خلافاً لعادة الطقس في ذلك الوقت من الصيف، غائمةً كانت سماءُ يوم التحاقي باللواء العسكري المدرع، المتمركز في بادية الشام الجرداء بعيداً أكثر من ساعتين عن أقرب مدينة. شأن الطقس في ذلك الوقت والمكان أن يَكوي بلهيب شمسه الأرض في النهار؛ وأن تنخفض درجة حرارة الليل، سخريةً بمن ظَنّ أن لهيب المكان هو أسوأ سماته، لتقارِبَ درجة التجمد.
اللواء نفسه كان حديث العهد في ذلك الموقع بعد أن أمضى سنتين ضمن “قوات الردع”، متمركزاً في أحد وديان لبنان. حين التحقت به كضابط طبيب كانت معظم قطعه ما زالت في الخيام، باستثناء مبنى القيادة والأركان والمطبخ والعيادة الطبية، وما زالت حكايا ‘الخدمه بلبنان’ تعمِّر مجالس ضباطه وأفراده، الحكايا التي لا تكتمل سوى برفقة شراب المتة الأرجنتيني، وتحديداً بماركة “چربا” المفضلة.
استقبلني قائد السرية الطبية، وهو نقيب طبيب متطوع، خجول خافت الصوت، يصفّر كلما لفظ سيناً أو صاداً، جسمه مدور وكذلك رأسه، فيبدو كلعبة يمكن تركيبها في أي اتجاه اختير، كلعبة رَجُلِ البطاطا، دون باعث لعطب أو لخلل. خدّاه شديدتا الحمرة كأنه قد أصابه خجل عضال مزمن. يبدو أنه انتظر التحاقي بصبر وجلد لأنه كان بحاجة لإجازة طويلة يقضيها مع عائلته، رتّبها بعناية قبل سفره للتخصص في الاتحاد السوڤييتي. بسرعة المرتبك، أعطاني خليطاً من النصائح التي وصفها بأنها “خبرته في قيادة السرية” ؛ حاولت ترتيبها وتلخيص فائدتها في فكري فانتَهَتْ إلى العدم. أسرعَ مغادراً بلهفة، طالباً من الحاجب أن يحمل حقيبته، المعدة سابقاً، حتى بوابة اللواء الخارجية.
تسلقت التلة ماشياً على طريق ترابي محاط بنباتات شوكية جافة، حتى وصلت إلى مقر القيادة حيث قدّمتُ نفسي للعميد قائد اللواء. كان العميد قد عانى من نوبة قلبية مؤخراً وطلبَ مني أن آتي يومياً لفحصه السريري بعد انتهاء الإجتماع الصباحي. كان يحترم الأطباء ويعتبرهم ‘مثقفين ومتعلمين’ بما يتعلق بالجسد البشري، وبالروح الإنسانية، وبشؤون أخرى كالاجتماع والاقتصاد والفن والفلسفة. كان يعتبر الطبيب نديماً له، ويحلو له أن يسأل أسئلة فلسفية مثل: لماذا الشئ موجود وليس اللاشئ؟ أو هل للوقت بداية.. هل له نهاية؟ أو يسترسل منتشياً بما بدا له تشبيهاً حاذقاً، واضعاً راحتي يديه على بطنه “إذا وَضَعْتُ الكون في صُرَّة، وابتَلَعْتُها، هل أكونُ أنا داخل الكون أم أن الكون هو في داخلي؟
في اليوم التالي وأنا في طريق العودة بعد فحص العميد الطبي، سمعت ضجة تأتي من اتجاه خيمة ضابط الأمن. كان نقيباً يحب الرياضة وقلما يخلع بيجامته الأديداس الزرقاء ذات الخطوط البيضاء الجانبية. البيجامة التي تعاونت بحيلة مع أنفه الطويل المسنن وشعره الدهني ورقبته القصيرة لتضفي عليه هيئة البطريق القطبي، ولكن دون أن تمنحه شيئاً من رشاقته. أمامه وقف جندي بوضعية الاستعداد العسكري، مردداً: لا والله سيدي. كلما لفظها الجندي صرخ الضابط في وجهه: مين الله؟ وينه فرجيني اياه؟ وهو يضرب بقبضته بشدة على غطاء سيارته الجيب واظ: سامع هالصوت؟ هادا لأنه في سيارة هون، شايفها؟ ثم يجمع قبضته مجدداً ليضرب عليها مرة أخرى: فرجيني الله.. سمّعني صوته؟ ويتخلل ضربهُ للسيارة صفعات يتطاول على أصابع قدميه ليُرسيها على وجه الجندي، بكفّه… ثم بقفا كفّه… ثم بكفه مرة أخرى. كان يتطاول لأن الجندي كان طويلاً جداً. جاء طوله بمعظمه لصالح ساقيه النحيلتين ولامتداد رقبته، كالزرافة كما يقال، وكان يتأرجح مع كل صفعة فيبدو أشبه باللعبة ‘وودي’ من قصة Toy Story عندما يلعب به الطفل ‘آندي’، رامياً به في كل اتجاه في غرفته. رغم ذلك ظل الجندي يردد النفي نفسه: لا والله سيدي، وكأن الدليل البرهاني القاطع الذي قدمه له الضابط، المتمثل بكل وضوح بوجود سيارة الجيب واظ أمامه لا يعني له شيئاً.
