حسام الدين محمد: ملحن «الإبادة».. في نزوع «النخبة» الفنّية إلى الطغيان

0

في واحد من لقاءاته الكثيرة على وسائل الإعلام طالب الملحن المصري حلمي بكر من الرئيس عبد الفتاح السيسي بإنقاذ البلاد من «الصراصير والحشرات في مطبخ مصر الغنائي». المقصود من هذا التشبيه البشع هم المغنّون المصريون الجدد الذين اتخذوا اسم «مطربي المهرجانات»، وبما أنه تم توصيف هؤلاء المغنين بـ«الحشرات» فقد كان بكر صريحا في طريقة التعامل معهم وهي «الإبادة»
بكر هو ملحّن قديم وهو أيضا «رئيس لجنة الاستماع في الراديو» المصري، وبصفته الأخيرة كان مسؤولا عن رسوب محمد منير وعمرو دياب ومحمد فؤاد ومصطفى قمر وحميد الشاعري في «امتحانات الإذاعة»، وحين أصبحوا مغنين مشهورين، وصار لوسائل الإعلام، ومنها الإذاعة التي يعمل فيها، منافع من إذاعة أغانيهم تجسد انتقام بكر، عبر الهزء بهم والسخرية منهم عبر استبدال مصطلح «الأغنية الشبابية» التي شاع عليهم سماها «الشباشبية»، وقد استطاب بكر هذا الموقع فجرّ لسانه ضد كثيرين، فقال عن وردة التي كانت سبب دخوله عالم الفن بأنها «ركبت موجة الهوجة الجديدة»، واتهم لطيفة بأنها دخلت الفن بسبب إعجاب محمد عبد الوهاب بساقيها، ووصف فرقا شعبية بـ«المساطيل والشحاتين».
ولا نعلم إن كانت صفتا بكر «السلطويتان» كملحن وموظف في الإذاعة هما اللتان دشّنتا صيرورته مرجعا إعلاميّا لا يتوقف ظهوره على التلفزيونات لإصدار أحكامه الباتّة واقتراحاته المخيفة لطرق التعامل مع موجة المغنين الجدد، لكنّ المسألة تتجاوز بكر وتفيض عنه، فإذا كان بكر يملك سلطة «ترسيب» المتقدمين لامتحان الإذاعة، ومطالبة الرئيس بالقضاء على «الصراصير»، فإن زميله المغني هاني شاكر، رئيس نقابة المهن الموسيقية في مصر، قام فعليا بإصدار قرار بمنع المغنين الجدد من الغناء.
الكاتب والشاعر المصري فاروق جويدة قام بتقريظ القرار مذكرا بأنه طالب يوما «بإنشاء شرطة لمطاردة هذا النوع من الفنون، أسوة بشرطة الآداب والمخدرات وبيوت السوء»، مضيفا بأن «القرار تأخر كثيرا من الوقت، إلا أنه جاء ليواجه واحدة من أخطر وأسوأ أزمات الفن المصري»!
يشكّل هؤلاء الثلاثة: الملحّن والشاعر و«نقيب المهن الموسيقية»، نماذج لظاهرة «النخبة» الثقافية /الفنّية الرجعيّة الحانقة من طرق اشتغال الواقع وعدم وقوفه على حاله السابقة التي رفعتهم إلى مقاماتهم الحاليّة.

تحريض الرئيس على إبادة «الحشرات»

لقد تطوّر الواقع إذن على غير ما يرغب هؤلاء، أو ما اعتادوا عليه، وجاءت أجيال أخرى تنافسهم على احتكار هذا الرأسمال الرمزيّ الذي حصلوا عليه، محاولين استغلال ما لديهم من نفوذ ماديّ أو معنويّ لتغييره، إن لم يكن بسلطة القرارات، كما فعل هاني شاكر، فعلى الأقل بتحريض الرئيس على «إبادتهم» كالحشرات، أو الشرطة كي تطاردهم كالمجرمين.
يحاول مغن شعبي أن يخفّف من غلواء «الملحّن الكبير» في حوار تلفزيوني جمع بينهما بالقول: «اعتبرني ابن حضرتك»، فيردّ عليه بكر صارخا: «ما تجيبوش سيرة ابني هنا. أنا ابني تعلم وخريج جامعات بره، ومعاه ماجستير ودكتوراه»، وفي «مباهلة» أجراها مع المغني الشعبي الراحل شعبان عبد الرحيم، وصف بكر جمهور الأخير بأنه «من جيرانه على القهاوي وسائقي الميكروباصات»، وهو يصف الغناء هذا بأنه «توكتاوي» (نسبة إلى السيارة الصغيرة المسماة في مصر «توك توك»). تقدّم إشارات بكر وشركاه معالم طبقيّة لخطاب يتراتب فيه البشر ضمن سويّتين اجتماعيتين افتراضيتين:
في الطبقة الأولى نجد الملحّن والمغني والشاعر المكرّسين، مدججين بسلطاتهم «الرئاسية»: رئيس لجنة الاستماع في الإذاعة (بكر)، رئيس نقابة (هاني شاكر)، رئيس القسم الثقافي في صحيفة «الأهرام» (جويدة)، ومن الطبيعي، في هذه الحالة «الرئاسية» أن يتخاطب أو يتعامل هؤلاء على أنهم من فئة النخبة السياسية/ الأمنية، فيخاطب أحدهم الرئيس السيسي، ويتخاطب الآخر مع أجهزة الأمن والشرطة، ويصدر الثالث قراراته الصارمة.

