حسين بن حمزة: مازن معروف.. ألف قصة وقصة!

0

في القصة الثانية التي تحمل عنوان “كروشّيه”، من مجموعته القصصية “كيومٍ مُشمس على دكّة الاحتياط” (دار نوفل ـ هاشيت أنطوان/ بيروت)، يكتب مازن معروف قصة، أو حكاية “سعدى”، التي تصنع بيديها دمى قماشية. سعدى لديها أخ يعاني من عمى الألوان، ثم من عمى كلّي. ولكن الحكاية ليست هنا، بل في جملة سحرية “يخترعها” المؤلف في سياق حكايته، وهي “أن سعدى، لفرط حبّها للكروشيه، كان بمقدورها أن تسحب خيطًا من أي ّ شيء. إن أرادت خيطًا أخضر تمد يدها إلى أقرب نبتة وتخرج منها خيطًا أخضر مطّاطًا. وإن أرادت خيطًا أبيض تتناوله من أقرب غيمة عابرة. أمّا إن كانت تحتاج إلى خيوط تبرق، فإنّها تنتظر الليل، فتهبط خيوط مطّاطية نحوها من النجوم”.

الحكاية تدور في تفاصيل أخرى، حيث يمتلئ بيت سعدى بدمى بلا عيون، لأن أخاها فقد بصره، وحيث أفكار وتصورات تولد من بعضها، وتُشعر القارئ بدهشة غريبة ترافقه طوال القصة. ولكن هذه الجملة السحرية في القصة ستظل ترافقنا في أغلب قصص المجموعة، وتتحول إلى أسلوب كامل وشخصي للكتابة تقريبًا، إذْ سيبدو لنا أن الكاتب نفسه، مثل بطلة قصته، في مقدوره أن “يسحب خيطًا من أي شيء”، كي يُكمل سياق أي قصة يكتبها أو يرويها. والفعل “يروي” هنا مناسبٌ أكثر لفعل الكتابة السردية في نصوص مازن معروف، فهو يروي ويحكي في نصوصه أكثر مما يكتب، أو لنقل إن الكتابة مدسوسة في سياقات الحكي. هذا أيضاَ فنٌّ آخر. أن تكتب وأن تزيل، في الوقت نفسه، كل أثر ممكن للكتابة التي قد تُبعد النص عن الحكاية العادية. لعلّ هذا هو السبب في أننا نكاد لا نشعر أن كتابة مازن معروف تنقلنا إلى لغة ثانية، إلى لغة فصيحة، أو إلى لغة تتطلب إنشاءات وخططًا لغوية وسردية لكي تُقنع القارئ بأنه يقرأ نصًا مكتوبًا لا حكاية مروية داخل الكتابة.

