يقودني إلى صدر القاعة حيث الشيخ عبد الصمد، وصحبه، يرحبون بي:
ما شاء الله.. ما شاء الله.. قد بلغ السابعة، (يسأل بعضهم.. على عتبتها.. يجيب والدي، ويطلب مني أن أقبِّل يد الشيخ عبد الصمد..)
“بوس إيد شيخك” يا رضا، اكسب رضاه. يقول الشيخ عبد الصمد، ويده تصير في وجهي:
مرضي.. مَرْضِيٌ بإذن الله.. ما شاء الله.. اسم على مسمى..! رائحة عطر ثقيل تزكم أنفي.. أبتعد، تدفعني رغبة للتقيؤ.. يقهقه الشيخ، يربت على كتفي.. مبارك يا رضا.. حفظه الله.. يلتفت إلى والدي:
دعه إلى أترابه.. فأسرع إلى حيث الأطفال!
-12-
كان يوماً رائعاً ذلك الذي تقررت فيه عملية استشهادي، كنت في غاية الفرح، حتى إن مشهد الله الذي رأيته، قبل هذه المرة، في السماء، عاودني ليلتئذ.. أتاني في صورة الشيخ عبد الصمد. ورأيتني في الحلم ألوِّح له بيدي، فيمُدُّ لي الحزام ويبتسم.. أرى من حوله عشرات الصبايا، كلّهن بثياب رقيقة شفافة، يلوِّحْنَ لي، ألوِّح لهن، أنادي:
انتظرنني.. أصحو على صوت أمي يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يدها على جبيني.. تتمتم:
“خير يا بني لوين بدك تروح” أحار جواباً، أبتسم وأعود لنومي، ليزداد تصميمي على المضي مطمئناً..
-13-
أغوص في طين السوق ونفاياته، أتمرَّغ مزقاً وأشلاء! كل ما فيَّ يصرخ ويئن! ضجيج كثيف من حولي، بصعوبة أكاد أن أتبين بعض الأصوات اللعَّانة: “حيوان هذا، لا إنسان.. لا ضمير لديه، ولا أخلاق.. وَحْشٌ مَنْ يقتل الناس الأبرياء، وحش..!”
أرتعد من خوف، أبحث عن ملجأ، يأتيني صوت أمي، أسمعه يناشد أبي أن يرحم طفولتي، تحتد الأصوات في رأسي، ومن حولي، وتحتدم.. أقدام تخبط الأرض، يركلني أحدهم.. يبصق ويشتم، يتدحرج رأسي ثانية، يتمرغ أكثر فأكثر في الدم والأوحال! أشتهي كأس شاي من يد نبهان.. يمدُّ الشيخ عبد الصمد يده إلى وجهي، ألامسها بشفاهي! يتغلغل العطر الثقيل في أنفي ورئتي.. يلوِّح لي الشيخ الجبروني.. يكرر دعاءه:
“إلى الجنة يا شيخ رضا.. إلى الـ.. “
يمتزج العطر الثقيل بالروائح الكريهة إياها، يعتريني غثيان شديد.. لا أقوى على فعل شيء.. تغيم الدنيا في عينيَّ، وتنطفئ..!
غازي عينتاب/2017