أسرعتُ الخطا إلى مبنى سريتي، وتناولت كوباً كبيراً من الماء بجرعة واحدة وفي ذهني سؤال واحد: ما الذي ارتكبه هذا الجندي ليستحق عقاباً كهذا؟ ولماذا لم يَصْمُتْ هذا الجندي الأبله، وظل يكرر كالببغاء “لا والله سيدي”.
آاااه يا ليتني بقيت في غرفة العميد مجاوباً على أسئلته الفلسفية، على الأقل لم يتخللها صفعات على الوجه أو ضرب على غطاء محرك سيارة عسكرية بغرض الإيضاح!
جاء الجواب سريعاً عندما، بعد دقائق قليلة، دخل ضابط الأمن جاراً الجندي وراءه، فاتحاً باب العيادة بدون استئذان، واقفاً في منتصف الغرفة شابكاً ساعديه أمام صدره، آمراً:
– افحص لي هالمنيك هادا.
نظرت إليه عاقداً جبيني محتاراً. ولم أجبه. تُرى ما هو بالضبط الذي يريدني أن أفحصه: أثر الصفعات على وجه الجندي، أم عاقبة المحاضرة اللاهوتية على وعيه الباطن؟
تابع الضابط: عاملّي كرخانة هادا المنيك، افحصه شوف شو وضعه؟ مشيراً بيده إلى مؤخرة الجندي، مصعّراً كفّه خلفها كأنه يخشى أن تؤدّي وظيفتها البيولوجية في ذلك الوقت والمكان. عندها فقط أدركت أبعاد الموضوع. رغم تلك الدراية لم يكن لدي وقت كاف للتفكير الواعي. اخترت المجابهة رغم أني كنت خائفاً مضطرباً في صدري. تفوهت بميكانيكية مصطنعة وأنا أحدق في عيني الضابط: حاضر سيدي، ولكني لا أستطيع فحصه أمامك، واجبي المهني أن أراعي خصوصيته.
رمشت عيناه عدة مرات كما يفعل المرء عندما تمر ذبابة أمام وجهه، ثم بعد لحظات أمرني مرة أخرى: افحصه، وتعال قابلني في خيمتي. وخرج بدون أن يغلق الباب.
أغلقت الباب بيد مرتعشة، وتوجهت نحو الجندي قائلاً: اخلع بنطلونك والكيلوت.
لحظتها، وبلا إنذار، خرّ راكعاً على ركبتيه وقبض يدي: ببوس إيدك دكتور… ببوس رجلك!
تفاجأت.. لم يحصل في حياتي كلها موقف ترجّاني فيه إنسان بتلك المذلة. فقدت كل السيطرة على مشاعري وأحاسيسي، اعترتني موجة حزن حارقة بدأت في أسفل أمعائي وتصاعدت كدخان القطارات القديمة المتراكمة لتملأ رئتي، ثم لتلتف حول عنقي حابسة كُلَّ نفس داخلاً كان أم خارجاً من وإلى صدري. ركضت إلى غرفة نومي وألقيت بجسدي على السرير الحديدي، دفنت وجهي في البطانية الصوفية العفنية اللون والرائحة، وشهقت باكياً كطفل أضاع والديه في بلد بعيد غريب، وأضاع معهما براءته.
