مدفوعة بالأهمية الكبـــيرة لألبرت آينشتاين، كلفت «عصبة الأمم» (سلف «الأمم المتحدة» الحالية التي أنشئت بموجب اتفاقية باريس للسلام عام 1920)، عالم الفيزياء الألماني الشهير بإيجاد حل نهائي يوقف الحروب البشرية من خلال لجنة تضمه بين أعضائها سمتها «منظمة القادة الفكريين».
تقبل آينشتاين المهمة وأرسل عام 1932 رسالة إلى عالم النفس النمساوي، الذي لا يقل عنه شهرة، سيغموند فرويد، المولود عام 1856 في التشيك (التي كانت جزءاً من الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية) يطالبه فيها بإيجاد حل لقضية الحروب برسالة يقول في أحد مقاطعها: «كشخص محصن من الانحيازات القومية، أرى طريقة بسيطة للتعامل مع المظاهر السطحية (مثلا: الإدارية) للمشكلة: بموافقة دولية، يتم إنشاء جهاز تشريعي وقضائي لحل أي خلاف ناشئ بين أمتين. تلتزم كل أمة بالقرارات الصادرة من الجهاز التشريعي بتطبيق القرار في أي نزاع، وبالقبول بالحكم من دون أي اعتراض، ولاتخاذ كل الإجراءات الضرورية المطلوبة لتطبيق القرارات». طرق فرويد موضوع الحرب بأشكال كثيرة وكان قد كتب مقالة مهمة بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب العالمية الأولى بعنوان «أفكار لزماننا حول الحرب والموت» (1915) يقول فيها إن الحرب «تعكس مظاهر بدائية جدا في تنظيم وتأسيس النظم الأعلى»، وإنه «رغم ما في تلك الحرب من رعب وآلام، لكنها لا يمكن أن تقطع تطور العلاقات الأخلاقية بين المنظومات الجماعية للبشرية والدول».
كان فرويد، اليهودي المولد مثل آينشتاين، يحتقر الأديان ويعتبرها عصابا جماعيا واضطرابا عصبياً ونوعا من الحنين للأب، ووهما لتحقيق رغبة غريزية وغير ذلك.
في رده على آينشتاين ركّز فرويد على عدة عناصر منها تحليله للنفس البشرية باعتبارها تحتوي قوتين متعارضتين: القوة الجنسية (الحب) والقوة التدميرية (الموت) ويقترح حلولا يعتبرها مؤقتة للحرب، منها نشر الثقافة السلمية بالاعتماد على مؤسسات دولية كبرى وتأسيس عصبة أمم، لكن ما يثير الاهتمام في رسالته الحديث عن تصارع الرغبات، باعتبارها سببا ماديا للحروب، ممثلا ذلك بوجود رغبتين متصارعتين على امتلاك الشيء نفسه (لنفترض أنه أرض أو بلاد). لكن الخلاصة النهائية لفرويد كانت أن الحروب غير قابلة للحل ولا يمكن منعها!
رد آينشتاين بسرور شديد على رسالة فرويد معترفاً بأنه كان مقتنعا بعدم أهمية دوره في «لجنة القادة الفكريين»، واصفا نفسه بأنه كان مجرد الصنارة التي تغري السمكة بالتقاط الطعم، وأن رسالة فرويد له كانت شديدة الأهمية، وأنه لا يعلم ماذا يمكن أن ينتج من هذه البذرة التي وضعاها (وهو ما سيحصل بعضه فعلاً مع تأسيس الأمم المتحدة والمحاكم واللجان الأممية).
كان فرويد، اليهودي المولد مثل آينشتاين، يحتقر الأديان ويعتبرها عصابا جماعيا واضطرابا عصبياً ونوعا من الحنين للأب، ووهما لتحقيق رغبة غريزية وغير ذلك. كما كان معارضاً للحروب وذا نزعة سياسية سلمية، وقد عانى الاثنان بشكل شخصي من سطوة النازيين فأعلن آينشتاين تخليه عن جنسيته الألمانية لأسباب سياسية وغادر ألمانيا إلى أمريكا عام 1933، واضطر فرويد للهرب من وطنه النمسا وبيته عام 1938 (وسوف يتوفى بعد عام واحد في لندن بموت اختياري للتخلص من آلام السرطان بعمر 83).
