حسين بن حمزة: كيف تصبح شاعراً؟

0

متى يصبح الشاعر شاعرًا؟ كيف يحصل على هذه التسمية؟ بمجرد كتابة أول قصيدة أم بنشر أول مجموعة شعرية أم بنشر العديد منها؟

أسئلة مثل هذه (قد) تبدو ساذجة، بحيث أنها لا تحتاج إلى إجابة، ولا تحتاج بالتالي إلى أن تُطرح أصلًا. ذلك لأن الشعر لا يُقاس بهذه الطريقة، وهو بالإضافة إلى صعوبة القياس، لا يدفع الشعراء أنفسهم إلى التشكيك باللقب أو التسمية: “الشاعر”. الشعراء يحصلون على ذلك كأنما بالبداهة ما أن يبدأوا بالكتابة، بل إن الغالبية – لاحقًا – لا تكتفي باللقب بمعناه المحايد والإجرائي، بل يحبّذ كل واحد منهم أن يكون شاعرًا متفردًا، ذا صوت خاص، مغرّدًا خارج السرب، صانعًا قطيعة مع ما سبق!!.. لكنّ نظرة أو قراءة متأنية بعض الشيء، يمكنها أن تُظهر أن هذه البداهة تحمل في داخلها إشكاليات عديدة لا تتعلق فقط بمبالغة الشعراء في تقدير أنفسهم وفي تقدير نصوصهم الشعرية، بل تتعلق أكثر بواقعية، وملموسية وأحقيّة الحصول على لقب “الشاعر” أو على لقب “الشاعر الجيد” بدقة أكثر.

ما يحدث في الشعر العربي، حاليًا ومنذ فترة ليست بالقصيرة، هو أن من يكتب ينضم بسرعة وبدون إذن أو بدون الحصول على جدارة ما إلى مجتمع الشعراء المؤلف أصلًا من “شعراء” دخلوا ويدخلون بالطريقة ذاتها إلى هذا المجتمع!

سابقًا، في منتصف القرن الماضي بالتحديد، كان الأمر أصعب قليلًا أو مختلفًا. كان البعض يحصل على الاعتراف بشعريته بنشر قصيدة في مجلة “الآداب” مثلًا، أو في مجلة “شعر”، ولاحقًا في مجلة “مواقف” أو في غيرها من المجلات، وحتى بعض الجرائد والملاحق الثقافية العربية التي اشتُهرت بالتخصص والتحكيم الجيد في نشر الشعر. وكان البعض يحصل على ذلك بنشر ديوانه في بيروت التي كانت عاصمة النشر العربي، ومختبرًا حيويًا للشعر وللكتابة عمومًا. بعض هؤلاء لم يكتفوا بذلك، بل تركوا بلدانهم وأمكنتهم صوب بيروت وعاشوا فيها ونشروا فيها و”صنعوا” أسماءهم فيها. وإذا احتجنا إلى أمثلة يمكن أن نذكر: أدونيس والماغوط في الخمسينيات، ثم سركون بولص في الستينيات، وسليم بركات في السبعينيات، وبعدهم أسماء كثيرة: محمود درويش، سعدي يوسف، أمجد ناصر، زكريا محمد.. إلخ.

لم تكن فكرة هؤلاء هي الحصول على الاعتراف فقط، بل محاولة نقل تجاربهم الشعرية إلى حيث يمكنها أن تنتمي فعلًا، إلى حفّ نصوصهم وتجاربهم وحساسيتهم في الكتابة بما اعتقدوا (محقّين) أنه الفضاء الملائم لحداثة الكتابة وتطور الكتابة حينذاك.

لقد تطور الشعر في أمكنة أخرى طبعًا، وظهر شعراء مهمون في بلدانهم، من دون الحاجة إلى البصمة البيروتية التي لا تزال – رغم التغيرات السلبية التي شهدتها المدينة في السنوات الأخيرة – تحتفظ بصيتها الذهبي وحضورها الخاص.

القصد من هذا المثال هو توسيع فكرة الحصول على الجدارة الشعرية، والسعي إليها. وقد ظهر ذلك في تصورات أخرى أهمها فكرة الانتماء إلى “جيل شعري”، المصطلح الذي استُبدل لاحقا بالانتماء إلى “حساسية شعرية” معينة، وهو مصطلح ضَمِن للشعراء أنفسهم الانتماء والتجاور مع أسماء وتجارب من بلدان وجغرافيات أخرى، من دون شرط وجودهم معًا.