تمالكت نفسي وغسلت وجهي وعدت الى غرفة المعاينة لأجد الجندي نصف عارٍ، أصفر اللون كأن يرقان كبد قد أصابه في الدقائق الخمس السابقة. فحصته بسرعه وطلبت منه الجلوس: اسمعني جيداً، عليك أن تقلع عما تفعل ما دمت في اللواء، ما تفعله خارجه هو شأنك. فاهم؟
ببصر منخفض تمتم:
– حاضر سيدي.
– إذا أردتَ أن أساعدك فعليك أن تساعدني أولاً.
عاد بعض اللون إليه. هذا اليرقان أثبت أنه قصير الأمد:
– حاضر سيدي.
– انصرف الآن، عد إلى فصيلتك.
أخبرت ضابط الأمن أن الجندي مصاب بإسهال ‘ديزنطري’ وأني قد أعطيته دواءً وسأرقب نتائجه. كما تقضي البداهة لم يصدق حرفاً مما قلته، هو ليس بالأحمق، ولكن لم يكن لديه سعة في الخيار، لقد استنفد خياراته تدريجياً مع كل موجة من الصفعات الثلاثية التي كالها لوجه الجندي، وليس هناك جدوى من التجذيف للوراء الآن. طلب مني تقريراً طبياً مكتوباً محاولاً إثبات نفوذه وسلطته، فأرسلت له تقريراً رسمياً ملأته بمصطلحات طبية مختصة، دفنت فيها وصفاً غامضاً لأثر الصفعات عله ينشغل أياماً في حل شفرتها.
بعد فحص العميد الطبي في اليوم التالي سألته:
– هل تعرف سيدي ماذا يدعون السرية الطبية في اللواء؟
هز برأسه نفياً.
– يسمونها سرية “المكاسيح”!
قهقه ضاحكاً.
– هذا ليس بالعدل سيدي!
نظَرَ إلي وكأني قد وضعت مكعب روبيك مخلوط المربعات المختلفة الألوان في يده!
– عندي طلب سيدي، عندما تأتي الدفعة القادمة من المجندين أريد أن أكون أول من ينتقي منها.
اعتدل في مقعده الجلدي ونظر إلي بعمق حتى خشيت أنه سيطرح علي أحد أسئلته الفلسفية، مرة أخرى.
جاءت دفعة الجنود الأغرار وكنت أول المُنتَقين. اخترت ذوي اللياقة البدنية أساساً، وعندما توفرت اللياقة بعدد من المجندين، لجأت لصفات أخرى لتهذيب الانتقاء: عدنان الدرعاوي لإتقانه الرماية، جاكوب الأرمني الحلبي لخبرته في تصليح السيارات، مازن اللاذقاني لأنه معلم حمص وفول ومشجع لنادي حطين، وفايز الديري لأنه كان حارس مرمى نادي الفتوة قبل التحاقه. بمكر خفي، اخترت مازن وفايز. لعمري لم أنسَ بعد كمية الحجارة التي انهالت على باصاتنا عندما كنا نذهب لتشجيع نادي الكرامة في مبارياته مع حطين أو الفتوه. هاهي فرصتي في الانتقام من المعتدين! (وهنا تخيلت نفسي كالكابتن هادوك في روايات تان تان، تدريجياً يزداد حمقاً وغضباً قبل أن يبدأ بالعدو وراء عصابات المهربين في الصحراء المغربية).
الآن عليَّ التخلص من بعض “المكرسحين” القدامى.
قصدت قائد سرية الإطعام مساء. بعد سماع بعض حكايا لبنان، شكوت له نقص حصة الطعام المخصص للسرية الطبية. كاذباً قال:
– نحن نوزع بالتساوي وحسب عدد الأفراد.
– هل من حل؟ سألته، مع غمزة عين خاطفة.