الواضح، رغم هذه الحالة «الرئاسية»، أن هناك تراتبيّة أخرى مضمرة، وإن لم تكن خفيّة، تحدد حدود الفئات وصلاحياتها «السيادية»، حيث يجلس الرئيس وقواته الأمنية والشرطية في الأعلى، ويسعى الآخرون، الذين لا يملكون غير سلطات محدودة القدرة على المطاردة والإبادة، للتقرّب من أولئك ومحاولة الانتماء الرمزيّ إليهم، وكلّما زاد التباعد والفجوة، زاد الجئير والصراخ والمبالغات وتصاعدت جرعة الإقذاع والتحريض.
في الطبقة الثانية يجب أن يوضع من خرجوا عن المسطرة التقليدية لتقييمات بكر وشاكر وجويدة، مع ملاحظة أن بكر قام لاحقا بالتلحين لبعض أفراد «الطبقة المنبوذة»، كعلي الحجار ومدحت صالح، كما أن بعض المغنين غنوا أشعارا لجويدة تفيض عاطفة وقيما ثورية وهم، حسب «ويكيبيديا»: سمية قيصر وكاظم الساهر، و«فرقة الخلود» اليمنية، وفرقة «عقد الجلاد» السودانية!
وتضمّ الطبقة الثانية، حسب تحليل التعليقات السالفة من ليسوا رؤساء استماع أو أقسام ثقافية أو نقابة، ومن ليسوا رئيسا للجمهورية، أو أعضاء في سلك الشرطة، وكذلك من لم يتعلموا في الجامعات الأجنبية، ومن يرتادون المقاهي، وسائقي الميكروباصات، وأصحاب سيارات «التوك توك»، ومنتهكي قوانين الآداب ومتعاطي المخدرات والمومسات و«المساطيل» والشحاذين، أي باختصار، من ليست لديهم سلطة أمنية أو منصب ثقافي أو فني ومن ينتجون ثقافة أو فنا «هابطا» والفقراء والمستضعفين ومن في حكمهم!

الكلام كخطر على «الأمن القومي»

قرار رئيس نقابة المهن الموسيقية ليس سابقة، فلديه قرارات سابقة تحاول التشبه بقرارات المؤسسات الأمنية، أو تخلط بين الموسيقى والأمن، كما حصل مع المغنية شيرين، التي اتهمت بالإساءة لمصر حين قالت في حفل لها في البحرين «كده أقدر أتكلم براحتي عشان في مصر اللي بيتكلم بيتسجن» وهو ما أدى لتحرّك متناظر من المحامي سمير صبري، المتخصص في «الدفاع» عن النظام، فاتهمها بـ«التطاول على مصر» و«نشر أخبار كاذبة» (وهو إبلاغ يؤكد نظريا أن «الكلام» في مصر يؤدي للسجن!)، أما نقابة المهن الموسيقية فاعتبرت في بيان لها إن تصريحات شيرين «تضر بالأمن القومي»!
لهذه «الوقائع المصريّة» نظيراتها طبعا في الواقع العربيّ، ولعلّ أكثرها جلاء كان في موقف عدد من الفنانين السوريين، الذين وقفوا مع النظام ضد زملائهم الذين وقعوا في بداية أحداث الثورة عام 2011 ما سمي بـ«بيان الحليب» الذي يطالب بوقف الحصار العسكري والأمني على مدينة درعا، فردوا ببيان بعنوان «تحت سقف الوطن»، ووجه بعضهم، مثل زهير عبد الكريم، اتهام الخيانة لمن طالبوا بالسماح بوصول الحليب لأطفال درعا.
وفي النهاية فلا يبدو أن هناك فرقا بين نقابة للموسيقيين المصريين نقيبها هو فنان «رومانسي»، ونقابة للفنانين السوريين، نقيبها زهير رمضان، الذي اشتهر بدور قائد المخفر في مسلسل «باب الحارة»، والذي سمح في تصريح أخير له للفنانين خارج سوريا بالاعتذار «عما بدر منهم بحق الوطن» والذي تدور حوله الآن معركة ضمن جماعة «سقف الوطن» أنفسهم، الذين طالب كثيرون منهم بسحق زملائهم المعارضين بـ«انتخابات ديمقراطية»!
تظهر هذه الوقائع مفارقة كبرى وهي أن مشتغلين بعلوم الجمال، كالغناء والموسيقى والتمثيل والشعر، لا يقلون في أفكارهم إعلاء لمنطق العنف الأقصى تجاه من يختلفون معهم، وإذا كان من «الطبيعي»، في المنظومة العقلية العربية، للمشتغلين في مناصب السياسة وأجهزة المخابرات والأمن أن يكونوا من أعمدة الفكر الاستبدادي والقمعي، فما هي حجة الملحن والشاعر والمغني وما هو الأساس الفكري الذي يستند إليه في مطالباته بالإبادة والسحق والمحق؟

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here