نشر الكاتب السوري الباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان فراس سواح، بحثا بعنوان: «هل الدين حاجة إنسانية؟»، معتمدا للإجابة على هذا السؤال المعقد «مقاربة تجريبية تعتمد الوقائع التاريخية والأنثروبولوجية والأركيولوجية».
يقدم سواح تعريفا للدين، يعتبره «تصورا للوجود برمته على أنه يتكون من مجالين، مجال قدسي مفارق للطبيعة غير منظور، ومجال طبيعائي منظور يشتمل على كل الظواهر المادية والحية. يجمع هذين المجالين على استقلالهما قوة تصدر عن المجال القدسي، وتنبث في المجال الطبيعائي، لتسبب فيه كل حركة وحياة. وتتجلى هذه القوة للوعي الإنساني من خلال خبرة انفعالية غير عقلية تعطيه إحساساً بالخوف والانجذاب في آن معاً. وتنجم عن استجابة الإنسان لهذه الخبرة صياغات رمزية تحتوي العالم في شبكة من التفسيرات تجعله أقل غموضاً هي الأساطير، وسلسلة من الأفعال تجعله أقل خطراً هي الطقوس».
يعتمد البحث الأكاديمي طريقتين لتعريف الدين، تسمى الأولى بطريقة التعريف التكويني، وهو تعريف يخبرنا ما هو الدين بالإشارة إلى عناصره المميزة عادة، كالاعتقادات والممارسات، وحسب هذا التعريف فإن الدين هو «اعتقاد إنساني بقوة فوق إنسانية مسيطرة وخصوصا بإله محدد». تواجه هذا التعريف انتقادات تعتبره تضييقا لمعنى الظاهرة، وهو ما دفع باحثين لاعتماد «التعريف الوظيفي»، وهو لا يركز على ماهية الدين (اعتقاداته وممارساته على سبيل المثال)، ولكن على ما تفعله هذه الاعتقادات والممارسات للفرد والجماعة ـ والحاجات التي تقوم بتلبيتها، مثل مساهمة الدين في تأسيس رابطة بين معتنقيه، وتشكيل هوية لهم، وتقديم الراحة والأمان النفسي إلخ.. وأحد هذه التعاريف هو أن الدين «منظومة اعتقادات وممارسات تقوم بها مجموعة من البشر لمواجهة القضايا والإشكاليات الكبرى للحياة البشرية».
الإنسان العاقل و»الخبرة الانفعالية» للدين
يعرّف قاموس كامبريدج الدين باعتباره «الاعتقاد بإله أو آلهة وعبادتها» أو «أي منظومة اعتقاد أو عبادة»، وبأنه «فعالية يمارسها إنسان بحماس شديد وبشكل متواتر»، أما قاموس أكسفورد فيعرفه باعتباره «مجموعة من المعتقدات تتعلق بأسباب نشوء العالم، وطبيعته، والهدف من وجوده، خصوصا حين يعتبر من صنع كائن (أو كائنات) أعلى من الإنسان، وعادة ما يتضمن إجراءات طقسية أو عبادية، وميثاق أخلاقي يحكم تصرفات الإنسان»، وبأنه «منظومة اعتقادات وممارسات أساسية محددة توافقت عليها مجموعة من الأشخاص أو الطوائف»، ويتوسع التعريف إلى أن يصل إلى الدين هو أي «شيء يُعتقد به ويتم الإخلاص بالالتزام به؛ نقطة أو موضوعا أخلاقيا أو ضميرا». إضافة إلى توسيعها معنى الدين إلى «أي منظومة اعتقاد أو عبادة» (كامبريدج)، و»منظومة اعتقادات وممارسات أساسية محددة توافقت عليها مجموعة من الأشخاص» (أكسفورد)، تفتح هذه التعريفات بابا واسعا قام سواح بتضييقه، خصوصا حين يصف تجلي القوة الصادرة عن المجال القدسي للوعي الإنساني «من خلال خبرة انفعالية غير عقلية»، في مصادرة ستكشف عن تناقضات ومفارقات.
يعرّف سواح الإنسان بالانتماء إلى فصيلة الرئيسيات التي «تضم مجموعة من العائلات القردية، أهمها الشمبانزي والغوريلا» مبينا أن السلوك الثقافي هو الذي ميز الإنسان عن الحيوانات مشيرا إلى أنه كل سلوك ينجم «عن تفكير وتمييز عقلي»، متابعا نشوء إنسان النياندرتال وظهور «الإنسان العاقل»، وفي الحالتين نلاحظ استخدام كاتب «مغامرة العقل الأولى» لكلمة «عقل» و»عاقل»، وهو، لو دققنا، يضع تناقضا ممكنا بين السلوك الديني للإنسان العاقل، مع الفكرة الواردة في توصيف سواح لـ»الخبرة الانفعالية غير العقلية» في الدين.
يشتغل سواح، في مقاله، على تأكيد تعريفه للدين و»استمرارية ثنائية عقيدة المجال القدسي والقوة السارية في الطبيعة»، عبر أمثلة تبدأ من إنسان نياندرتال وسحرة القبائل البدائية مرورا بكهوف الإنسان العاقل الأوروبية، وصولا إلى الهلال الخصيب وآسيا الصغرى، وحين يعيد السؤال، هل نحن في حاجة إلى الدين، ينتقل الباحث فجأة من «التعريف التكويني» إلى «التعريف الوظيفي» للدين، مشيرا إلى أن الإجابة تقتضي «أن نعرف ما هي الحاجة التي يلبيها الدين»، مناقشا «النظرية العاطفية» التي تقول إن «الدين نتاج لعاطفتين رئيسيتين عند الإنسان، هما عاطفة الخوف من الموت، وعاطفة الرغبة في الخلود بعد الممات».
