حسام جزماتي: فائدة الكتب الرديئة.. «حياتي والإعدام» مثالاً

0

منذ بدأ محمد إبراهيم العلي، قائد «الجيش الشعبي» في سوريا، بنشر مذكراته، لم يحظ كتابه بالاهتمام إلا من دائرة ضيقة من أصدقائه ورفاق «مسيرة نضاله» في حزب البعث، الذين وصل إليهم الكتاب كهدية شخصية تهدف إلى استعادة الذكريات. والحق أننا لا يمكن أن نلوم عامة القراء على إهمال كتاب كثير الصفحات، مصاغٍ بطريقة أقرب ما تكون إلى «الكشكول»، وتفوح منه رائحة رجال السلطة.

لكن هذه مناسبة لإعادة الاعتبار، نسبياً، للكتب الرديئة، لا سيما المذكرات منها، التي تقول عن المرحلة وأبطالها أكثر مما تفصح كتب التاريخ المنضبطة بمعايير يقظة. وفي هذا المجال تنبَّه كثير من السوريين، خاصة المعارضين منهم، إلى أهمية مذكرات مصطفى طلاس، وزير الدفاع الأسبق، التي صدرت في خمسة أجزاء متتالية بعنوان «مرآة حياتي». وفيها يسرد النائب اللاهي المنشرح للقائد العام للجيش والقوات المسلحة، حوادث عديدة من سيرة ضباط البعث أثناء مراحل تكونهم وصعودهم، تسيء، في حقيقة الأمر، إلى النظام وتكشف أطرافاً من تركيبته. ومن المعروف أن أخطر فصول هذه المذكرات هو «أمريكا تستحث رفعت الأسد للوصول إلى السلطة» في الجزء الرابع، والذي «تسرّب» في البداية وطُبع في دار نشر مجهولة في بيروت، وقدّم للسوريين، لأول مرة، رواية عن صراع الأسدين الأخوين على الحكم عام 1984.

محمد (بن إبراهيم) العلي أقل شهرة بكثير لدى عموم السكان. لكنه معروف بين حكام دمشق البعثيين. ولد عام 1934 شمال شرق حماة، لعائلة علوية كثيرة التنقل أصلها من ريف طرطوس. انتسب، في يفاعته، إلى «حزب الشباب» الذي ترأسه الزعيم الشعبوي الصاعد أكرم الحوراني وحوّله إلى «الحزب العربي الاشتراكي» الذي اندمج مع «حزب البعث العربي»، عام 1952، ليشكلا «حزب البعث العربي الاشتراكي». وكدأب كثير من «الحورانيين» تطوّع محمد إبراهيم العلي في الجيش، وتخرج ملازماً أيام الوحدة مع مصر وارتبط في القاهرة مع اللجنة العسكرية البعثية. وحين حدث الانفصال أسهم بشكل فعال في تمرد حلب الرافض له والذي سيشتهر باسم العقيد جاسم علوان. ونتيجة ذلك قبض عليه وحكم بالإعدام، مما كان سبباً في إسراع الضباط البعثيين بالانقلاب الذي كانوا يتأهبون له فحصل في 8 آذار 1963، موصلاً الحزب إلى السلطة ومُخرجاً العلي ورفاقه من السجن.

تحتل تلك الأيام موقعاً مركزياً في ذاكرته. فقد كان الملازم أول في أوج عنفوانه وقمة شهرته، ومنها أخذ اسم مذكراته. وبناء عليها أسند إليه رفاقه مسؤولية قيادة «الحرس القومي» الذي أنشؤوه بعد أسبوع من «الثورة»، كقوة ميليشياوية هدفها الدفاع عن هذه الأخيرة وتتكون من بعثيين مدنيين يجري تدريبهم على حمل السلاح ليكونوا خط حماية ثاني. وبناء على ذلك، في ظل فوضى الصلاحيات وفراغ كراسي السلطة، أسندت إلى قائد الحرس القومي مهام الإشراف على «الفتوة» التي عسكرت طلاب المدارس، ثم أُلحِقت الجمعيات النسائية بسلطته فوحّدها لإنشاء منظمة «الاتحاد النسائي».

