بعد عقبات عديدة، تمكن كتاب «نوتات الكيميائي» من الوصول إليّ، بعد أن استلمه مستأجرو بيتي السابق اليونانيون واتصلوا بي مستغربين، ربما، من اسم شخص عربيّ على ظرف مقبل من «إسرائيل». ضاع الكتاب بعدها وتلاعبت به جزيئات وذرات الحرفيين، الذين احتلوا منزلي الجديد، إلى أن قرر ملك الكهرباء أن يخرج عددا كبيرا من الصناديق من تحت الدرج، لأجد كتبا وأغراضا كنت أفتش عنها، ولعلّ كاتبه، أشرف إبريق، كان سيجد معادلة لوصف هذه الأحدوثة تمزج بين الكيمياء، وهو عالم فيها، والمجالات الأخرى العديدة التي يقاربها، من متن الفيزياء والبيولوجيا، إلى هوامش الشعر والرواية والسينما.
وجدت الكتاب بديعا، للعموم، لأنه يفتح الباب للمشغولين مثل الأستاذ إبريق بالتفتيش عن المعاني الغامضة الكامنة، التي تبدأ من الذرات الصغيرة، وتمرّ بعقولنا وأجسادنا والعناصر المحيطة بنا، من تأملنا في السماء والبحر والأرض والعوالم الأخرى، وصولا إلى القضايا التي تبدو بسيطة وبديهية، كالحب والقبلة والأغنية والهواء الذي نتنفسه، أو تبدو معقدة وملغزة، كالموت والجنون والسعادة.
الكتاب مهمّ، للمشغولين مثلي باكتشاف «نظرية كل شيء»، كما يقول عنوان فيلم يقدم سيرة عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوكنغ، فكاتب «نوتات الكيميائي» قرّر، لحسن الحظ، الخروج من كهف عالم العناصر الأولية وتفاعلاتها، للتفاعل، مع القراء، بعد أن اكتشف، كما يقول في مقدمة كتابه، الفيسبوك، وشارك من خلاله الجمهور قدرته على «تفسير الكثير مما يدور حولنا»، ورغم توجسه من ذلك، لأنه «كأي تجربة كيميائية، نحن نعرف ما نخلطه ولكن في أغلب الأحيان لا نضمن ما سينتج»، فقد خلص من التجربة بإفادة مهمة وهي أن «العلماء، وإن عظمت مكانتنا العلمية، نعيش بوحدة وعزلة موحشة في مجتمعاتنا، إذا لم نتقرب للأفراد والمجموعات من غير عالمنا العلمي النخبوي».
الهيدروجين عديم الشخصية والليثيوم الناري
في الطريق بين التوجس والاكتشاف، أنتج الأستاذ إبريق مقاربات مثيرة للتفكر، كما فعل حين قدّم توصيفا للعناصر يمكن للبشر أن يجدوا أنفسهم ضمن نماذجه، ومن ذلك توصيفه للهيدروجين مثلا، الذي يبدو كذلك وصفا لمئات ملايين البشر، فهو واسع الانتشار، عديم اللون والطعم والرائحة، بحيث يبدو «عديم الشخصية ولكن ما أن تلمسه شعلة، ينفجر ويحترق مع الأوكسجين، ويضحي بنفسه ويهبنا الحياة (الماء)»، إلى الليثيوم «المزاجي الناري الذي لا يحب بيئة فيها ماء أو هواء»، والفضة «مقاوم الظروف الصعبة، ولا يتآكل أو يتأكسد بسهولة، وهو يتبع نخبة المعادن التي تزيد المكان جمالا وقيمة»، والكربون الذي هو أساسي في بناء كل مكونات الحياة المهمة، والذي يرى فيه الكاتب «الأشخاص الذين يبنون من حولهم الحياة بقيمتها، والذين إن قست عليهم يعطون أجمل ما فيهم».
يكشف أشرف إبريق ثقافته الواسعة المشغوفة بالحياة، والمنهمكة في الخلط والمزج بين التجارب والملاحظات والباحثة في العلوم، كما المنخرطة بالقراءات الأدبية والمشاهدات التلفزيونية والمتابعات الموسيقية، لتنتج عن ذلك مراكمة كبيرة للمعرفة العامة.
