حسام عتال: خُصَى السيارات

0

أخضر… أصفر… أسرعت سيارة الپيكاپ أمامي
محاولةً النفاذ عبر التقاطع قبل تحوّل
إشارة المرور للأحمر. أساء سائقها الشاب
تقدير المسافة والزمن. ضرب فراماً عنيداً
فتوقفت السيارة بعد أن صاحت العجلات على
الاسفلت الساخن، والخصيتان الحديديتان
المعلقتان تحت المَصدّ الخلفي تأرجحتا
بعنف يمنة ويسرة. البيكاب أحمر، موديل
فورد ف ١٥٠، يبدو من أوائل التسعينيات،
صدئ الجوانب، مرتفع فوق دواليب عريضة
خاصة بالطرق الوعرة، مصباحه الأمامي
الأيسر مكسور وفي صندوقه الخلفي علبة
“عدة” فضية. ضجة محركه صامّة للأذن، لا بد
أنه ٨ سلندر (على الأقل) وربما معزَّز
بتعديلات تزيد من قوته. في كابينه جلس
الشاب موشوم الساعد، بجانبه صديقته
الشقراء الجميلة الملامح، ترتدي تي شيرت
أبيض بدون أكمام، يظهر وسمها الخاص على
كتفها.

الخُصى الحديدية المعلقة تحت الپيكابات،
في الخلف، شائعة بين مالكيها ممن يسمَّون
بذوي الرقاب الحمراء (red necks). وهو وصف
استخدم بمعاني عدة مع الوقت، ولكنه الآن
استقر كتعبير استخفافي يستخدم عموماً
كإهانة. سُمّوا كذلك لأن غالبيتهم من
العمال الذين يشتغلون خارجاً، كعمال
البناء مثلاً، فتحمرّ رقابهم ويقسو
جلدها بسبب تعرضهم المتواصل للشمس. هم من
ذوي الدخل المنخفض أو المتوسط. يمارسون
الرياضات البانية للعضلات فيبدون أقوياء
الجسد عريضي الأكتاف. يقتنون أنواع
الأسلحة الفردية ويرتادون حقول الرماية
للتدريب. يستمتعون بصيد طرائد البرّ،
فموسم الصيد مقدس لديهم. وكذلك يحبون
اقتناء قوارب صيد النهر والبحر، وركوب
الدراجات النارية الرياضية، والتخييم في
المناطق الطبيعية. نساؤهم عادة من
الشقراوات الرشيقات، فهم بارعون أيضاً
في صيد الحسناوات. بطبيعتهم هم محافظون
على العادات التقليدية، فالعائلة ما
زالت هي نواة حياتهم الاجتماعية، تتلوها
الكنيسة. هذا لا يمنعهم من إقامة
العلاقات العاطفية أو الجنسية العابرة،
فهي شائعة بينهم ويفخرون بها كنوع من
الرجولة. في نظامهم الاجتماعي ما زال
الرجل مسيطراً وصاحب الكلمة. نساؤهم
يظهرن أنوثتهن بثيابهنّ المغرية
(الصغيرة جداً في كثير من الأحيان)،
وبطريقة تعاملهن الودي الرومانسي مع
رجالهنّ.

هم ناشطون سياسياً ويظهرون العداوة
الصريحة لليبرالية الحديثة، ويعارضون
التغيير في البنية الاجتماعية
التقليدية. لهم وزن يحسب حسابه في
الانتخابات؛ في السابق كانوا من اتباع
الحزب الديمقراطي، لكن بعد تخلي هذا
الحزب عن قاعدته العمالية، المتمثلة
بالنقابات وصغار الكسبة، اتجه معظمهم
إلى الحزب الجمهوري الذي يتمتع بشعبية
مسيطرة بينهم هذه الأيام.

وهناك شأن آخر يجمعهم وهو حبهم لپوتين،
ودعمهم لحربه على جارته أوكرانيا.

في المنطقة التي أقيمُ بها، لو دخل پوتين
بانتخابات حرة ضد بايدين لفاز بنسبة
عالية. هذا ليس استثنائياً، فپوتين له
شعبية لا يستهان بها في أمريكا بين
جماعات تتأرجح بين أقصى اليسار وأقصى
اليمين، ولكنها في غالبها بين المحافظين.
أكبر وأقوى محطة إخبارية أمريكية (فوكس
نيوز) تميل لبوتين وتهلل لحربه ضد
أوكرانيا. حتى أن پوتين يستخدم برامج
فوكس نيوز في دعايته للحرب لدى شعبه.

لا غرابة في ميل ذوي الرقاب الحمراء
لپوتين فهو، أيضاً، يُعرَف باهتمامه
بلياقته الجسدية، وهو يحب نشر صور يظهر
فيها بمظهر الرجل الفحل المفتول
العضلات، ويحب إظهار سيطرته الرجولية
عندما يستضيف رؤوساء دول، فيدعهم
ينتظرونه ساعات قبل أن يقابلهم،
وأحياناً يجلس ويتكلم إليهم وهم واقفين،
ويستمتع بأخذ الپوزات التي تظهره كرجل
صلب لا يهمه ما حوله. أوباما مرة وصفه
بأنه “كالتلميذ الدايقة أخلاقه الجالس في
مؤخرة الصف”، ضارباً على وتر يعرف أنه
يتردد في نفس پوتين، (أنا أراه كرجل يعاني
من غازات معدة مزمنة). وبوتين يحب الصيد
واللعب بالأسلحة النارية. (أحد محبيه قال
لي يوماً أنه يصارع الدببة). وله علاقته
وطيدة بالكنيسة هي أشبه بتحالف منها
بممارسة شعائر. ويدّعي النظام الاجتماعي
التقليدي المعادي لليبرالية الغربية،
لكن لديه علاقات نسائية عديدة مع بنات
جميلات رشيقات بعمر بناته (مثل آلينا
كاباڤيڤا لاعبة الجمباز الشهيرة) ويقال
أن لديه عدداً من الأولاد خارج نطاق
الزواج.

وكما ذوي الرقاب الحمراء يقود پوتين
بلداً كآلة ضخمة صدئة، مليئة بالوقود،
محركها ضخم جبار، لكنه قليل الفعالية،
يلوث ما حوله، وأبعد.

أخضر… أعلنت اشارة المرور. زمجر محرك
البيكاب القوي وانطلق أمامي، صدى فرقعة
بوجياته تخلخل الهواء. النهار صافٍ وأرى
بوضوح الشابة تشعل سيكارة، تنفخ دخانها،
ثم تضم صديقها بحنان وتضع السيكارة في
فمه. نشرَ عادم البيكاب سحابة دخان أخرى
سوداء ملأت الجو. رفعتُ شبابيك سيارتي
فانحسر الضجيج لكن ارتجاج الأرض لم
ينخفض. دست على بدّالة السرعة. همهمتْ
سيارتي كالطائر الطنان الصغير، ملتفًة
حول البيكاب بأقل من ثانيتين. بمرآتي
الخلفية رأيت الشاب يرفع لي إصبعه الوسطى
في الهواء، تحيةً اعتاد أن يهديها ذوو
الرقاب الحمراء للسيارات الكهربائية.