خلال تصفيات رفاق الدرب انحاز العلي إلى الشباطيين إبان انقلابهم الداخلي عام 1966، ثم إلى حافظ الأسد خلال صراعه على السلطة. وأثناء ذلك تسلّم منصبه كقائد مزمن للجيش الشعبي. لم تكن تلك مسؤولية هامشية وقتها كما سيصبح الأمر لاحقاً، فقد رفع انكسار الجيوش النظامية العربية في حرب 1967 من أسهم المقاومة الأهلية والفصائلية. ولم يكن هذا بعيداً في الأصل عن خراقة بعث أواخر الستينيات الذي أنشأ منظمته الخاصة في الساحة الفلسطينية باسم «طلائع حرب التحرير الشعبية» (قوات الصاعقة)، وتسلّم العلي جناحها العسكري بعد أن كان ينسّق مع حركة فتح لدعم العمل الفدائي. وفي سياق مواز صارت على عاتق الجيش الشعبي مهام وطنية وقومية كثيرة أداها بكامل الحماس والارتجال، كحفر الخنادق حول المدن والقرى، وإعداد الملاجئ، والتدرب على قتال الشوارع برشاش الساموبال التشيكي الرديء، والاستعداد للتعبئة العامة في أي لحظة لحماية المنشآت الحيوية من أي هجوم إسرائيلي… غادر.

كانت تلك الفوضى خلاقة بالنسبة إلى قائد الجيش الشعبي، فقد وسّعت صلاحياته غير المنضبطة بحدود، ووضعت تحت يده موارد كبيرة. لكن كل هذا أخذ يتراجع مع إعادة تنظيم الجيش بعد حرب 1973. وتحول الجيش الشعبي، بشكل متزايد، إلى سقيفة منسيّة يُنقل إليها الضباط الذين يُراد تهميشهم.

تقلص نفوذ العلي غير أن ميزانية الجيش الشعبي لم تقل. وكلما بعدت الحرب وزال شبحها عن الشوارع صار بالإمكان الاكتفاء باستعدادات ورقية مختلقة وحقول رمي وهمية. كما أن قناة «الصداقة» التي كان شقها مع حافظ الأسد، منذ زمن بعيد، ما زالت مفتوحة. كيف لا وهي تستند إلى أبرز ما يهم الفريق الحذر، وهي أخبار الضباط واحتمالات تكتلهم في محاولة انقلابية. بمواهبه المعروفة في تشمم الأخبار كان العلي قد أسس شبكة مخبرين خاصة تعتمد على عدد كبير من الحجّاب والسائقين والمجندين الذين يخدمون في مفاصل عديدة. وقد لعب هؤلاء، الذين يُهمَل حضورهم في العادة، دور الآذان في حيطان بعض كبار ضباط الجيش وحتى الأمن. وكانت حصيلة ذلك تتجمّع لدى العلي الذي ينظمها ويرفعها للأسد دون وساطة.

فضلاً عن هذا وذاك، أتاح تبطّل الجيش الشعبي لقائده الوقت لاقتحام عالم الأدب. فبدأ بكتابة الروايات التي ظهرت باكورتها عام 1977 ولاقت استحسان «القارئ الأول» نفسه، الأمين العام الذي قال، أثناء اجتماع لأعضاء القيادة كان منعقداً في اتحاد نقابات العمال، إنه أعجب بها وإنه يتمنى على الرفيق محمد أن يكمل الكتابة.

م يكن هناك تشجيع أعظم من هذا! رغم أن العلي كان قد قرر سلفاً أن يكتب دون كلل، ملاحم متسلسلة، مستهدياً ببلزاك. ومنذ ذلك الوقت لم يمر عام دون أن يصدر جزءا من إحدى رواياته، التي حظيت باهتمام صحيفة رسمية أخذت تنشرها على حلقات لأنها تعبّر عن هموم الوطن؛ إذ تتناول معاناة الفلاحين مع الإقطاع، وحرب تشرين، واتفاقية كامب ديفيد، وسد الفرات. كتبها العلي مستفيداً من تجربته الحياتية في الريف والتعليم والجيش، ومن زياراته الخارجية إلى الصين وكوريا الشمالية وفيتنام، كما يقول. طبعت هذه الروايات مراراً. كما دفعت التوجهات الواقعية الاشتراكية لها الرفاق السوفييت، آنذاك، إلى ترجمة بعضها إلى الروسية، وتكريم صاحبها بمنحه جوائز عديدة منها وسام «صداقة الشعوب».

وعلى هامش ذلك كله شرع اللواء بتدوين مذكراته «حياتي والإعدام»:

وفي الجزء الأول، الصادر عام 2000، يستعرض بالتفصيل أحداث تمرد حلب عام 1962، انطلاقاً من حوار مطوّل أجراه معه جورج صدقني لتدوين ذاكرة البعث. وينقل وقائع المحكمة التي تلته ومرافعاتها ووثائقها.