داخل فكرة الأجيال والحساسية الشعرية، ظهرت أيضًا فكرة البيانات الشعرية التي كان هدفها إظهار اختلافٍ ما عن السائد أو إظهار طموحات إلى كتابة مستقبلية مختلفة. نتذكر في هذا السياق، على سبيل المثال، “بيان الحداثة” لأدونيس، ومقدمة ديوان “لن” لأنسي الحاج التي كانت بيانًا أول لقصيدة النثر، وبيان “شعر 69” الذي وقّعه أربعة من شعراء الستينيات في العراق.

فكرة “البيان الشعري” الذي على الأغلب كُتب على هدي “بيانات السريالية” التي نشرها أندريه بروتون في عشرينيات القرن الماضي، تشبه أيضًا فكرة الانتماء إلى جيل أو حساسية، وتعكس أيضًا فكرة الحصول على اعتراف، ليس بالشعرية فقط، بل اعتراف بشعرية مختلفة أيضًا.

بعد ذلك خرج الشعراء أنفسهم من إطار الجيل ومن الهويات الجماعية، باتجاه فردية شعرية طغت على كل شيء تقريبًا.

حسنًا.. إذا كان هذا صالحًا لوصف ومقاربة التجارب الشعرية السابقة، فما هي حال شعراء اليوم!. أين يجد الشاعر الشاب أو الجديد نفسه؟ إلى أي تصور شعري ينتمي؟ وكيف يحصل على الاعتراف؟ لا تبدو هذه الأسئلة صعبة، بل ربما لم يعُد ضروريًا أن تُطرح. الشعراء يصبحون شعراء بطريقة أسهل، وغالبًا بدون مجهود كاف، وبدون موهبة كافية أيضًا. لا يحتاج الشاعر إلى نشر ديوان أول لكي يصبح شاعرًا، ولا يحتاج إلى “جيل” ولا إلى “حساسية”. يحصل الشاعر على التسمية بمجرد أن ينشر نصوصًا (بغض النظر عن قيمتها) في الفيسبوك مثلًا. قد لا تكون نصوصًا أيضًا بل مجرد خواطر وإنشائيات ومحاكاة سهلة لما يُظن أنه شعر جيد ومُعترف به. في الفيسبوك لا يوجد محرر، ولا يوجد من يقول: نعتذر عن عدم النشر!

في السابق كان لدينا شعراء مكرّسون (بغضّ النظر عن صوابية التسمية) وشعراء شبان (أيضًا بغضّ النظر عن صوابية التسمية). كان لدينا شعراء جيدون وشعراء عاديون. كان لدينا تجريب شعري وبحث شعري وسعي شعري لامتلاك صوت مختلف أو نبرة خاصة. في المقابل، لا يبدو هذا واضحًا أو مفهومًا حاليًا. ليس القصد تثمين ماضٍ شعري على حساب الحاضر الشعري اليوم، ولكنها تساؤلات وإشارات إلى السهولة التي يعيشها الشعر الذي يُكتب اليوم. إشارات إلى التساهل الذي يحدث في تقييم التجارب والنصوص الشعرية، التي بدورها تكاد تصبح نصًا واحدًا يكتفي بشعرية الحياة اليومية وشعرية التفاصيل التي ظهرت نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي تبدو في طريقها إلى التحول (أو تحولت فعلًا) إلى قصيدة نمطية مناسبة لجميع المبتدئين.

في مشهد كهذا، لم تعد الذائقة الشعرية والنقدية تشتغل بالشكل المطلوب، ولم يعد مفهوم “الأقلية” أو “الفردية” مقدّرًا في الشعر. الأقلية تراجعت إلى الصف الخلفي، بينما اجتاحت الأكثرية الصفوف الأولى.
داخل هذه النمطية نشأت نمطية أخرى، تتمثل في أن الشاعر لم يعد يحتاج إلى اعتراف سوى من نفسه تقريبًا. بل أكثر من ذلك، لم يعد يرضى أي شاعر، موهوب أو غير موهوب، بأقل من أنه “صوت خاص” و”تجربة فريدة” من نوعها. الشعراء أنفسهم يصفون بعضهم البعض بهذه الطريقة، ويكتبون عن بعضهم بهذه الطريقة، إلى درجة أن أي فحص أو سؤال عن ذلك سيبدو ساذجًا ومستغربًا، كما هي الأسئلة التي بدأنا بها هذا المقال!

الجميع يغرّدون خارج السّرب. ولا أحد يسأل: أين هو السّرب نفسه، طالما أن الجميع يغرّدون خارجه!!.

(ضفة ثالثة)