بعد عام واحد من وفاة فرويد اكتشف ثلاثة علماء ألمان كيفية شطر ذرة اليورانيوم، فكتب آينشتاين رسالة إلى الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت يحذره فيها من النتائج الخطيرة لهذا الاكتشاف، ما ساهم بدفع الحكومة الأمريكية عام 1941 لبدء ما يسمى «مشروع مانهاتن» لتطوير القنبلة الذرية، أما آينشتاين فكوفئ بحرمانه من التصريح الأمني للتواصل مع العلماء الذين عملوا على المشروع باعتبار أن ميوله السياسية «يسارية».
إحساس آينشتاين بالذنب عن مقتل مئات الآلاف من سكان هيروشيما وناكازاكي آينشتاين دفعه لاحقا للعمل ضمن حركة نزع السلاح العالمية، وبذلك التحق، في مسلكه السلمي، بسلفه فرويد.
أصاب إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، اليابان، عام 1945 آينشتاين بانزعاج شديد، واضطر بعدها للتأكيد مرارا وتكرارا أنه لا يعتبر نفسه الأب المسؤول عن إطلاق الطاقة الذرية، وأن دوره كان غير مباشر. دفع هذا الإحساس بالذنب عن مقتل مئات الآلاف من سكان هيروشيما وناكازاكي آينشتاين لاحقا للعمل ضمن حركة نزع السلاح العالمية، وبذلك التحق، في مسلكه السلمي، بسلفه فرويد، ولابد أنه تذكر مراسلتهما الشهيرة قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية وانتقاله من الفكرة الأفلاطونية عن «لجنة القادة الفكريين» للعالم إلى العالم الواقعي للسياسة.
إضافة لموضوع القنبلة الذرية الذي سيطارده بقية حياته، سيتعرض آينشتاين لامتحان كبير آخر حين عرضت عليه «دولة إسرائيل» رئاستها بعد وفاة رئيسها الأول حاييم وايزمان عام 1952. مقصود إسرائيل من العرض مفهوم طبعاً وهو استغلال اسم أشهر عالم فيزيائي في التاريخ، وربطه بإسرائيل في استثمار سياسي هائل وشديد الربحية.
لآينشتاين، مع ذلك، دور في تأسيس «الجامعة العبرية»، ولديه بعض التصريحات التي تعتبر أن للصهيونية جذورا في التقاليد الروحية اليهودية، وكان قريباً في أفكاره من اليسار الصهيوني، لكنه كان مؤيدا لدولة تقوم على تعاون عربي ـ يهودي، ومعارضا لفكرة دولة يهودية «لها حدود وجيش»، والأهم من ذلك أنه كان أحد كتاب رسالة ضد مناحيم بيغن وحزبه نشرت في «نيويورك تايمز» عام 1948 للتنديد بمجزرة دير ياسين. شبه آينشتاين في رسالته حزب بيغن «الحرية» بالأحزاب الفاشية والنازية، وحذّر فيها مما سماه بـ«الفاشية الصهيونية» (وهو تشبيه صار من المحرمات الآن، ويعتبر دليلا على «معاداة السامية» حسب تعريف «التحالف الدولي لذكرى المحرقة»). رفض آينشتاين العرض المقدم له بدبلوماسية قائلا، إنه تعامل طوال حياته «مع قضايا موضوعية، ولذلك فأنا أفتقر للموهبة الطبيعية والتجربة للتعامل بشكل جيد مع الناس وللقيام بوظائف رسمية».
رغم انتباهة بعض الباحثين لأهمية الآراء التي تبادلها عالما النفس والفيزياء الكبيرين عام 1932 لكنهم لم يقدروا، على ما أعتقد، أثر كلمات فرويد الكبير على زميله الذي كان يصغره 23 عاماً، والدور الذي لعبته في حياة آينشتاين.
لقد تعرضت البشرية بعد تلك الرسائل لظروف طاحنة تركت مئات ملايين الضحايا من القتلى والجرحى واللاجئين وأدى «الحل النهائي» للمسألة اليهودية على الطريقة النازية إلى مسألة فلسطينية تم تدفيع ثمنها لشعوب المنطقة العربية وخصمت الفاتورة الباهظة الأولى من حساب الشعب الفلسطيني.
لقد شهد آينشتاين ما وصفه فرويد في رسالته بـ«التنازع على مكان واحد» ولم يحصل، كما كان يأمل، من «تعاون عربي ـ يهودي» بل مجازر وحروب وتأسيس دولة دُعي لرئاستها فرفض، ومثلما تحدث عالم الفيزياء عن شديد امتنانه وعرفانه لفرويد، فليس صعبا علينا افتراض أن هذا العرفان والامتنان يمتدان إلى موضوع رفضه لرئاسة إسرائيل.
المصدر : القدس العربي