حسام الدين محمد: مرآة سوداء.. التكنولوجيا في عين البشرية!

0

في تعليق على مقالتي: «سوبرمان أم الرجال الجوف: إلى أين يأخذ العلم البشرية؟» رأى الكاتب السوري إبراهيم العلوش أن «التكنولوجيا وسيلة»، و»لا ذنب للتكنولوجيا، إن تم استعمالها بطرق ضارة وسطحية»، إضافة إلى ذلك اعتبر الكاتب أن: «التركيز على السلبية تعبير عن الخوف، وقد يتحول إلى هوس لدى البعض.. إن أحسن وسائل النقل ووسائط التدريس والحلول الكبرى لمعضلات الحياة جاءت بتسريع من التكنولوجيا»، متسائلا: «هل نستطيع التخلي عن التكنولوجيا والعودة إلى العصور السعيدة الخالية منها؟»، وهذا، في رأيه: «يشبه سؤال العودة إلى عصر الخلفاء ومحاربة الحاضر بحجة العودة إلى النقاء الإسلامي.. الأمران لهما المقدار نفسه من الرجعية والتجييش!».
يكثّف هذا التعليق عددا من القضايا التي تتناول إشكالات مهمة، ولكونه يسائل الكثير مما تتناوله مقالاتي، رأيت أن من المفيد، مساجلة إحدى هذه الإشكاليات، في ما يخص الإنسانية والتكنولوجيا، من باب فتح الباب للنقاش العام حولها.
فكرة أن «لا ذنب للتكنولوجيا إن تم استعمالها بطرق ضارة وسطحية» منطقية باعتبار أن الإنسان، هو صانع التكنولوجيا والمتحكم فيها، وهو بالتالي المسؤول عن طرق استخدامها، للدفاع عن الأبرياء أو لقتلهم، غير أن هذا المنطق، قد يحمل تعميما مقلقا، يمكن أن يؤدي لنتائج تعاكس مساره العام. فإذا كان «لا ذنب» للقنبلة الذرية في «حل» معضلة قتل مئات الآلاف من البشر دفعة واحدة، فهل يمكن اعتبار محاولات الدول، التي تمتلك هذا السلاح الوصول إلى اتفاقات لمنعه والتخلص منه «تخليا عن التكنولوجيا والعودة إلى العصور السعيدة الخالية» منها؟ هل يمكن أيضا اعتبار هذه المحاولات رجعيّة مثل دعاوى «العودة إلى عصر الخلفاء»؟
يمكن تتبع هذا الخيط أيضا في مجال الدعوات العلمية والسياسية للدفاع عن البيئة وكوكب الأرض، من التداعيات السلبية الخطيرة للانفجار التكنولوجي الهائل، الذي يمكن توقيته مع بدء الثورة الصناعية. تناهض هذه الدعوات الحروب، والتسلّح العالمي، وتحارب الجهات المتسببة في انبعاث الغازات المسببة للاحترار، وفي انقراض الأنواع الحيوانية والنباتية، والتصحّر، وذوبان الغطاء الجليدي للأرض، وتقليص غابات الأمازون في البرازيل، وامتلاء البحار بالمخلّفات السامّة والبلاستيك، وتكثف مخلفات آلاف الأقمار الصناعية التالفة في الغلاف الجوّي. سيتفق معي الزميل، على الأغلب، على أنه لا يمكن إدراج هذه المحاولات السياسية والعلمية والشعبية للدفاع عن البيئة الطبيعية للجنس البشري، في إطار «الدعوات الرجعية»، وفي أن مطالبها في «التخلّي» عن بعض أشكال التكنولوجيا المميتة، هي دفاع عن البشرية والأرض، سواء ما تعلّق منها بأسلحة الإبادة والحروب الكيميائية والجرثومية، أو بالمراجعة – التدريجية أو الجذرية – للسياسات العسكرية والصناعية والزراعية والكيميائية، لأغلب حكومات العالم.
يمكن لهذه الدعوات أن تتحول إلى سياسات عالمية اضطرارية، حيث أننا سنصل في لحظة تاريخية غير بعيدة إلى تغييرات جذرية في أساليب وأنماط حياتنا، وأكلنا وعملنا نتيجة التغييرات الهائلة التي نتجت عن التكنولوجيات الحديثة، سواء ما يمت بالثورة الصناعية، أو ما يتعلق بالثورة الرقمية، التي بدأ كثيرون باستشراف آثارها الخطيرة على أدمغتنا وأجسادنا وطرق تواصلنا الاجتماعية، والساسة الذين يحكموننا، وأساليب الرقابة الشاملة، والتجسس، والعقاب، التي بدأت بعض الدول في تطويرها وتطبيقها.


