حسام جزماتي: حيدر حيدر: جدل الثقافة والسياسة

0

عقب رحيل الكاتب السوري حيدر حيدر مؤخراً توالى النعي الذي يعرّف به بدءاً من ولادته، عام 1936، في بلدة حصين البحر بمحافظة طرطوس، لعائلة علوية. غير أننا ربما نرى أن الولادة الحقيقية لهذا الروائي والقاص حدثت بعد ذلك بنحو ثلاثين عاماً؛ بعد وصول الجناح الذي يمثله من يسار حزب البعث إلى السلطة بحركة 23 شباط 1966 الشهيرة، فمشاركة حيدر في تأسيس اتحاد الكتاب العرب وعضوية مكتبه التنفيذي سنة 1968، وإصدار وزارة الثقافة، في العام نفسه، كتابه الأول «حكايا النورس المهاجر»، وهو مجموعة قصص لفتت إحداها «الفهد» الأنظار وصارت تصدر في طبعات مستقلة كرواية، وقررت المؤسسة العامة للسينما تصويرها في فيلم.

تتناول القصة/الرواية سيرة حقيقية لفلاح من قرية جبلية علوية يثور ضد الظلم الذي يمثله الإقطاعي المتحالف مع الحكم الذي كان يغلب عليه برجوازيون. كان حيدر، المعلّم كمهنة، قد انتقل للعيش في دمشق في عام 1963 الذي وصل فيه حزب البعث إلى السلطة، وقضى فيها سبع سنوات سيصوّر أجواءها الشبابية في روايته الأولى الصادرة في سنة 1973 بعنوان «الزمن الموحش». وفي مستهلها يقول إن المدن سقطت تحت ضربات طلائع القادمين نحوها من الجبال والسهول بخطى واثقة، معمَّدين بأشعة شمس جديدة تبارك الفقراء والمنبوذين والمظلومين.

كانت هذه اللغة التبشيرية سائدة عندئذ بين جيل جديد من الأدباء والصحافيين النشطين القريبين من يسار البعث الذين نشروا كتبهم الأولى في الستينات، ولمعوا في السبعينات، وصاروا الأسماء الأبرز في الثقافة السورية منذ الثمانينات ولعقود لاحقة. ولم يكن هذا بعيداً عن كونه انقلاباً ثقافياً أبيض على جيل الرواد ومن بعدهم، ممن تقادمت حساسيتهم الأدبية واللغوية بالتزامن مع شيخوخة الشرائح التي ينتمون إليها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً.

لا يحتاج المرء إلى دراسة معمقة في تاريخ الثقافة السورية ليستنتج انتقالها من أبناء المدن، العربية السنّية واقعاً، إلى متحدرين من أرياف تنتمي إلى طوائف الأقليات الإسلامية منذ الستينات. وهنا يمكن النظر إلى تحول كنى الأدباء المعروفين من الجابري والعجيلي والسمّان وكيالي والإدلبي إلى حيدر وعدوان وونوس وخضور وعمران، قبل قراءة الخيارات الفكرية والانحياز الطبقي وخلفيات الأبطال وجغرافيا الحدث.

لم يكن الموضوع مؤامرة بل كان انعكاساً لتحول جذري في طبيعة النخب السورية من الأعيان وثقافاتهم إلى حكم فلاحي مثلته سلطة البعث، ولا سيما في مرحلة 1966 – 1970، بعد أن تخلص الانقلابيون من بقايا الناصريين والمؤسسين التاريخيين للحزب الذين كانوا، بشكل ما، يشكلون حالة وسيطة.

يعلن البعث عن انحيازه إلى عموم الفلاحين (والعمال إن وجدوا)، غير أن الأمور جرت عملياً باتجاه إمساك أبناء فلاحين من الأقليات الإسلامية بمفاصل الحكم في دولته السورية، ثم تصدّر العلويون منهم بشكل خاص، بالاستعانة بملاط من موظفي الروتين المتحدرين من بيئات فلاحية سنّية في الوظائف الحكومية غير الفاعلة.

في الحقل الثقافي كذلك تراجع حضور الأدباء من أبناء الوجهاء، والذين ربما كانوا يمارسون الكتابة على هامش أعمالهم، لصالح شبان يشتعلون حماسة لتغيير العالم بالاستناد إلى درجات مختلفة من الماركسية. فصار اليسار هوية الثقافة السورية مقصياً أنواعاً مختلفة من اليمين التقليدي أو الحداثي.