– ونحن ينقصنا الدواء.
– كم ينقصكم؟ سألته مستخدماً طريقة مفاوضات قرأتها في أحد كتب هنري كسنجر.
– ماذا تستطيع أنت أن تُوفِّر؟
لا شك أنه قد قرأ نفس الكتاب، ابن الحرام هذا الرجل خبير بالمفاوضات.
– علبتين سيتامول وعلبتين مضاد حيوي أموكسيسلين. عرضت عليه راشياً.
– وعلبتين فلاجيل. كان رده.
خبير بالأدوية أيضاً أخو “الشليتة”. تظاهرت أني أتدبر الموضوع وكأنه أمر معقد.
– طيب، فقط إذا وافَقتَ أن نتبادل أحد العناصر المجندين أيضاً.
استعجب من الطلب ولكنه لم يعترض قائلاً:
– اتفقنا، أصلاً المجندين قاعدين نصف اليوم بدون شغل.
عند قائد سرية المحروقات حَصَلتْ مفاوضاتٌ مشابهه، بنتائج مماثلة.
طلبت من عناصر السرية الاجتماع وطرحت عليهم خيارين: سنفوز بالمركز الأول في سباقات اللواء القادمة بعد شهرين (هذه السباقات تعقد كل نصف سنة كجزء من سباقات الفرقة بالعموم)، أو تمنع الإجازات بتاتاً وتعود مخصصات الطعام والوقود شحيحة كما كانت في السابق. دهشت عندما وَجَد عناصر السريه التحدي مثيراً، ولمست عندهم حافزاً غير متعلق بالثواب أو العقاب. يبدو أن محاولاتي لإقامة علاقات ثقة واحترام كانت قد بدأت تعطي بعض الثمرات. شعرت ببعض العظمة، ولكن كانت نيتي أن أتدرب معهم كواحد منهم. لم يكن ذلك الأمر شاقاً علي، فقد كنت دائماً أستمتع بممارسة الرياضة البدنية باختلاف أنواعها.
خطتنا كانت أن نتدرب ثلاث مرات يومياً: تمارين لياقة صباحاً، قوة عضلية ظهراً، ثم لعبة كرة مساء. فايز كان الكابتن والحكم معاً في مباريات كرة القدم التي كانت استعراضاً ليس في مهارات اللعب فقط بل في فنون الشتائم والمسبات أيضاً. أما مازن فكانت مهمته أن يعد لنا ما نشتهي من لذيذ الطعام في نهاية اليوم. بعدها كنا نسهر في خيمة المجندين، نشرب الشاي الزائد الحلاوة، وندير أكواب المتة، ونلعب ورق الشدة، ونتشاجر… لأن الشجار جزء من روتين لعب الورق منذ الأزل، وما كنا بصدد محاولة عرقلة القوانين الكونية.
قبل المسابقات بأسبوع جاء جاكوب وبيده ورقة إجازة لمدة شهر، أعطاه إياها ضابط الأمن، متجاوزاً موافقتي، لكي يأخذ جاكوب سيارة الضابط الجيب واظ و “ينزِّل محركها” في ورشته في حلب. يبدو أن استخدام الضابط المستمر لها كدليل إيضاحي قد استنزفها وأعياها. لم أشأ أن أدخل في صراع آخر مع ضابط الأمن رغم أن خسارة جاكوب كانت ستنعكس سلباً على أداء السرية. كنا نتفاءل بجاكوب لرهافتة وشفافيته وسمو أخلاقه، كان الوحيد بيننا الذي يتجنب شجارات لعب الورق، فيما كنا نحن نختلقها بسبب أو بدونه. لذلك لقبناه بروحُ قدسِ السرية.
يوم المسابقات كان حاراً كالعادة. أبلى جنود السرية حسناً، جاهدوا كما جنود اسبرطة في عنفوانهم وشجاعتهم، وانتهوا في المرتبة الثانية بفارق نقطتين من أصل ستين. ما زال هناك أمل أن تحظى السرية بالمركز الأول إن استطعت الفوز في مسابقات الضباط. خطر لي أنه إذا كان جنود السرية اسبرطيو القوة فعلاً، فعليَّ إذاً أن أكون كما قائدهم ليونيدس في معركته الشهيرة مع الفرس في معركة الثرومبايلي. مباشرة تبددت أحلامي البطولية عندما تذكرت أن ليونيدس وجنوده الشجعان انتهوا صرعى في نهاية تلك المعركة. لم يكن لدي وقت لتخيل معارك أخرى أو أبطالاً أكثر حظاً فقد كان الحكام يدعوننا للاصطفاف لبدء السباق.
