حسن عبد القادر: رسائل في الفضاء!

0

القرن الحادي والعشرون وما زلنا مختلفين على كروية الأرض أم تسطحها، المشكلة أنني لا أعرف ما إذا كانت الرسائل تسير بخط مستقيم، أم دائري؟ فالحروف التي تكتب على الورق تكتب بخط مستقيم كأنها تشبه خط صديقي البريطانيّ الذي لم أسمع صوته منذ مدة. كنت كلما كتبت له، كانت تعود الرسالة فارغة.
عزيزي:
الحياة هنا تشبه رغيف الخبز الذي يلهث الجميع خلفه؛ حياةٌ دائرية مثل خبزنا ولا تشبه خبزكم المستطيل، الموت هنا أيضاً أصبح أمنية الكثيرين فعندكم ينتحر الناس بطراً من الحياة، وهنا يتمنون الموت زهداً بها؛ زهداً من فقرها وعنائها وحتى من خبزها. كنت كلما حاولت أن أعرف الحد الفاصل بيننا، كنتُ أجده جداراً إسمنتياً وخلفه أناس مدجّجون بالسلاح يمنعون دخولنا خوفاً على مصالحهم منا؛ هم مثل غيرهم يسرقون رغيفنا وحياتنا مثلما كنا نسرق الطبشور في المدرسة، كلما نسي الأستاذ الطبشورة على السبورة كنا نتسابق لسرقتها؛ فمنّا من يدوسها كي لا يأخذها غيره، ومنّا من يحتفظ بها وكأنها وسامٌ يجب أن لا نفرّط به.
الشهادة الجامعية هنا يا عزيزي لا تساوي أحذيتهم، بل إن قتلك أهون من شراء ملمع لها. عمرك الضائع، من سرقة الطباشير حتى وصلت لتركها على اللوح ليسرقها طلابك الجدد، كلها أحلام ضاعت في ذاك الفراغ، فراغك العاطفي والفكري والتربوي، وفراغك المداس بين الطباشير المداسة سابقاً. أتعرف يا صديقي أنّ أحدهم قال لي مرّةً إننا لو قارنا عيش حيواناتهم مع حياتنا فستغلب حتماً حيواناتهم، وأطلق ضحكته في -الفضاء مثل رسائلي هذه – مستهزئاً بكل الأوغاد الذين رأيناهم سابقاً في الحياة التي سبقت حياتنا.
الحياة يا صديقي ليست فكراً هنا أو ثقافة أو غيرها مما كنا نسمع عنه، الحياة هنا أمران اثنان لا ثالث لهما: رغيف خبز تفكر فيه قبل نومك، ورغيف تبحث عنه عند استيقاظك، ولن تحصل عليه لا لشيء سوى لأنك هنا. هنا طفل يسأل أباه عن كل شيء يراه ويطلبه عبثاً، ومن ثم يكمل طريقه دون شيء إلا الدموع؛ هنا امرأةٌ تقلب صور الراحلين صورة صورة فتبكي تارة وتضحك أخرى فتنزل دموعها فرحاً، ففي الحالتين تبكي بحرقة على نفسها ربما! الرصاص هنا يعرف طريقه جيداً إلى الصدور العارية، ويعرف أيضاً كيف يستقر بها. هنا الصراخ والعويل والقهر والموت وهنا كل شيء إلا الحياة والبقاء؛ فالبقاء هنا محكمة بالإعدام قد أجلت. البقاء هنا سكوت يتبعه سكوت يتبعه آخر، البقاء هنا بحث عن فرصة للنجاة من الغرق للغرق في البحر أو القتل على الجدار.
البقاء هنا يا صديقي أحلام كبيرة قصفتها طائرة محملة بالسارين فقتلتها جميعاً، أو شوهتها ولم نعد نميزها. وعلى ذِكر التمييز يا صديقي، فإنّه هنا موجود في رأس الصفحة من أين أنت، وإلى أين، ومع من؟ التمييز هنا يشمل كل شيء حتى اسمك.
نسيت أن أخبرك باسمي لأن ذاكرتي مسحته منذ أن قررت البقاء هنا. البقاء على قيد شيء يدعى الحياة لكنها ماتت منذ أن غادر الجميع وبقيت أنا…

*القدس العرببي