حسام الدين محمد: محنة الفيلسوف ورذائله.. من روسو إلى فوكو!

0

قدّم كاتب فرنسي يدعى غاي سورمان، مؤخرا، مزاعم عن انتهاكات جنسية قام بها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لأطفال، خلال إقامته في تونس في ستينيات القرن الماضي، وتتبع سورمان خطا أوروبيا مع أمثلة أخرى كبول غوغان الذي كان يمارس الجنس مع فتيات صغيرات في جزيرة تاهيتي، والروائي أندريه جيد الذي كان يتصيّد الأطفال في افريقيا، ووصف سورمان فوكو بـ»القبيح من الناحية الأخلاقية»، مشيرا إلى أن إعلاميين فرنسيين كانوا يعرفون بتصرفات الفيلسوف الشهير «لكن أحدا لم يكن يهتم بالقصص هذه في تلك الأيام».
يقوم نايجل رودجرز وميل ثومبتو، في كتابهما، «جنون الفلاسفة»، بالبحث عن «حماقات الحكماء»، وهي جملة يمكن اعتبارها أطروحة فلسفية تحتاج حلا، لأنها تبدو جمعا بين نقيضين: الحكمة والحماقة، فـ«أسوأ أشكال السلوك»، كما يقول المؤلفان، «هو الذي يتناقض مع الأشياء التي يقبلها المرء على أنها عادلة وحقيقية».
مهم، حسب ما يقول الكتاب، الوصول إلى جواب على سؤال: ما هي نسبة التطابق بين أفكار الفيلسوف المثبتة في أعماله، وممارسته لحياته الشخصية، ويتصّدر الكتاب اقتباس من الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر يقول إن «من يفكر بشكل عظيم، يجب أن يخطئ بشكل عظيم»، وهو ما يذكر بالقصة التي رواها نيكوس كازنتزاكيس في «الطريق إلى غريكو» عن الشاب الذي رُفض طلبه الالتحاق بدير مشهور في سيناء لأن لا أخطاء سابقة لديه، فالطريق نحو القداسة، حسب منطق رهبان ذلك الدير، يمرّ عبر الخطيئة.

محبّ الاستبداد و«الخليع الفلسفي»

يشير الكتاب إلى فلاسفة لم ينجذبوا لحب السلطة أو الشهرة أو الجنس مثل، سبينوزا وكانط، اللذين تحاشيا إغواء الدخول في الحياة العامة، ورغم أنه عرضت عليهما مناصب لائقة في الجامعة، فقد فضلا الثناء أو الانتقاد من بعض أقرانهم وطلابهم على الإطراء والمديح من الأقوياء، لكن آخرين استسلموا لبعض أو كل هذه الأشياء. من هؤلاء كان هيدغر الذي أصبح داعية للنظام النازي، بحيث «جعلته حماسته المحبة للاستبداد في وضع سيئ حتى مع النازيين أنفسهم»، فالطغاة لا يحبون العباقرة المتعالين غريبي الأطوار، كما كان جان بول سارتر، لسنين طويلة، مدافعا عن الشيوعية السوفييتية، حتى بعد اكتشاف وجود معسكرات الاعتقال الجماعية، أما برتراند راسل، الذي اشتهر بلقب «الخليع الفلسفي»، فشهدت حياته ثلاث حالات طلاق تركت عائلات مفككة وأثرت على أحفاده بشكل كارثي.
تبدو المفارقة فظيعة في حالة جان جاك روسو، الذي كتب عن الأهمية الحيوية للتربية الصالحة للأطفال وللأبوة والأمومة الجيدة، وكتب روايته التربوية «إميل»، التي تدعو لترك الأطفال يتطورون بما يتناسب مع طبائعهم، لكنه تخلى عن أولاده الخمسة لدار أيتام فمات معظمهم بسرعة، كما نشر كتابا بعنوان «رسائل في الأخلاق»، يعظ بأهمية الإخلاص بين الزوجين، والظريف أنه كان يرسل رسائل غرامية إلى الكونتيسة صوفي دوديتو تحملها زوجته الأمّية تيريز!