أما في الجزء الثاني (2003) فيعود إلى طفولته ودراسته وانتسابه إلى حزب أكرم الحوراني ونشاطه في مرحلة الانقلابات العسكرية. كما يتحدث عن المهام التي تولاها منذ الستينيات، في الحرس القومي والفتوة والجمعيات النسائية والمنظمات الفلسطينية. كما يستعرض الصراعات الداخلية في الحزب. ويفرد فصلاً هاماً لعلاقته مع المرشديين التي أدت إلى حلف وثيق بينهم وبين حافظ الأسد، تجلت أهميته عند خلاف الأخير مع أخيه رفعت، وانحياز كتلة المرشديين الوازنة إلى الرئيس ضد قائدهم في «سرايا الدفاع».

وقد صدر الجزء الثالث في 2004. وفيه فصول استكمالية متناثرة؛ من تجربة العلي في السجن إلى مواقفه في خلافات البعثيين ودوره في انقلاب يسارييهم على يمينييهم، وصولاً إلى التنسيق الدائم مع الأسد الذي كلفه بمهمة تصفية نفوذ أمين الحافظ بين الضباط في حلب، ثم الإسهام في تطويق تمرد سليم حاطوم في السويداء، ومؤتمرات الحزب التي تصاعد فيها الخلاف مع صلاح جديد، انتهاء بالحركة التصحيحية عام 1970. كما يحوي الكتاب فصلاً عن هزيمة 1967، وعن الصدام العسكري بين الفلسطينيين والأردنيين.

ويبدو أن شهوة التذكر عاودت العلي فدفعته إلى تدوين الجزء الرابع من كتابه، والذي صدر عام 2018. وحوى أيضاً فصولاً متناثرة عن جغرافية البلاد وتاريخها، وحكايات من مرويات عائلته عن أصولها، ووقائع من أيام مختلفة في الحكم والسفريات والكتابة والحياة العامة. وختم بنصوص محاضرات ألقاها ضد العدو الصهيوني والإمبريالية والرجعية. فيما ينتهي التعريف، الذي اعتاد العلي أن يختم به كل أجزاء مذكراته، بأنه أحيل على التقاعد، عام 2005، «بناء على طلبه»، ليُسكت الأصوات المغرضة التي قالت إن ذلك حصل إثر تحقيق حزبي، أو حتى نتيجة العمر والتمديد له لأكثر من عقد كضابط احتياط.

عند الحديث عن المرشديين يذكر محمد إبراهيم العلي حادثة طريفة. وهي أن مصطفى طلاس نشر، عام 2000، مقالاً في جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية رأى فيه هؤلاء مساساً بسلمان المرشد. فأرسلوا آلاف برقيات الاحتجاج إلى القيادة التي كلفت العلي بمعالجة الأمر، بسبب علاقته الوثيقة بالنور المضيء، ابن المرشد، وصِلَته برفيقه العماد اللدود، بما أنه كان يستغل الوصف الرسمي ليذكّر بأنه يعدّ، كذلك، «وزيراً للجيش الشعبي». وبالفعل، ذهب أبو ندى لزيارة أبي فراس وسأله عن دافعه لكتابة المقال الذي «خرب الدنيا»، فأجابه: والله أنا لم أكتب شيئاً، وإنما الطاقم الذي يعمل معي كتبه وأتى به إليّ فوقّعته ثم نشروه. ولا أعلم حقيقة ماذا يتضمن!

في المقابل، يتهم الكثيرون اللواء نفسه بأنه كان يستغل القائمة المخصصة له، عُرفاً، في الأركان لفرز الضباط وسواهم كي يجلب لصالحه، في قيادة الجيش الشعبي، عدداً من المؤلفين والأكاديميين في الآداب، ليكلفهم بكتابة بعض رواياته أثناء خدمتهم العسكرية الإلزامية. غير أن تمعناً أدق ربما دلّ على أن ما كان يفعله اللواء إنما يهدف إلى زيادة دالّته على بعض «زملائه» من الأدباء وتوسيع علاقاته في الوسط الثقافي، كما سبق أن زرع نفسه في عضوية اتحاد الكتاب، لا للاستعانة بهم في التأليف. إذ إن رواياته لم تشهد تقلباً في الأساليب، بل حافظت على نموذج منتظم، مستمر ورتيب، من الرداءة!

*المصدر: تلفزيون سوريا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here