يقوم الشاعر التشيلي الأشهر بابلو نيرودا حسب النص الإنكليزي لمذكراته بالإمساك بمعصم فتاة من وجرّها إلى سريره وتعريتها وممارسة الجنس معها من دون إرادتها، وهو ما ينطبق عليه تعريف الاغتصاب.
غير أن الأسوأ من ذلك كان أمراً انتبه له الروائي والكاتب المصري شادي لويس بطرس حين قارن طريقة ترجمة الحادثة المذكورة في مذكرات نيرودا المكتوبة بالإسبانية في نسختين، الأولى أنجزها محمود صبح بالعربية (بعنوان: «أعترف بأنني قد عشت»)، والثانية قام بها هاردي سانت مارتن بالانكليزية (بعنوان: «مذكرات – بابلو نيرودا»).
يقدّم النصّان عملية العنف الجنسيّ التي قام بها نيرودا مع خادمة من الطبقة الدنيا في سيلان (سريلانكا الحاليّة) حين كان قنصلا لبلاده هناك، والمفاجأة التي يكشفها بطرس هي قيام المترجم العربيّ ببعض التحريف والإضافات التي يمكن تأويلها على أنها إضفاء لطابع تجميليّ للاغتصاب (إضافة للتجميل الذي قام به نيرودا نفسه!).
يصف نيرودا ثياب المرأة بأنها «من أرخص الأنواع» أما المترجم العربي فيقول إنها «خشنة»، وفي الإنكليزية يرد وصفها بـ»حيوان الغابة»، أما في العربية فترد «الغزال النفور»، وفي الإنكليزية يقول المترجم إن عينيها «كانتا بدون أي ردّ فعل»، وبالعربية «ساهمة»، وفيما يقول النص بالإنكليزية إنها «استسلمت»، يقول النص العربي إنها «انصاعت» ثم يضيف إليها كلمة من عنده هي «وتأوّدت» أي تثّنت وتمايلت (كما في بيت أحمد شوقي الشهير: وتأودت أعطاف بانك في يدي واحمرّ من خفريهما خداك).
في ذروة مشهد الاغتصاب قرّر المترجم العربيّ، على حدّ قول بطرس على صفحته في «فيسبوك» أن «يعمل مغامرة جامدة جدا»، بإضافة ثلاث عبارات أخرى من خياله، ليست موجودة في الأصل الاسباني أو الترجمة الإنكليزية، «ومن دون أي سبب مقنع»: «وعرّيتها دون أن تبدي حراكا، أملتها على السرير فمالت، أنمتها فنامت»، متسائلا عن السبب الذي دفع المترجم لهذه الاستفاضة، والتي يمكن تأويلها بسهولة أن المرأة كانت مسرورة باغتصابها أو أنها تفاعلت إيجابا مع مغتصبها!
صف نيرودا ثياب المرأة بأنها «من أرخص الأنواع» أما المترجم العربي فيقول إنها «خشنة»، وفي الإنكليزية يرد وصفها بـ«حيوان الغابة».
هل كان نيرودا مغتصباً فعلا؟
لا اللغة الشعرية لنيرودا ولا الترجمة الإنكليزية قادران على إخفاء الأمر: إنه اغتصاب معلن مكتوب بطريقة شعريّة، لكنه جرى في سياق تاريخي مغاير لزمننا، ونحن هنا نتكلم عن عام 1928، وفي سياق اجتماعيّ مختلف أيضا حيث أنه انتهاك جنسيّ يقوم به دبلوماسي أجنبيّ مع امرأة من الطبقة الدنيا، وهو أمر قد لا يترتّب عليه عقاب أو عواقب، فلم تكن هناك سطوة في تلك الجغرافيا لقضايا حقوق المرأة وشؤون تحررها، وهذا ربّما ما يجعل من النص اعترافاً جريئا من الكاتب الشهير لا يرتّب مسؤوليات جسيمة عليه، وإلا لما قام بذكره لو كان سيحاكم وسيتم التشهير به، كما حصل مثلا في أمثلة لاحقة مع أدباء آخرين اتهموا بالتحرش أو الاغتصاب.
من ذلك حادثة اتهام الشاعر الكاريبي ديريك والكوت عام 1982 بالتحرّش بطالبة لديه، لكن التحرّش كان من خلال سؤال للطالبة ان كانت تريد ممارسة الجنس معه بدل مناقشة الشعر، وانتهى الموضوع بقرار جامعة هارفارد إنجاح الطالبة في امتحانها بعد أن قام الشاعر الشهير الحائز على نوبل للآداب بحرمانها من النجاح.
وهناك حوادث عربيّة منها اتهام ألكسندرا شريتح (الروائية اللبنانية صاحبة «دائما كوكاكولا» و«علي وأمه الروسية»)، للروائي اللبناني رشيد الضعيف، والتي ردّ الضعيف عليها برفع دعوى تشهير قانونية ضدّها، وهو حدث يحتاج تحليلا أدبيّا ونفسيّا يخرجه من إطاره التشهيري والقضائي ولا مجال كافيا لخوضه في هذه المقالة.
هناك تراث طويل يتحدث عن أن الترجمة «خيانة» للنصّ الأصليّ، يبدأ مع المثل الإيطالي القديم بأن «المترجم خائن»، ويستمر في أقوال أدباء ومترجمين كثر، منهم الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي يقول إن «الإخلاص في الترجمة للمعنى فحسب هو نوع من الخيانة»، بل إن خورخي لويس بورخيس، بطريقته الساخرة، يرفع الأمر درجة أعلى حين يقول إن «الأصل غير أمين لترجمته»!