روسو المخلّص والعالم المذنب

أما ذروة مفارقات روسو الفكرية والأخلاقية فتظهر في كتابه «حوارات» الذي يشير فيه إلى أن حياته مطابقة تماما لحياة يسوع في كونهما عانيا اضطهادا فظيعا، وكذلك في كونه «مخلّصا للإنسانية» مثل المسيح، وهو ما مهّد إليه في كتابه «اعترافات»، الذي يرفض فيه بشكل مطلق قبول أي مسؤولية أو ملامة على شيء، وعلى حد تعبير مؤلفي «جنون الفلاسفة»: «لقد كان العالم كله مذنبا، وكان جان جاك روسو بريئا». يمكن اعتبار سيرة روسو مثالا فاضحا على التناقضات الكبيرة بين الفكر والحياة الشخصية، ففيلسوف التربية والأخلاق السياسية، رمى بأطفاله للموت في ميتم، واستغلّ شريكة حياته إلى درجة أنها كانت تنقل رسائله إلى امرأة يحاول إغواءها، وتعامل مع وفاء ومساعدة صديقه الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم بطريقة مخزية.
نشر إدوارد سعيد مقالة في «مراجعات لندن للكتب» London Review of Books في حزيران/يونيو 2000 (قامت بترجمتها أمل نصر مؤخرا لموقع «رمّان» الإلكتروني)، حول لقائه بسارتر عام 1979، وقد تطرّق سعيد في صلب المقالة، إلى لقائه أيضا بميشيل فوكو (أحد أهم المفكرين المؤثرين في أعمال سعيد الفكرية) على هامش دعوة سارتر وسيمون دي بوفوار له لحضور ندوة تتعلق «بالسلام في الشرق الأوسط»، وتطرّقت المقالة للموضوع قبل 21 عاما من نشر صحيفة «صنداي تايمز» مقالة سورمان التي أثارت الضجة.
يشرح سعيد أن اجتماع ندوة «السلام» جرى في شقّة فوكو نفسه («لأسباب أمنيّة» غامضة، كما شرح منظمو الندوة لسعيد) وفي محاولة سعيد فهم ما الذي منع فوكو من قول أي شيء عن سياسات «الشرق الأوسط يرجع إلى معلومات كشفها كاتبا سيرة الفيلسوف الفرنسي الذاتية عن مغادرة فوكو تونس، حيث كان يدرّس، بعد حرب 1967 بوقت قصير. حسب سعيد، فإن فوكو برّر مغادرته لتونس برعبه من أعمال الشغب المعادية للسامية وإسرائيل، التي شاعت في البلاد العربية بعد الهزيمة الكبيرة، لكنه يورد قولا لزميلة تونسية لفوكو في قسم الفلسفة في جامعة تونس (يؤكد الكاتب التونسي مالك التريكي أنها فاطمة حداد) إن فوكو «تم ترحيله بسبب أنشطته الجنسية مع الطلاب اليافعين». يضيف سعيد لاحقا، إلى هذه الصورة المسيئة لفوكو، بعدا سياسيا مسيئا آخر، يبنيه على حديث مع الكاتب الفرنسي جيل دولوز، الذي كان، حسب رواية فوكو، من أقرب الأصدقاء لفوكو، بالقول إنهما اختلفا حول قضية فلسطين، حيث أعرب فوكو عن دعمه لإسرائيل بينما أعرب دولوز عن دعمه للفلسطينيين.

مسألة مستحيلة الحل؟

يستند التريكي لرواية سعيد لتأكيد حكاية انتهاك فوكو لبراءة الأطفال، غير أن شادي بطرس لويس، يفنّد رواية سورمان برمّتها، ويؤكد أن فوكو لم يكن في تونس عام 1968، كما يكشف الوظيفة السياسية لتشنيع سورمان، المؤيد لسياسات اليمين الأوروبي، على فوكو، كما يوضّح جانبا تم الإظلام عليه حول دور فوكو في دعم حراك الطلاب التونسيين، وتدخله لإطلاق سراح بعض سجنائهم، وكذلك دور الأجهزة الأمنية في إخراجه، ومعلوم طبعا غرام المخابرات العربية باستخدام القضايا الجنسية للتعمية على القضايا السياسية. هناك تصريح مهم لميشيل فوكو يقول فيه: «لطالما كانت كتبي هي مشاكلي الشخصية المتعلقة بالجنون والسجون والجنس»، وأن هناك تماثلا متقصدا بين حياته وأفكاره، وهو ما يفسر انشغالاته الفكرية، بالجنون والسلطة والعقوبة والجنس، وفي الوقت الذي انبنى فيه فكره المتعدد الانشغالات تحت إشراف أساتذة كبار مثل ميرلو بونتي وجان هيبوليت ولويس ألتوسير (الذي عانى أيضا أعراض الذهان والفصام واجتمع بفوكو في مصحة)، وتأثر بهيدغر وسارتر ونيتشه، فإن حياته، شابها اكتئاب ومشاعر بالذنب المتعلق برغباته الجنسية السادية المازوشية القهرية، وأعراضه المرضية النفسية، من قبيل جرح نفسه، ومحاولة الانتحار والاستسلام للشراب والمخدرات، بحيث أعطي غرفة خاصة في المصحة في مدرسة المعلمين العليا.
كانت لدى روسو أيضا نزعة جنسيّة مازوشية، وانتهى مسار حياته النفسية بحالة فائقة من البارانويا والذهان. لقد غرق بشكل متصاعد في أوهامه النفسية، لكنه ساهم، في الآن نفسه، في تأسيس عناصر الرومانسية وأثّرت نظرياته في مجالات التربية والأخلاق والسياسة، أما فوكو، فقد حوّل تصدّعات حياته العنيفة إلى واحدة من أهم منظومات النقد المعرفيّ الحديث للحضارة الغربية.
يبين مسارا روسو وفوكو قضية التعقيدات الهائلة للعلاقة بين السيرة والفكر، وفي ذلك تكمن مسألة فلسفيّة/ بيولوجية كبرى نجدها عند كل من ينتجون الفكر، فهل هي مسألة مستحيلة الحلّ؟

*القدس العربي