كان يمكن لخدمة عدنان محمود في الأمن السياسي أن تكون سيرة عادية بالنسبة لضابط مخابرات لولا اشتهاره بقصة أصبحت تعريفاً له لدى السجناء والمعارضين. فهو الذي سجن أخته في إحدى منفردات الفرع الذي كان يرأسه!
ولد عدنان أيوب محمود عام 1949 لأحد الملاك العلويين في قرية الشيخ حسامو قرب الحفة في جبال اللاذقية. عُرف بشكله الجميل الذي جعله محط أنظار الفتيات إبان نشأته، وبجسده الكبير الذي يتذكره من ذاقوا التعذيب على يديه. رغم أنه كان يميل إلى قضاء وقته في الفساد أكثر من الضرب، فجمع أملاكاً ودخل في شراكات بالإكراه واستولى على بعض مشروعات المطاعم الناجحة في دمشق بحكم منصبه وما يستطيعه من تلفيق قضايا وتلبيس اتهامات.
يوم الثلاثاء الماضي، في 5 تموز، حل العقيد ضيفاً افتراضياً على مهرجان نابولي الدولي للعروض المسرحية، عندما استحضره المخرج رمزي شقير في عرض بعنوان «تدمر، المعذِّبون» استكمل به ثلاثية جاءت تحت عنوانَي «X عدرا» (2017) و«Y صيدنايا» (2020). في الأولى قدّم شقير بعض الناجيات من سجن عدرا على الخشبة، وفي الثانية عدداً من المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا. تأتي هذه العروض كحصيلة ورشات كتابة يروي خلالها الناجون تجاربهم، ويتلقون تدريبات أداء أساسية، ثم يظهرون على المسرح ليرووا قصصهم الحقيقية. وفي التجربة الثالثة كان الهدف تقديم السجّان من خلال رؤى ثلاثة ناجين هم سمر كوكش، التي قضت ثلاث سنوات وأربعة أشهر في معتقلات النظام السوري بسبب مشاركتها في الثورة، ورياض أولر، التركي الذي سُجن واحداً وعشرين عاماً في سوريا، وأخيراً وأساساً فدوى محمود، الماركسية التي اعتقلها شقيقها.
في العرض تقول فدوى إن عدنان، الذي يكبرها بعدة سنوات، كان أخاها المقرب، وخاصة حين استأجر لهما والدهما غرفة في المدينة القريبة من قريتهما كي يتمكنا من متابعة الدراسة. كان ذلك في أواخر الستينات. وعندما قام حافظ الأسد بـ«الحركة التصحيحية» عام 1970 شارك الشقيقان في مظاهرة لطلاب المدارس رفضاً للانقلاب ولاحقتهما الشرطة العسكرية. لكن عدنان رفض أن تشارك أخته في توزيع المنشورات المناهضة للأسد خوفاً عليها. وذلك قبل أن يستقر الأمر للرئيس الجديد ويحوز عدنان شهادة البكالوريا ويقرر الانتساب إلى الجيش. في السبعينات تخرج في الكلية الحربية وتزوج وانتقل للعيش في دمشق. لتلحق به فدوى إلى العاصمة وتقيم عنده، قبل أن تأخذ مسارها الخاص بالعمل في وظيفة حكومية هناك، والزواج، والانخراط في حزب العمل الشيوعي المحظور.
كانت نقطة التحول عندما انتقل عدنان من الجيش إلى شعبة الأمن السياسي. عندها زارته وطلبت منه أن يرفض ذلك لأنه يضعه في الضفة الأخرى، فأجاب إنه، على العكس، قد يشكّل عامل حماية. وهو ما فعله مرة خلال إحدى الحملات ضد الحزب في الثمانينات، مما أدى إلى نجاة فدوى وبعض رفاقها من الاعتقال.
في التسعينات كان عدنان قد أصبح عقيداً، رئيساً لفرع التحقيق في شعبة الأمن السياسي، نتيجة علاقته المميزة برئيسها اللواء عدنان بدر حسن منذ كانا في الفرقة التاسعة للجيش. وعلى المقلب الآخر كانت فدوى قد كُلّفت بالاحتفاظ بأرشيف الحزب وملفاته في قبو منزلها الآمن، وبإيواء عبد العزيز الخير، أبرز قياداته عندئذ. لكن الاعتقالات المكثفة والتعذيب قادا طرف الخيط إليها، وفي إحدى ليالي آذار 1992 كانت دورية الأمن السياسي تدهم منزلها. وعندما لاحظ الضابط تشابه الكنية وعلم أنها أخت «سيادة العقيد عدنان» أمر عناصره بإيقاف التفتيش واتصل هاتفياً وقال: «سيدي دهمنا بيت وصاحبته عم تقول إنها إختك» فردّ: «جيبوها فوراً». كان عدنان يريد أن يُبعد عن نفسه شبهة أي تعاطف مع معارضٍ للنظام، وكان مرؤوسه يريد أن يقدم له خدمة ويسجل عليه موقفاً فقال: «سيدي هلق الساعة تنتين بالليل وأطفالها نايمين»، ليرد الأخ: «طيب خلوا العساكر موجودين وأنا الصبح بجي».