القصة، وقل ذلك عن الرواية أيضًا، تعني أن ثمة كتابة ثانية للأشياء والحكايات والأحداث والشخصيات. كتابة يتم فيها “تحسين” الواقع و”ترقيته”، وإعادة كتابته لكي يصبح فنًا، فنًا سرديًا وكتابيًا. لقد فعلت قصص وروايات كثيرة هذا، وهو فعل لا يزال مستمرًا في السرد العربي عمومًا، حيث اللغة أعلى من مستوى الواقع، وأحيانًا أعلى من مستوى مُدركات القارئ العادي ولغته ومحيطه، وحيث يشعر القارئ أن عليه أن يغادر مكانه وعالمه وواقعه لكي يذهب في رحلة مع رواية، أو قصة ما. في نصوص مازن معروف، لا يجد القارئ نفسه مضطرًا للمغادرة. فالمؤلف هنا يجلب له الرحلة إلى عالمه القريب، بل يشعر أن القصة تحدث، أو حدثت حوله وفي جواره، بل يمكن أن يصل به الأمر أن يشعر أن الكاتب يروي أو يحكي له القصة للتوّ. إلى هذه الدرجة تبدو قصص المجموعة بسيطة وغير معرّضة لتحسينات الكتابة واللغة والسرد. البساطة هذه هي سر كتابة مازن معروف. إنها أسلوبه وطريقته في الكتابة، وهي التي لفتت الانتباه إلى تجربته التي بدأت بقوة وجاذبية مع مجموعته الأولى “نكات للمسلحين” التي حصل بها على جائزة “الملتقى” للقصة القصيرة العربية في دورتها الأولى. إنها بساطة يشتغل عليها الكاتب كثيرًا لتبدو كذلك، أو لعله لا يشتغل بقدر ما ينتبه فقط إلى أن لا تفقد لغته هويتها الحكائية وجاذبيتها الكامنة في وصفة “السهل ـ الممتنع”. وهي وصفة نغامر بالقول إنها تُبقي لغة القصة في عالم طفولي يشبه أفكار الراوي الذي يروي أحداثًا حقيقية، أو متخيلة، من عالم طفولته. لا ننسى هنا أن الراوي في أغلب القصص هو طفل، وهو ما يجعل القصص نفسها مروية من زاوية نظره، ولا بد أن هذا يتطلب لغة فيها شيء من الطفولية والخيال الطفولي. وهو ما يوصلنا إلى وصف أكثر قربًا لكتابة مازن معروف، وهي أنها بسيطة، وطفولية، وغير مدّعية، ولا يُبذل فيها جهد تأليفي مصطنع أو مبالغ فيه لتفسير ما يحدث في القصص أو نتائجها. لغة مثل هذه لن يهتم صاحبها بالخلاصات والعبر والدروس.

الطفل أو الفتى أو الراوي ذو الذاكرة الطفولية يتقدم قليلًا في السن مع تتالي القصص. إنه موجود في جميعها تقريبًا. الحرب اللبنانية وعوالم مسلحي الأحياء وبدايات إعادة الإعمار موجودة أيضًا كخلفية وكبيئة للأحداث والحكايات التي تجري. الشخصيات نفسها قريبة دومًا من محيط الراوي. العائلة، الأب، الأم، الأقرباء، الجيران، الأولاد الذين يلعب معهم ويتعارك معهم. إنها بيئة قصصية مقفلة وضيقة عائدة للحرب التي قسمت المناطق والأحياء وفصلت بينها بخطوط تماس. وهو ما يفسر حركة السرد في منطقة ومحيط واحد ومتقارب، حيث الأحداث تدور وتتوالى وتتشابك ككتلة خيوط لا نعرف أحيانًا من أين بدأت ولا أين ستنتهي. بعض شخصيات القصص تتكرر وتنتقل من دون عوائق من قصة إلى قصة تالية. إنها كما قلنا لعبة المؤلف في سحب خيط من هنا ووصله بخيط من هناك، في نقل شخصية من قصة إلى قصة.
في فقرة قصصية بعنوان “أنزف داخل أمبولة”، يحكي الطفل الراوي كيف أنه في طريق العودة من المستوصف، حيث تم سحب عينة دم منه، خارت قواه، وكاد يُغمى عليه، فتقول له أمه: “قل أي شيء. المهم ألا تتوقف عن الكلام”. كان ذلك حيلة من الأم كي لا يفقد ابنها وعيه، ولكن المؤلف يحوّل ذلك إلى حدث جوهري، حين يقول: “هكذا كانت أول مرة أؤلف فيها قصصًا، وما زلتُ أفعل الأمر بالطريقة نفسها حتى يومنا هذا”. هكذا يصبح الراوي أشبه بماكينة لتوليد القصص، وكل قصة تتسرب إلى القصة التالية، في سردية أشبه بـ”ألف قصة وقصة” إذا استعرنا المعنى في كتاب “ألف ليلة وليلة” كمثال أصلي. في هذه اللعبة المدهشة، وفي طريقة السرد التي تظل طفلية وغير معرّضة لكتابة ثانية وواعية، تكمن قوة قصص مازن معروف وبراعته في جعل كل ذلك طريفًا وغرائبيًا ومدهشًا وقابلًا للتصديق أيضًا.

*ضفة ثالثة