حسام عتّال: سكين الجيب

0

–  هل تحمل سكين جيب في حقيبة الظهر؟ سألني المفتش في مطار اسطنبول.

–  أوووه… نعم أظن ذلك، آسف نسيت أن أضعها في شنطة السفر المودعة داخل الطائرة. تمتمت ضارباً جبيني من غفلتي. 

–  لا يمكنك أخذها في الطيارة.

–  أعرف ذلك…

هذه، أعتقد، أنها السكين الخامسة عشرة التي صودرت مني في المطارات بسبب شرود ذهني المزمن، ولإصراري على حمل سكين الجيب دوماً.  يعتبر البعض في سكين الجيب أنها سلاح للقتال أو الدفاع عن النفس، وينفرون منها إن لم يرهبوها بالكامل، مع أنها نادرة التوظيف كوسيلة للعنف. أتفهم ذلك الشعور لأنها، لغير المطلّع، تبدو غريبة وحشية في اليد، من معدن بارد حاد الطرف مقارنة بأنس جلد ولحم الإنسان الطري الدافئ. لكن مع الثقة بها تصبح السكين أليفة كالرفيق. هي بسيطة التركيب من نصل حاد الطرف، ومسكة يد، وطريقتين واحدة للفتح وأخرى للقفل. إختلاف مواد النصل واليد وإختلاف التصاميم أنتج الآف الأنواع من سكاكين الجيب لا مجال للبحث فيها اليوم. تلك البساطة جعلتها أهم أدوات الاستعمال اليومي، إن اعتبرنا الحجارة المصقولة الحدّ نوعاً من أنواع السكاكين، فربما هي من أقدم الأدوات المستخدمة (حتى قبل الهوموساپيان). استخدامها لا يتوقف عند تقشير برتقالة أو تقطيع تفاحة. فبها يمكن تشذيب ذلك الخيط النشاز من الكنزة أو المعطف، أو بسهولة بتر ملصقات الملابس المخاطة استراتيجياً خلف الرقبة (وكأنها وضعت خصيصاً لإصدار أكثر ما يمكن من الاحتكاك المزعج). وهي تساعد علي تقصير زنار البنطال، أو ثقب فتحة أخرى له. في المطعم يمكن بها تقطيع قطعة اللحم بسهولة بدلاً عن المعاناة مع سكين المطعم التي بالكاد يمكنها قطع قالب الزبدة. عند السير في الطبيعة أو التخييم في الجبل أو على شاطئ البحر تزداد الحاجة إليها باضطراد: من قص الحبال وتخليصها من العقد العنيد، إلى حفر قطع الخشب وتحويلها إلى أوتاد أو عصي للمشي، أو صقلها لتصبح أي أداة مفيدة (فقط ببعض الممارسة وشئ من التخيل خارج حفر أولى حروف الحبيبة على جذوع الشجر). وعلينا أن لا ننسى تنظيف السمك المصاد. إسعافياً يمكن لها أيضاً أن تمزق الثياب بنظافة للكشف عن الجروح ثم شق ضماد لها، أو صنع جبيرة قماشية لتثبيت المفصل الملتوي. وفي ظروف استثنائية قد تكون الأداة الوحيدة المتوفرة لقطع حزام الأمان العالق في حالات حوادث السيارة لتخليص المصاب داخلها. 

فوق كل شئ هي أداة قد تستدعي ذكريات طريفة. مثلاً، في إحدى المسيرات في أيام الصيف الحارة مررت على منخفض (sinkhole) في إحدى أنهار أوريغون القريبة من غابة أشجار الحمر العملاقة. كنت تعباً أتصبب عرقاً وبدا لي القفز في ذلك المخفض والسباحة بمياهه المنعشة حاجة إجبارية. لكن كان هناك صبيتان تسبحان فيها، فالقفز عارياً كان خارج نطاق المقبول. قطعت بنطالي بسكين الجيب، فتحوَّل في لحظات قصيرة من بنطال مشي لشورت سباحة… كم كانت منعشة مياه ذاك النهر!