في اليوم التالي دخل العقيد ومدير مكتبه وعناصره. قبّل ابني أخته الذاهبَين إلى بيت الجيران وأمر بتفتيش منزل شقيقته ثم قال: «انبسطتي ست فدوى؟ روحي البسي بنطلون بدل التنورة وشرّفي معنا ع الفرع». ردّت: «ما بدك ياني ضل بالتنورة؟ خايف على شرفي من عناصرك؟». ليقترب منها، مفعماً بالغضب وبالدموع، ويصفعها بقوة كضابط مخابرات.
في الفرع حضر رئيس الشعبة التحقيق. وقطعاً لأي جسر قد تتوهمه فدوى نتيجة معرفتها العائلية به سابقاً قال: «عندك أولاد تنين بجيبهن وبدبحهن على فخدك، وبنزلك أنت وأخوك عدنان ع الزنزانة لتعفنوا فيها». وبالفعل، ما سيحصل هو أن السجينة ستقضي سنة في المنفردة، لكن تحت مكتب أخيها الذي استمر في عمله دون أن ينزل إليها ولا مرة، ولا يسمح لابنيها، أو لأمهما، بزيارتها.
بعد عشرين شهراً على الاعتقال أخلي سبيل فدوى وهي قيد المحاكمة. ووفق التقاليد الأمنية كان عليها أن تقابل رئيس الفرع. قام العقيد من وراء مكتبه ومشى فاتحاً ذراعيه ليقبّل شقيقته التي رفضت، كما امتنعت عن التعهد بعدم ممارسة العمل السياسي. وهنا أُسقط في يده فقال أخيراً: «قبل ما تروحي ع البيت لازم نمر ع المشفى، أمنا تعبانة». كانت الأم في غيبوبة من أكثر من عشرة أيام عندما وقف الشقيقان إلى جانب سريرها ففتحت عينيها وأمسكت يد كل منهما بإحدى يديها وجمعتهما بين كفيها قائلة: «برضاي عليكي يا بنتي سامحيه لأخوك، ساوى كل شي بيقدر يساويه». بكى العقيد، وقضت السجينة السابقة الليلة إلى جوار والدتها التي صحَت، وفارقت الحياة في الصباح.
لم تكن تلك هي الدراما الوحيدة في حياة أبو شادي. فقد منحَنا ما لا يفعله ضباط المخابرات عادة حين يتركون وصف البيوت الفارهة التي بنوها في «الضيعة» بالمال الفاسد لأحاديث الجوار. ففي 1999 جرى تصوير المسلسل السوري «الجمل» في المنطقة، وكانت فيلا عدنان مسكناً تلفزيونياً للزعيم المتجبر «الشمالي» الذي يخوض صراعاً دموياً مع «العزيزة» التي سبق له أن خدع زوجها وسلبه قطعة أرض ثم قتله. في مزرعة عدنان كان الشمالي يجمع رجاله المسلحين ويصدر أوامره بالقتل والإغارة ويعذب أحد المشتبهين. وفي الحلقة الأخيرة يلقى مصرعه.
عقب إحالته على التقاعد مبكراً عام 2002 استطاع أحد وجهاء المنطقة، ممن كان عدنان قد سلبهم قطعة أرض، تحريك قضية ضد العقيد المتقاعد الذي اعتقله خلَفه، العقيد علي مخلوف، في إحدى منفردات فرع التحقيق نفسه لأسبوعين، ولما تهيب العناصر من تعذيب رئيسهم السابق فعل مخلوف ذلك بنفسه. بعد ذلك تواترت زيارات عدنان إلى القرية وطالت مدة إقامته في الفيلا برفقة زوجته الثانية. وفي آب 2016 حصل أمر غريب ما يزال غامضاً، عندما سمع الجوار صوت إطلاق رصاص من داخل الفيلا ولما دخلوها عثروا على جثة العقيد وزوجته الثالثة، وحارس المزرعة، غارقين في الدماء.
*تلفزيون سوريا