يتطرق الشاعر السوري ”وفائي ليلا“ إلى الأبوية المجتمعية الممارسة ضد الإنسان العربي، وسلطة الآخر على الإنسان، وكذلك سطو الأحداث الكارثية على المرء، وعلى المجتمع، مثل الحرب، من خلال لغة شعرية ناقدة، في مجموعته ”قامة قصيرة لمعطف طويل“ الصادرة عن دار مرايا للنشر والتوزيع 2021.
وتكشف مجموعة ”ليلا“ عن كم الإحباط الذي يعيشه الإنسان السوري، كنتيجة للواقع الذي يمر به السوريون في الوطن وفي الشتات، تبعا لمخلفات الحرب الطويلة، كما تتجسد في أجزاء كبيرة من قصائده التقاطات ذكية بطابع نقدي ساخر، يتهكم على موروثات الواقع السوري. وتحمل المجموعة كذلك جانبا توثيقيا للجريمة ضد الإنسان السوري جراء الحرب.
ويعود ”ليلا“ المغترب بوعيه إلى بيئة وطنه، ناقلا جزءا جوهريا يمس أزمة التنشئة العربية للبنين والبنات، منتقدا النظام الأبوي في شتى مجالات الحياة، وهو نفسه ما يحيل إلى حالة القمع التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية ضد الإنسان العربي.
ويوغل الشاعر في ذكريات النشأة والشباب، التي أحالها إلى مقاطع شعرية، وصور فنية نابضة، من خلال معالجة فنية جذابة، استطاعت تحقيق الصعقة الشعرية، بما تحيل إليه من تفكيك لتركيب الوعي، بهدف تغيير المسار. وتتحقق في شعرية ”ليلا“ أدوات صوتية أكثر إقناعا من دوي الرصاص، الذي تنصل الشاعر من اقتنائه وأبدله باللغة: ”أكتب لأنني لا أملك مسدسا“.
وقد غلب على جمله الشعرية ضمير الأنا المتكلم، كتجسيد لمدى قرب الحالة من تجربته. وامتدت قصائد ”وفائي ليلا“ على طول 180 صفحة من القطع المتوسط.
مغادرة الصناديق
فيما يعمد ”ليلا“ إلى تقديم ثيمات شعرية حداثية خارجة عن المألوف، بلغة مكثفة، وجمل مترابطة، كما تتسم قصيدته بالجرأة والمكاشفة من حيث الألفاظ والأفكار، وطريقة التناول الساخرة، وكذلك دمجه لبعض الكلمات الممنوعة في السياق الأدبي، عبر الكلاسيكية العربية.
قصائد الشاعر السوري دعت إلى مقاطعة الإرث الاجتماعي، ومغادرة الصناديق الجاهزة، إلى براح فكري، خارج عن الرقابة الذاتية، والاجتماعية، ما يكفل رؤية جديدة للواقع العربي، وارتكزت شعريته على ”علاقات مغايرة بين المفردة والمفردة. وعلى المستوى اللغوي، تحققت علاقات جديدة بين اللغة والعالم، اللغة والشاعر، وكذلك الشاعر والعالم“، بحسب ما عرّف الشاعر والناقد العربي أدونيس، الحداثة الشعرية.
مشاهد مواراة
وبدا ”وفائي ليلا“ دائم البحث والاستقصاء عن مشاهد المواراة في المجتمع العربي والسوري، فعلى طول الطريق كانت قصيدته ملاصقة للألم، والجرح الغائر في الذات العربية، فذهب إلى الإنسان الممسوح، المجرد من هويته المتوقعة، ورسم إطارا صارخا لما يجب أن تكون عليه هوية الإنسان، بأفكار تلمع في الذهن دون كتابتها، لكنه التلميح الذي استخدمه من خلال التلاعب باللغة، وطريقة طرح القضية، المعتمدة على خبرة طويلة، وأدوات تجديدية مقنعة.