سكين الجيب يمكن لها أيضاً أن تعوض عن عدة أدوات كالمقص ومفك البراغي وحتى المنشار، وبشئ من المهارة تمسي آلة حلاقة (جرّبها على نفقتك). وفي أيامنا هذه حيث يأتي جُلّ مشترياتنا بالبريد، أجد أنه لا غنى عن سكين الجيب لفتح العلب الكرتونية ثم في الخطوة التالية الأهم، تخليص المشتريات من اللفافات البلاستيكية المستحيلة الفكّ بدونها (ما يسمى بclamshell packaging ).

ليس لدي كثير من الندم على معظم السكاكين التي صودرت مني، لكن بعضاً منها أسفت عليه. أذكر تلك السكين من نوع “رون ستيوارت” التي اشتريتها من مزاد أقامه ورثة رجل مُسنّ توفي. كان الرجل يعمل في قطارات سكك الحديد القديمة، ولديه مئات الصور للقطارات التي كان يخدّمها. الصور المطبوعة بالأبيض والأسود منذ عشرينات القرن الماضي كانت مرفقة بشرح مكتوب خلفها بقلم حبر أزرق عن حالة القطارات التقنية والتجارية والموقعية (هذا قطار جونسن ملڤيل ام ل دبليو ٣٩٣، يقوده ستانلي ومعه المهندس جوزيف، يحمّل ٢٣ قاطرة من الذرة في طريقه من كانساس سيتي إلى شيكاغو). كان يستخدم تلك السكين في حفر الأرقام على ماكينات القطارات المعدنية، مئات القطارات علّمت بنصل تلك السكين. خسرتها عندما أخِذت مني في مطار جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا. 

وهناك السكين المصنوعة من الفولاذ الدمشقي ذات اليد المحفورة من قرن ثور مات في حلبة صراع الثيران، حسب رواية صانعها في توليدو باسبانيا. ادعى أنه تعلَّم صنع سكاكين الفولاذ الدمشقي (يسمونه هناك فولاذ توليدو) من جدوده الذين بدورهم تعلموه من (أو كانوا من) الدمشقيين الذين استوطنوا الأندلس. كان قصير القامة أشبه منه بالجنرال فرانكو عن أمراء دمشق. كانت عقدة فرانكو النفسية قصر قامته الشديد، مما يعزز المقولة السائدة أن كل دكتاتور هو كذلك لعقدة ما في شخصيته (ماذا عن پوتين اليوم؟). صودرت تلك السكين مني وأنا في طريق العودة من هاڤانا (كان ذلك في رحلة تبادل ثقافي/فوتوغرافي قبل انفتاح كوبا على الولايات المتحدة في عهد أوباما). ضابطة الأمن التي صادرتها كانت ممشوقة القوام منحوتة الخصر، تميل للسمرة، عيناها عسليتان وذات أنف أشم وشعر فليل فاحم. بدت لي بحسنها أكثر دمشقية من صانع السكين نفسه. من يدري فربما كانت من سلالة الأندلسيين الإسبان الذين استوطنوا هذه الجزيرة في أواخر القرن الخامس عشر بادئين عهداً جديداً من الاستعمار الذي امتد من هناك ليشمل الأمريكتين. أردتُ إخبارها بقصة صانع السكين ودعواه، لكن عائق اللغة (وفتوني بمليحها) منعا لساني عن البيان. عندما أخرجَتْ السكين من شنطة الظهر٫ ماسكة إياها بين الإبهام و السبابة وكأنها ساحر استخرج أرنباً من قبعة، نظرت إلي بابتسامة الظافر قائلة: آسفة ولكن الإدارة الأميركية لا تسمح بهذه على الطائرة! قالتها بلهجة وكأنها بذلك ردّت إعتبار بلدها الذي عانى طويلاً من المقاطعة الأميركية وتدخلها المستمر بشؤون جزيرتها. بعدها اسقطتها في صندوق زجاجي ملئ بالسكاكين المختلفة الأشكال والألوان والتركيب، بدا وكأنه ترسانة حربية من مخلفات قبائل العصور الوسطى. كل سكين فيه لها قصتها الخاصة: في ترحالها، بين الأيدي التي تداولتها، وفي استخداماتها الوافرة… حتى انتهت لمستقر هادئ في جزيرة كاريبية بين جمع من أخواتها، كبيرها وصغيرها،  اللامع منها والصد، في ذلك الصندوق الزجاجي القابع في قاعة المغادرة من مطار كوبا الدولي.

*خاص بالموقع