تحيط بمفهومي الإنسانية والتكنولوجيا هالتان عظيمتان، تشوبهما مع ذلك، شوائب يمكن أن تصبح أعطابا واختلالات خطيرة، فقد ارتبط تطور مفهوم الإنسانية بتطور الاجتماع البشري والحضارات والعمران والأديان، بالتزامن مع نشوء مفهوم الدولة، التي يقوم على رأسها ملك/إله، وكهنوت وجيوش، تقمع المخالفين للملك والقوانين والدين، وتحافظ على هرميّة قمعية صارمة، وتغزو المدن والبشر والبلدان، وكان تطوّر التكنولوجيا، أو رفضها، مرتبطا دائما بالمنظومات المسيطرة، وكان عنصر الحرب لا العلم البحت، هو الأكثر سيادة وأولوية في تطوير تكنولوجيات معينة أو إعاقة ظهور تكنولوجيات أخرى.
استخدم «الإنسان» التكنولوجيا ليؤمن الطعام لعائلته وأطفاله، وليحسّن أسباب عيشه بالزراعة والرعي، وتمكن عبر تطوير الصناعة من إنشاء المعامل، كذلك استخدمها في المعارك مع الخصوم والمنافسين والشعوب المغزوة، وصولا لإفناء من ينافسونه على الكلأ والماء، ثم لخوض حروب قريبة وبعيدة، يمكن أن تقضي على شعوب بأكملها. يعطي مفهوم الإنسان إحساسا مضللا بالوحدة، سواء في الطرح القديم عبر الأديان، التي تتوجّه إلى مجمل البشرية، لكنّها تخوض صراعات وجودية ضد معتنقي أديان أخرى، أو مع المنشقين عنها مذاهب وطوائف.
كشفت الحروب الطاحنة للقرن العشرين تفكك السرديّات الأيديولوجية الكبرى، التي خاضت حروبا أهليّة وخارجية محاولة السيطرة على الطبيعة والاجتماع والعالم، متعاملة مع المجتمعات الإنسانية بطرق صناعية، تشبه تطريق المعادن وتحطيم الجبال، وأدت خطط صناعية عظيمة العناوين، مثل خطة لينين لكهربة البلاد في الاتحاد السوفييتي، وخطة التفوق الصناعي على الغرب في الصين، إلى نتائج كارثية على شعوب تلك البلدان.