يكتب الشاعر مستحضرا الإنسان الملغي، الممسوح من المشهد:
”وحدهُ أنا
أقف أمام المرآة
ولا أراني
رغم عينيّ الممسوحتين جيدًا
حتى آخرِ النصاعة“.
تدريج
فيما ينقل الشاعر بؤس الإنسان في مواجهة القمع الاجتماعي، ويجسد العملية التدريجية التي يخضع من خلالها المرء للنمط الاجتماعي، وما يصنعه الآخرون من قناعات تجاهه، محددا المراحل السنية التي يبني فيها المجتمع الفرد الضعيف، ومن ثم يهدمه، ويحطم هويته الذاتية، ويحيله إلى دمية للعب والتقطيع.
يكتب ليلا:
”في السابعة كنت أُتقن الرقص
كان أبي يدعو كلّ أصدقائه كي يروني
يصفق بحماس لي
يخفف من وقع اسمي
فيختصره
الجميع كان منتشيا وقتها
الجميع كان يشاركه الشغف
حين كبرت
قطعوا لي قدمي
نفس الرجل صار ينهرني بقسوة
نفس الوجوه،
صارت تنكرني بعنف
يخفيني أبعد كلما تسنى له
يمحوني
كلما ذكّروه اسمي الأول
كنت محط إعجاب الكلّ
صرت محط شكوكهم
والاتهام.
عرفت وقتها
أن الكبار ”أطفال حمقى“
يحبون الدمى في البداية
كي يكسروها أخيرا
ودون رحمة“.
كوادر متحركة
وتميزت التقاطات ”ليلا“ بامتلاكها أدوات لغوية سينمائية، إذ استطاعت تحريك الكادر الشعري حول الحدث المأساوي، بحيث يلفت الانتباه إلى عناصر معينة، هي المقصودة في الطرح. فكانت الحرب مادة خاماً لصناعته الشعرية، يعتم ويضيء على العنصر بدراية، صانعا المفارقة الفنية المومضة، والمحاكية للذهن.
يقول الشاعر:
”وقد كنت أود أن أعيش
قبل أن تقاطع حياتي برصاصة
قبل أن ترمي على سقف بيتي القنبلة
قبل أن ينفجر الصاعق الذي أخذ أصابعي
ونثر على جسدي ثقوب نمشه
كنت أود أن أتجاوز الحاجز الذي نصبته ككمين
الحاجز الذي أخذ ”الصبي“ منّي
وأعاد إليّ الراشد
قتيلاً“.
انهيار بطيء
ويكشف ليلا في قصيدته عن كم العجز عند الإنسان العربي في مواجهة عجلة الزمن الرتيبة في الواقع العربي، وسلطتها السيئة الممارسة على العائلة العربية بأسرها، حيث يصدر مشاهد حيوية من حياة العائلة العربية، مقدما جزئيات لا تخلو من الغصة، لمصير أفراد العائلة، وطريقة الانهيار البطيء، كنتيجة لدفع الأحداث على كاهل كل واحد منهم، ما بين المرض والحروب والفقر. ويقتص الشاعر الكوادر السوداوية في الحياة، ليدلل على سوء الإخراج الذي يؤول إليه الفيلم الذي نمر من خلاله إلى الحياة، بفعل الواقع.
يكتب ليلا في قصيدة ”فيلم“:
”كان فيلما فاشلا
أبي الذي كان يشبه عمر الشريف
وأمي التي كانت تشبه شادية
خانتهما الحياة في فيلم طويل
كان واقعيا أكثر من اللازم
أبي افترسه سرطان سريع
وأمي
أقعدتها الحرب
جرحت صوتها رصاصة
خدشت روحها شظية
كان فيلما لطيفا أيضا
مثلنا فيه أدوارا قصيرة
لم يتسنَّ لنا فيها أن نعيد المشهد
أو نتدرب كي نتفادى السقوط
كان فيلما سخيفا كذلك
اضطر المخرج فيه لتحطيم كل شيء
كي ينجز المشهد الأخير
كان عملا رهيبا بالنهاية، وغير متوقع
لنهاية كنا ظنناها رتيبة
كما الأفلام“.
*إرم