كان النصف الثاني من الستينات مرحلة نموذجية لهذه الولادة التأسيسية؛ فالحكم كان للسلطة الشباطية التي أبدت ميولاً اشتراكية صارخة، وفيه ولدت المنظمات الفلسطينية والعمل الفدائي، والتهبت مشاعر العرب بانتصار الثورة الجزائرية، واليساريين بالمقاومة الفيتنامية ومقتل غيفارا. وأخيراً حصلت هزيمة حزيران 1967 التي رضّت صورة جمال عبد الناصر والحكومات «البرجوازية الصغيرة» في أذهان شبان قوميين يساريين لصالح «حرب التحرير الشعبية» القائمة على المهمشين.

تلك هي الحالة المؤسِّسة لحيدر حيدر وأقرانه. وهو الذي سيغادر سوريا ليعمل في تعريب التعليم في الجزائر التي كانت، بمصادفة دالّة، المنفى الذي لجأ إليه من نجا من الشباطيين بعد انقلاب حافظ الأسد عليهم وزجهم في السجن بعد ما سمّاه «الحركة التصحيحية» في تشرين الثاني 1970.

لم يكن اعتبار ما فعله الأسد انقلاباً يمينياً في الحزب حكماً مجافياً للحقيقة، بعد أن أظهر رغبته في الانفتاح على طبقة التجار السنّة في الداخل وعلى المحيط العربي والدول الغربية خارجاً. كانت تلك صدمة أولى لفئة المثقفين اليساريين ممن وصفناهم أعلاه، وتبعها قراره بالتدخل العسكري في لبنان لصالح اليمين المسيحي وقتئذ ضد «الحركة الوطنية» ذات الطابع اليساري المتحالفة مع الفصائل الفلسطينية. ثم زيادة الطابع القمعي لنظامه في النصف الثاني من السبعينات، فاعتقال الأحزاب الماركسية المعارضة في الثمانينات وتصفية بعضها بشكل كلي.

بالمقابل لم يحصل الأسد على مثقفيه رغم ارتفاع عدد من تقاطروا إلى مؤسساته الثقافية العامة، كاتحاد الكتاب العرب، فقد كان هؤلاء من ذوي المواهب المتوسطة فما دون غالباً، وتراوحوا بين نمط المتعيّش ونموذج المخبر. في حين ظلت الثقافة السورية، بالمعنى الأرفع، تُنسب إلى تلك الأسماء التي شملناها، بقدر من التعميم، بوصف جيل يسار البعث وسلالاته الأيديولوجية والكتابية. وقد عمل هؤلاء في مؤسسات ثقافية وصحافية سورية هي جزء من القطاع العام، إذ لم يكن هناك سواها. أو تعاونوا مع منابر إعلامية فلسطينية صديقة، كما فعل حيدر لعقد من الزمن، منذ غادر الجزائر وحتى عودته إلى سوريا في عام 1984.

منذ البداية اعتُبر هؤلاء معارضين لحكم حافظ الأسد. أما عملياً فقد كانت انتقاداتهم لنظامه مسوّرة بالحزام الأمني المستفحل عبر السنوات فكانوا أقرب إلى وصف «المشاغبين» الذي يحبون، يداورون الرقابة ويكتبون ضد الطغيان والحاكم المستبد لا على التعيين، مقنّعينه بالوالي أو الملك أو الجنرال. وتُرك لهم هذا الهامش لأسباب متعددة.

بالنسبة إلى أجيال سورية متتالية شبّت خلال الحكم المديد للأسد الأب كان هؤلاء فقط من يستحقون القراءة؛ فهم الأكثر موهبة في غالب الأحيان، والأشد جرأة في تلك الأيام الكالحة، والأقرب إلى مزاج متمرد ينتشر بين حاضنة ثقافية وسياسية لحركات يسارية سرية، يصوّر أجواءها ويهدهد مسلّماتها. ومرة أخرى غلب على هذا الأرخبيل أن يكون ذا أصول من الطوائف الأقلوية الإسلامية، بعدما طلّقت المدينة السنّية السياسة والثقافة والشأن العام واتجهت إلى التجارة والصناعة والحرف والهندسة وإدارة الأعمال.

أخيراً، هل كان حيدر حيدر «علوياً» كما قيل كثيراً في الأسبوع الماضي؟ بالطبع لا إن كان المقصود زيارة المقامات والتبرّك بالخلعة، وهي المظاهر التي نمت بشدة بين العلويين في سنوات «الحرب» وكانت محل استهجانه كمثقف علماني. أما من جهة تعبيره عن هواجس محلية لفئة محددة فيمكن النقاش لمن شاء، منذ أن كتب «الفهد» وحتى روايته الأخيرة «مفقود» الصادرة في عام 2016، بعد قرابة نصف قرن. وبطلها شاب علوي يقضي خدمته العسكرية الإلزامية في الرقة يضطر إلى التخفي وينقطع عن التواصل مع ذويه إثر سيطرة فصائل معارضة، ثم داعش، على المدينة.

*تلفزيون سوريا