في عملية الإبادة والإفناء التي مثلتها المحرقة النازية، أو في خطط التنمية الصناعية الاشتراكية في الصين، التي أودت بحياة أكثر من 30 مليون صيني، وقضت على ملايين الروس والأوكرانيين والجورجيين، الذين قضوا جوعا، أو في المعتقلات في الاتحاد السوفييتي، أو في إلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان، لم يكن «الإنسان» يستعمل «التكنولوجيا» بطرق «ضارة وسطحية»، بل كانت هناك علاقة واضحة بين السعي نحو تكنولوجيات جديدة، وقدرة المسيطرين عليها على إفناء الآخرين. لقد استخدمت السلطات «التكنولوجيا»، بهذا المعنى، لتفكيك مفهوم الإنسانية عن نفسها، باعتبارها واحدا، وبتحويلها إلى شيء يمكن مسخه والتلاعب فيه وتغيير ثقافته جذريا.
حسب دراسة لأستاذ في جامعة لويزفيل الأمريكية بعنوان «عداد القتلى» عن أي الحضارات والأديان كانت المسؤولة عن أعداد أكثر من القتلى في الأحداث العامة الكبرى، كالحروب، والنزاعات الأهلية، والمذابح السياسية والعرقية خلال 2000 عام، نجد هذه العلاقة الواضحة بين التطوّر التكنولوجي والإبادة، فحسب هذه الإحصائية تسببت الحضارات «المسيحية» (أوروبا، والأمريكتان وبعض أجزاء افريقيا) بمقتل قرابة 178 مليون شخص (قرابة 31% من القتلى خلال الحقبة المدروسة)، وتسببت الحضارات الملحدة (ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي) بمقتل 125 مليونا، وقتل الصينيون 107 ملايين، والبوذيون 87 مليونا، والحضارات البدائية 45 مليونا، وقتل المسلمون 31 مليونا، والهندوس مليونين و390 ألفا. تشير هذه الدراسة إلى علاقة بين التطوّر التكنولوجي وعمليات الإبادة الممنهجة، وهو ما يفتح بابا لتلغيم الفهم الشائع، الذي يربط تطور التكنولوجيا بتقدّم الإنسانية، فالواضح أن تطوّر التكنولوجيا لم يجعل إبادة الجنس البشري ممكنة فحسب، بل ساهم فعليا في إفناء مئات الملايين من البشر. سيعبّر اينشتاين عن حزنه لاحقا عن دوره في التمهيد لصناعة القنبلة الذرية، وسيطارد أوبنهايمر، المسؤول فعليا عن رئاسة مشروع تصنيع هذه القنبلة في أمريكا، من قبل السلطات نفسها التي كلّفته بإنجاز المشروع (من منطلق الشك بتعاطفه مع الشيوعية)، فهل الإنسان الذي نتحدث عنه يمثله أينشتاين وأوبنهايمر؟ أم السلطة التي أمرت بإلقاء القنبلة؟ ستستخدم الطاقة النووية أيضا في توليد الكهرباء، لكنّها ستكون أيضا سيف ديموقليس المسلط على الشعوب المتناحرة نظمها أيديولوجيا، أو المسلّط، في النسخة ما بعد الحداثية للدول، بين نظم تتنافس على مصادر الثروة، وشعوب أو أديان أو أعراق تصبح فائضا عن الحاجة في هذا الصراع الوجودي المرير على الطاقة، ما يعيد تفكيك مفهوم الإنسان، رغم انتظامه في دول وشعوب، إلى حالته البدائية، حين كان عشائر متنافسة حتى الموت على المياه والبحار والأراضي.
نظر «الإنسان» إلى «التكنولوجيا» نظرته إلى مرآة تظهر «تقدمه» الحثيث نحو المستقبل المشرق، لكن هذه المرآة انقلبت سوداء، حين نظرت إليها شعوب الأزتيك والمايا، وسكان ما يسمى بالأمريكيتين، مع قدوم كولومبس وكورتيز والإسبان والفرنسيين والإنكليز، وهو ما حصل أيضا للشيوعيين واليهود والغجر والمثليين في ألمانيا النازية، ولسكان أستراليا ونيوزيلندا القدماء مع قدوم البريطانيين، وللشعوب الافريقية والآسيوية التي تم استعمارها واستيطان أراضيها، في جنوب افريقيا وفلسطين والجزائر إلخ.
في مرآة الإنسانية السوداء، أفنى الجنس البشري أبناء عمومته النياندرتال والديزونوفيان، واختفت آلام عبيد الامبراطوريات والدول الهرميّة الكبرى، وقتلى البلدان المفتوحة للغزو المرة تلو المرة، وقامت الدول والجيوش بالتركيز على تكنولوجيات القتل عبر الأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية، وتنافست الدول الديكتاتورية المرعبة مع الدول الديمقراطية، وكان الإعلام، الذي هو «السلطة الخامسة»، أكبر المحرضين على الإجرام والعنصرية واستئصال الشعوب!

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here