يتابع إبريق مثلا المسلسل الأمريكي الشهير Breadking Bad حول أستاذ الكيمياء الذي تطوّر، ليصبح منتج مخدرات، ثم قطبا يتصارع مع زعماء المافيات التي تسيطر على إنتاجها وتوزيعها، ويتابع، في نصوصه، هذا الاشتباك بين الكيمياء والحياة، فيلتقط اشتباك العلاقة بين مرض الإيدز مع صراع العلماء والساسة، وينتقل إلى زمن كورونا، مبتدئا، بالتغيّر الفرديّ الذي طرأ عليه، من خلال اضطراره لصنع فنجان قهوة عادي، ومفكرا في التغيّر العام الذي سيطرأ على العالم بسبب التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
مجنون ليلى وأحمر الشفاه المسموم
يقوم إبريق، في بداية كتابه، بتقليد قصيدة محمود درويش «سجل أنا عربي»، مغيّرا كلماتها إلى «سجل أنا كيميائي»، والمقصود، على الأغلب، ليس إقامة تناقض بين الهويّة الإثنية والهوية العلميّة، فاختيار القصيدة بحد ذاتها، وكذلك الإشارات العديدة في كتابه إلى نصوص كتاب فلسطينيين وعرب، وأعمال علمية لعلماء يهود، لا تسمح بمقاربات حادة بخصوص الهويّة بقدر ما تشير إلى اتساع أفق العالم ورؤيته الفسيحة للعالم وتناقضاته السياسية القاتلة.
هناك، مع ذلك، مقاربة نقدية محسوسة للعلاقة الشائكة بين السياسي والعلمي، كما فعل حين شرح الخلاف الذي ظهر بين العلماء الفرنسيين والأمريكيين على اكتشاف داء الإيدز، الذي لم يمكن حلّه إلا بتدخل السياسيين من البلدين، ثم بتدخّل المنظومة العلمية بإعطائها جائزة نوبل للعالم الفرنسي الذي قال إنه اكتشفه.
غير أن عودة المؤلف، مرات عديدة، إلى الشعر، واستخدام الأسلوب الشعري في شرحه «الكيمـــــيائي» للمـــوت، وكذلك شاعرية المواضيع التي يختارها، من اللون الأزرق، إلى القـــبلة وأحمر الشفاه المسموم، إلى الخطّ العربي، والسحاب، ومجنون ليلى الذي «لم يكن مجنونا»، وصولا إلى محاولة معرفـــة «ماذا تريد النســــاء»، وأســـباب السعادة… كلها إشارات إلى تمكن الشعر من كيمياء المؤلف، ووصوله إلى خلطة شعريّة للعالم تحاول، كما فعل الخيميائيون في العصور القديمة، الوصول إلى «حجر الفلاسفة» وروح المعنى، وتحويل المعادن «الخسيسة» إلى ذهب!
الطريق الكيميائي إلى إيثاكا
تمثل مقالة «السعادة بين الروحانيات والجزيئات» إحدى المقاربات الممتعة لهذا الجدل المرير بين الكيميائي والخيميائي، فيدور الحديث عن جزيئات كيميائية خاصة، «تداعب العقل» وتتركب من «ذرات متحابة ومتكاملة في مبناها»، بحيث تسمى «جزيئات السعادة»، ويفصّل أكثر فيحكي عن جزيء السيروتونين الذي يؤدي للشعور بالأمان والثقة، واحترام الذات، وكيف أن شركات الأدوية تستخدمه لحالات الكآبة، وهرمون الدوبامين الذي يولد الإدمان على المتعة والرغبة في المزيد، والأندروفين الذي يفرز عند الرياضة والعلاقات الجنسية، والأوكستوسين «هرمون الحب»، وكيف أن إفراز هذه العناصر بنسب وأوقات مختلفة يؤدي لـ»السعادة».
من هذا الحديث الإكلينيكي يرجع المؤلف إلى كتابين بعنوان واحد: «كيمياء السعادة»، واحد للإمام الغزالي كتبه قبل نحو ألف عام، وآخر للكاتب المصري حسين أحمد أمين، ليصل بعدها لوصف إحساسه الشخصي بحياة سعيدة، معرفا السعادة بأنها شعور داخلي قوي «يستمد قوته من الروح، القناعات، الإيمان وتجارب الحياة القوية المؤثرة في داخلنا والعبر والدروس التي نتنباها لحياة أفضل ومليئة بالمعاني والقيم»، ومن «الحب غير المشروط» للأبناء والعائلة، والإخلاص للأصدقاء، و»تقدير الأمور البسيطة من حولنا»، كالطبيعة، والفن، والعمل، خاتما بفكرة مهمة (تذكر بقصيدة كافافيس الشهيرة «الطريق إلى إيثاكا») وهي أن «الطريق لأي هدف مهما طال هو السعادة بحد ذاتها».
لا يقوم إبريق بإقامة جدار الصين بين العناصر الكيميائية و»الخيميائية»، وليس مشغولا بإقامة تضاد حاد بين العلم والدين، أو بين جزيئات الحب ومشاعر الحب، فالعلم يفسّر لكن الإنسان، في النتيجة، بسبب شرطه البشري، يمكن تعريفه بأنه مجموعة من الذرات والجزيئات، وإذا كان مكتئبا يمكننا إعطاءه «بروزاك» و»اليكسابرو»، لكن التفاعل الكيميائي لا يضمن، كما هو معلوم، السعادة، إذا لم يكن الإنسان مؤمنا بشيء أو يسعى لشيء أو يستمتع بشؤون الحياة البسيطة وليس بابتلاع حبة الدواء.
*القدس العربي