في المقابل فإن أقوالا أخرى لمؤلفين ومترجمين تؤكّد على أهمية الإخلاص في المعنى للنص، فـ»على المترجم أن يكافح ليس ليقول ما قاله المؤلف الأصلي بل ليقوله كما قاله» (جون كونينغتون)، أما الروائي الأمريكي – الروسيّ فلاديمير نابوكوف فيرى «ثلاث درجات من الشر في الترجمة: الأخطاء، العثرات، وتعمّد إعادة التأليف».
تذكّرنا قضية «إعادة التأليف» برواية «المترجم الخائن» للروائي السوري فواز حداد، حيث يقوم بطل الرواية بتعديل نص رواية يترجمها وتتحدث عن شاب افريقي ذهب للغرب ودرس وتفوق واستقر في أوروبا تاركا بلده الذي يعيش الفقر والتخلف فيجعل البطل يعود إلى بلده «ليساهم بدور في تقدّمه»، وهو ما يؤدي إلى التشهير بالمترجم واستدعائه لفرع للمخابرات وتطلقه زوجته التي تمضي بأولاده بعيدا عنه، فتستدعي «الخيانة» التي قام بها للنصّ معاني الخيانة الزوجية والوطنية والأدبية.
أحد المترجمين، على رواية صحافي سوريّ صديق، كان مكلفا بترجمة مقالات الصحف الأجنبية، وأغلبها كانت تنتقد نظام الحكم في سوريا، فكان المترجم، خلال الترجمة، يقوم بكتابة تعليقاته التي تستنكر وتدين وتخسّئ الامبريالية وعملائها من صحافيين!
هل يمكننا أن نشبه إضافات الدكتور محمود صبح لنصّ نيرودا بتعليقات المترجم المذكور المدافع عن سياسات نظامه؟
هل كانت تلك الترجمة «خيانة» فقط أم كانت «اغتصابا» مضاعفا (أو على ربما تجميلاً شعريّا للاغتصاب)؟
صبح هو أكاديمي فلسطيني مقيم في مدريد منذ عقود طويلة، ونشره للكتاب حصل عام 1975 أي في حقبة لم تعد فيها الحادثة التي ذكرها نيرودا مقبولة قانونياً أو أخلاقياً أو سياسياً، لكنّ المترجم الذي يلمّح إلى اعتراضه على بعض الآراء السياسية لنيرودا مثل «رأيه في حرب العصابات، وتحامله على ماوتسي تونغ وفيديل كاسترو» ويؤكد أنه لم يدحض آراء الشاعر السياسية والأدبية «تجنبا للإطالة»، فلم يجد الحادثة الجنسية أمراً يستدعي الدحض، كما الوقائع السياسية، أو حتى لفت الانتباه إليها، وبناء عليه يصعب علينا ألا نقوم باعتبار إضافات صبح، وهو شاعر أيضاً، تزيينا أدبيّا للاغتصاب فوق التجميل الذي قام به نيرودا نفسه، دعاه إليه حبّه وإعجابه لنيرودا مما حفزه على تمثّل المشهد بطريقة تنزّه الشاعر التشيلي الكبير أكثر مما نجح هو نفسه في تنزيه نفسه!
يخترق اعتراف نيرودا محرّمات عديدة فالشاعر المعروف بشيوعيّته، وهي أيديولوجيا تعطي اعتبارا افتراضيا كبيرا للطبقات المسحوقة، قام بفعل طبقيّ مستنكر بشدّة، وهو كشخص مثقّف لا يمكن ألا يكون، حتى في تلك الحقبة القديمة، يتقبّل هذا الفعل الجنسيّ العدوانيّ ضد أي امرأة، فما بالك بامرأة من طبقة دنيا؟
أما موقف المترجم فهو أيضاً يحتاج تحليلاً وتفحّصا لمعانيه الواضحة أو الخفيّة، فتحفّظاته التي أعلنها على نيرودا كانت من طبيعة سياسية فقط ولم تتطرّق لشؤون أخرى.
في حوار معه، يقول صبح إن «في الترجمة من الخيانة لكثيرا»، وإنه في الترجمة من الإسبانية للعربية وبالعكس «مرة أخون هذه ومرة أخرى أخون تلك، وثالثة الأثافي أنني في معظم الأحيان أضع النص الأصلي إزاء نص ترجمتي، لكي تتبدّى الخيانة وتظهر المفارقة أثناء مقارنة النصين معاً، حتى أدان وأرجم»، مضيفاً: «فأنّى لي أن أدخل الجنة»!
والحقيقة أن مقالتنا لا تقصد الإدانة والرجم وجل مأمولها هو التفكّر والتأمّل والتقصّي في قضيتي الأدب والترجمة.
أيادي محمود صبح كبيرة على الثقافتين العربية والإسبانية، وكذلك شأن الشاعر الكبير بابلو نيرودا، ولكن هل يُنسينا حبّنا للشاعر وإعجابنا بالمترجم ما جرى في حق تلك المرأة السريلانكيّة المغتصبة عام 1928 وأنها كانت ضحيّة للشعر والترجمة معاً؟
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
رابط المقال من المصدر: