حسام الدين محمد: معارك علي فرزات.. العالم كاريكاتير بالأبيض

0

يعتبر علي فرزات الفنان التشكيلي والرسام الكاريكاتيري الأكثر شهرة في بلده سوريا، حيث حظي بالإعجاب والاهتمام والتقدير على مدار عقود، كما أنه معروف في المنطقة العربية والعالم، باعتباره فنان كاريكاتير مبدعا متميّزا، وجريئا، كما هو مفترض في رسامي الكاريكاتير، فنجح في خلق معادلة يحتفظ فيها باستقلالية معقولة في بلاد يسودها الطغيان العميم. حاول النظام استثمار شهرة وإبداع الفنان في الترويج لاختلاف سياسي مفترض، سيحصل بعد استلام بشار الأسد للسلطة عام 2000، ولكنه ما لبث أن ضاق به ذرعا، وأطلق زبانيته لاعتقاله وكسر يده التي ترسم، وتبع ذلك خروج فرزات من سوريا، ودخوله مرحلة جديدة من الحرية غير المسبوقة.
يقف فرزات ضمن فئة مختارة من رسامي الكاريكاتير العرب، أستذكر منهم، المصريين صلاح جاهين وأحمد حجازي وبهجت عثمان وجورج البهجوري ومحيي الدين اللباد ومصطفى حسين، واللبنانيين محمود كحيل وبيار صادق، والفلسطينيين عماد حجاج وأمية جحا، والسوريين حسين إدلبي وموفق قات، والعراقيين غازي العبد الله وعلي المندلاوي.

الكثير من هؤلاء، بمن فيهم فرزات نفسه، لا بد أنهم تأثروا بناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأكثر شهرة، لأسباب تتعلق براديكاليته وإبداعه وأيقونيته التي بلورتها حفرياته السياسية والاجتماعية والنفسية، في قضايا المهمّشين والمظلومين والمقموعين، وانتهاء طبعا بمصيره الفادح باغتياله بمسدس كاتم للصوت في 29 أغسطس/آب 1987 في العاصمة البريطانية لندن.
مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وشيوع إمكانيات الاتصال المباشر بالناس وليس عبر الصحف ووسائل الإعلام فحسب، لم تعد الكوميديا السوداء التي تميّز علي فرزات حصرا على الكاريكاتير فصار يستخدم موقع «فيسبوك» للتعليق الحادّ على القضايا السورية والعربية والعالمية، ما كشف عناصر جديدة في آرائه وشخصيته، لم يكن ممكنا تبيّنها في رسومه الكاريكاتيرية، فالفن، بطبيعة الحال، يقوم بتنقية وإعلاء الأفكار والصور والخيالات، أما التعبير بالكلمات فهو فنّ قادر على الكشف والإضاءة والتعبير عن النوازع، وأهم من كل ذلك: التعبير عن الوعي السياسي والاجتماعي والنفسي الكامن وراءه.

العالم لا يهمّه

أثار فرزات معركة في يوليو/تموز العام الماضي بعد أن نشر صورة لمجموعة من الناشطين السوريين، الذين تضامنوا مع بريتا حجي حسن، السوري المضرب حينها عن الطعام، معلّقا تعليقا قاسيا عليهم وساخرا بشدة من «آثار التعب والإرهاق والجوع والشحوب والإغماءات»، ناصحا إياهم بإتقان التمثيل، وخالصا إلى أن «الموت الحقيقي جوعا لم يعد يؤثر في ضمير العالم فكيف بالبروباغاندا؟».
أدى هذا التعليق إلى ردود فعل غاضبة من الناشطين والمتعاطفين معهم، فجوهر ما كانوا يفعلونه هو اشتغال في الشأن العام بدلا من الخوف والاعتزال والانكفاء، وقد أدت الاجتماعات التي قام بها أولئك إلى تفاعل في بلدان كثيرة بحيث اجتمع ناشطون آخرون كثيرون، بينهم أجانب، وقاموا بالتعبير عن تعاطفهم مع السوريين ومع إدلب، ومع العمل الأخلاقي والإنساني الذي يمثله إضراب الناشط المذكور، وأعادوا تنشيط ذاكرة العالم بالثورة السورية.

جاء فرزات وشطب بريشته السميكة على كل هذا، باحثا عن المفارقة الساخرة بين الجوعى والذين يعانون داخل سوريا، وأشكال الناشطين العفيّة، وحاثا، من دون أن يدرك ربما، على وقف التعاطف مع الجوعى والمضربين عن الطعام «لأن العالم لا يهمّه»، متجاهلا نقطة ثمينة أخرى، وهي أن الاجتماع على قضية، بأي طريقة كانت، إذا لم يكن مفيدا لهذه القضية فهو يساعد هؤلاء المعتصمين أنفسهم على التعاضد نفسيا واجتماعيا، وهو عمل إيجابي أفضل، في النتيجة، من السخرية السلبية من نشاط الآخرين، ومن إعلانات المناحة أو الغضب على العالم، فهذه السخرية أو السلبية يمكن توجيهها أيضا ضد الرسوم الكاريكاتيرية بدعوى أنها لا تقارن قيمتها بالجوع والموت والتعذيب، أو ضد أي شكل من أشكال النشاط الإنساني «غير المفيدة» اللهم إلا الانقلابات العسكرية والحروب والعواصف والزلازل.
وفي خطوة أثارت جدلا أكبر هذه المرّة، نشر فرزات تعليقا بعد إعلان أمريكا عن تفاصيل «صفقة القرن» يطالب كل من يؤيد الزعيمين الفلسطينيين محمود عباس وإسماعيل هنية أن «يقلع شوكه بإيده اللي فينا بسورية مكفينا» معتبرا أن الصفقة تمت بين عرفات وكيسنجر، وتابعها عباس في أوسلو مع هنية، خالقا مقارنة بين أولئك و»14 مليون سوري مشرد في أصقاع العالم و2 مليون شهيد ومليون معتقل ومغيب ومختف» إلخ، ومسائلا جمهورا مفترضا، لماذا لا يخجلون حين يرون «فصائلكم يقتلون السوريين» معددا أسماء فصائل عديدة تقاتل مع النظام السوري، ومنهيا «البوست» بالتعريض ببكاء عباس في جنازة رئيس إسرائيل و»ثاني يوم» «بينخّي العرب يحرروا له أرضه».

رؤية قهرية للعالم

تتالت الردود على التعليق الأخير، فرد راشد عيسى قائلا إن «الشوك الفلسطيني يوجع السوريين أيضا» وإن «القضية الفلسطينية شأن سوري أيضا»، وقال معن البياري إنه «انفعال رديء لا يجوز من فنان ومثقف حقيقي»، وإنه «بين الفلسطينيين شبيحة كثيرون… وبين السوريين من يحتاجون إلى أن يتعلموا أبجديات أولى في المخالفة والنقد والانتقاد والخصومة، ومن هؤلاء علي فرزات، الذي لم يكن لائقا منه، ومن أجله، ما صنعه بنفسه»، وقال زياد بركات: «لا أفهم ولا أتفهم هذه البذاءة في التعبير»، كما رد أحمد نسيم برقاوي، معتبرا أقوال فرزات «لا تليق بمبدع شهير له مكانة في وعي الفلسطيني والسوري»، معتبرا إياه «وعيا ساذجا»، طالبا منه أن يتفهم «موقف مئات الفلسطينيين» الذين «صبوا جام غضبهم عليك دفاعا عن هويتهم وتأكيد انتمائهم للثورة السورية»، كما نبّه إلى نقطة مهمة وهي أن ما حصل «لم يتحول إلى معركة بين السوريين والفلسطينيين وهذا يؤكد الترابط الخاص الذي يقيمه السوري مع الفلسطيني وبالعكس»، كما نبه إلى الميليشيات التي تقاتل مع النظام «هي نفسها شاركت قوات النظام في مواجهة المقاومة الفلسطينية في طرابلس»، وأن «مخيم اليرموك دمر وشرد سكانه، كما دمرت داريا وشرد سكانها» وأن «عدد اللاجئين الفلسطينيين للمرة الثانية من سوريا يساوي نصف عدد فلسطينيي سوريا».
جاء أقسى تعليق على فرزات من الكاتب السوري ماهر مسعود، الذي اعتبره «خلطة طائفية عنصرية مجبولة بروح القهر، التي تصيب الضحايا، فتحولهم إلى ظالمين، وتنقلهم إلى صورة معكوسة تماما عن أعدائهم»، وأن ما قاله «ليس غلطة أو هفوة، بل بنية وتركيبة سيكولوجية، ورؤية قهرية للعالم»، وأن ما كتبه «ينقل الحرب إلى حرب الضحايا ليرفع عبئا كبيرا عن زعماء الجريمة الأصليين»، فيما ذكّره آخرون بعلاقته الطيبة السابقة ببشار الأسد، واستذكر البعض موقفه المعادي لصدام حسين خلال حرب الخليج.
تسمح المعركة الأخيرة الحاصلة ببعض الخلاصات فهي، بداية، أحد تداعيات الأحوال السيئة لأوضاع سوريا وفلسطين، التي تسمح بالانزلاق إلى أشكال عديدة من التدمير الذاتي، كما شهدنا في النقد الساخر لنشاطات سلميّة تفيد الثورة السورية، ثم في البلبلة المتقصدة التي تبدأ بنقد عباس وهنيّة وعرفات، والفصائل التي تقاتل مع النظام وتجرّ بعدها الداخلين للجدل إلى مستنقع «مباهلة» بين شعبين جريحين لا يستفيد منها، كما قال مسعود «زعماء الجريمة».
تتميّز تعليقات فرزات بقدرة إمساك المفارقات العريضة ورسمها بالأبيض والأسود، تتناظر مع تطلّبات الشهرة التي يناصرها جمهور متعطش للقتال، مع إحساس بامتياز الضحيّة التي تعتبر نفسها مخولة بتمثيل «ملايين القتلى والجرحى والمعتقلين واللاجئين» أكثر من غيرها، ولكن بخطاب سياسيّ لا يهتم بالأذيّة التي يمكن أن يسببها يمنة ويسرة. خطاب يسهل اشتعاله وهبوطه بسهولة إلى إقذاع في الشتم وتعريض بجماعات بشرية وبالنساء أو الأشخاص.
ترفع رسوم فرزات الكاريكاتيرية البديعة وأفكارها الفذة قيمة الفنان التشكيلي، فيما تسيء تعليقاته إلى ذلك الفن العظيم وتهبط فجأة بالعبقريّ الذي أخذ مكانه بين كبار رسامي الكاريكاتير العرب والعالميين إلى حيّز تخصّص به شتّامو «فيسبوك» الذين قرّر أن يتبارى معهم!

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here