السباق كان بالعتاد الحربي، مؤلف من عدة أقسام: تسلق حائط عال بالحبال، زحف في خنادق تحت الاسلاك الشائكة، قفز فوق حواجز أسمنتية متوالية، مراوغة أخرى بين حواجز مختلفة؛ وبين كل قسم وآخر مسافة جيدة من الركض. بعد البداية بقليل بدا واضحاً أن المنافسة انحصرت بيني وبين ضابط الأمن. كان أقوى مني في الأقسام المختلفة، يعبر الحواجز المتوالية بفعالية ثور الحراسة، لكني كنت أدركه في مقاطع العدو بحماس الفلو. بعد آخر قسم من الحواجز كان قد اكتسب أمامي ما يقرب من عشرين متراً. أغمضت عيني وركضت بأسرع ما استطعت. بعد برهة حصل أمر أشبه بما توصّفه كتب تجليات الرومي أو ابن عربي الصوفية. فجأة اختفى الألم الحارق من رجلي، وامتلأ صدري بالهواء كأني أمام أنبوبة اكسجين صاف، وأصبح قلبي يخفق بسرعه كما الطير، يدفع الدم بقوة “طرمبة” ماء تضخ من نهر غزيز إلى حقل مجاور. في لا وعيي أحسست أني كطائر في السماء يحلق محمولاً على الأثير وبدون أي جهد خاص أبذله. لم أعد أرى شيئاً سوى أشعة الشمس وأطيافها. عند خط النهاية بدأت غشاوة بصري تفسح مجالاً للتركيز كما الكاميرا التي باشرت توازن بؤرة عدستها. نظرت خلفي ورأيت ضابط الأمن يقطع الأمتار العشرين الأخيرة.
“هذا الدكتور، هذا الدكتور” سمعت قائد اللواء معلناً وكأنه اكتشف ماهيتي عن طريق صدفة فيزيائية حولته إلى ارخميدس الثاني. اقترب مني وهمس في أذني: إذهب وقدم التحية لقائد الفرقة. كان قائد الفرقة رجلاً شديداً قاسي المراس، قد عُيِّنَ حديثاً من القيادة العليا لإعادة النظام وحسن التدريب للفرقة بعد أن تراجع كلاهما خلال المدة التي قضتها في لبنان.
توجهت بخطا نظامية وحييته فقال: كرِّر. عاودتها فقال: كرِّر. أضفت الثالثة، فمد يده وصافحني بقبضة حديدية، وقال: هل فكرت في التطوع؟
فاجأني السؤال فلم أجب، فقال: إذا أردت التطوع فاعتبر نفسك مقبولاً… انصرف.
لم يهنئني ضابط الأمن… ازدراؤنا المتبادل دام حتى انتهيت من الخدمة. بقينا كما يقول المثل كديكين كل منا على مزبلته يصيح. لكن مزبلتي أصبحت الأولى في اللواء الآن، وصياحها لم يكن من خوف أو من ألم أو من تعذيب.
آخر ليلة قضيتها في اللواء كانت السماء صافية لامعة النجوم، أو لعلي تخيلتها كذلك. أكاد أجزم أن مجندي السريه ليلتها تركوني أربح لعبة التركس بفارق كبير. أكاد أجزم أن جاط الفول بالحمص الذي أعده مازن كان أطيب ما قدمه في حياته. أكاد أجزم أن طعم متة “الچربا” كان من نبتة لم تنتج مثلها حقول الأرجنتين في تاريخها. وأكاد أجزم أن العناق الحميم الدامع بيني وبين فايز كان أطول عناق بين مشجع لنادي الكرامة وآخر لنادي الفتوة.
*خاص بالموقع