النظرية العاطفية بين المشبهة والمنزهة
ينقض سواح هذه الأطروحة بدعوى أن «أي نظرية تطرح لتفسير عدد من الظواهر المتكررة والمتشابهة تبقى مجدية، حتى يثبت عدم مقدرتها على تفسير بعض الظواهر الداخلة في مجالها»، فإذا وجدنا، بالتالي، أمثلة عن «معتقدات دينية لا أثر فيها لفكرة خلود الروح الفردية، أو لعالم أفضل ترحل إليه أرواح الموتى، فإن النظرية العاطفية تتهاوى». المشكلة هنا، في رأيي، أن موضوع المقالة يبدو متناقضا بين فكرة عدم حاجة الإنسان للدين وكون هذه الحاجة عنصرا مؤسسا في الإنسان، فلو قبلنا باستخدام «النظرية العاطفية» نفسها من دون تضييق وابتسار حدودها، سنجد أنها تتسع لشتى الظواهر الدينية، سواء كانت العاطفة وراءها الخوف أو الرغبة، أو العكس.
إن تاريخ الفكر الديني هو أيضا تاريخ إسباغ معنى على العالم، وهو، لهذا السبب بالذات، تاريخ للانحراف المستمر عن «الطريق القويم» للوصول إلى معنى قديم أو جديد، بالتفاعل بين الشرط البشري والتغيّرات المستمرة للواقع، وبأشكال الصراع الإنسانية المستمرة. تاريخ الدين، بهذا المعنى، هو أيضا تاريخ الكفر، فكل دين، من حيث المنطق، هو كفر بما سبقه. تذكر مناقشة النظرية المذكورة بالخلاف الذي حصل في الفكر الإسلامي بين المشبهة (المجسّمة والحشوية)، الذين يفسرون آيات القرآن تفسيرا حرفيا، ومنها أن الله يحده العرش وأنه موجود في جهة، وأن لديه يدين وقدمين وعينين ووجها؛ والمنزهة، الذين يرفضون فكرة تجسيد الله، وقد عالج الفكر الإسلامي بعدها هذه المعضلة، على ما يشير نصر حامد أبو زيد في أحد كتبه، بالقول إن الله يتجسد عندما يريد ويتنزه عندما يريد.
من الدماغ إلى الاجتماع
نتفاجأ بعد عرض نظري ووقائعي ثر ومحرك للفكر بوصول سواح في الخاتمة، إلى نتيجة أن «الدين ليس حاجة إنسانية»، وذلك بعد أن طرح أن سبب التدين هو «وجود طبيعة أصلية في الإنسان تجعل الدين ممكنا»، وأن علماء الجينات اكتشفوا «جينة في النظام الوراثي للخلية الإنسانية تعمل على توليد الإحساس بالقدسي»، وهو ما يبدو مقدمة تتناقض مع النتيجة، فإذا كانت الحاجة للقدسيّ مزروعة ضمن العنصر الحيويّ الأساسي المكون للإنسان، فكيف لا يكون الدين حاجة إنسانية؟ والأغلب أن مقصود سواح هو أن النزوع للقدسي هو قدر جينيّ الإنسان لكنّ وعيه لهذا الأمر سيجعله قادرا على الخروج من هذا الميل للديني والقدسي.
عرضت، في مقالة سابقة لي، لكتاب «ألغاز الثقافة: أبقار، خنازير، حروب وساحرات» لمارفن هاريس، وفيه يقدّم الأنثروبولوجي الأمريكي تفاسير عقلانية لمقدسات ومحرمات دينية، كتحريم الهندوس لذبح البقرة، والمسلمين واليهود للحم الخنزير، شارحا أن المنظومات الدينية تنبع من أنماط الحياة التي تبدو، لأول وهلة، لا عقلانية وغير قابلة للتفسير، فالعناصر المختلفة للثقافة، «يجب أن تبدأ بافتراض أن الحياة الإنسانية ليست نزوة أو محض عشواء»، وأن أكثر المعتقدات والممارسات غرائبية «يستند إلى الأرض وهو نتاج تراكم الأحشاء والجنس والطاقة والريح والمطر، وباقي الظواهر المحسوسة والعادية». وصل سواح إلى أن الميل للقدسي مطبوع في الدماغ البشري نفسه، ولكن هاريس يعطينا مفاتيح أكثر لحل اللغز، فبرأيه إن الحفر في الظواهر اللاعقلانية يؤدي لاكتشاف العقلاني فيها، وإن أنماط الحياة مغلفة بالأساطير والخرافات، وإن هذه الأغلفة (التي تعطي الهوية لمجموعة إنسانية) لا تفعل غير أن تخفي الحقائق العارية للحقائق الاجتماعية. الميل للقدسي، بهذا المعنى، ليس من مكونات الكيمياء البشرية للدماغ فحسب، بل هو مشتبك أيضا مع الحقائق العارية للحياة الاجتماعية.
*القدس العربي