قمت بجردة واسعة على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، كما قمت بعدد من الاتصالات المباشرة مع كتاب ومثقفين عراقيين لاستطلاع آرائهم حول الانتفاضة العراقية الحاليّة، وسجلت تفاصيل تفاعل عدد كبير من كتاب العراق مع ما يحصل في بلدهم، ولكنني، في الوقت نفسه، لاحظت سكوت البعض أمام الحدث الجليل.
فتّشت، على سبيل المثال، في صفحة الشاعر العراقي سعدي يوسف على موقع «فيسبوك» فرأيت أن آخر ما نشره كان مجمـــوعة صور له، يظهر في إحداها وخلفه لوحة لامرأة عارية بخلفية حمراء، وأخرى لكتاب عليه صورته وعنوان «حفيد امرئ القيس»، وصورة أخرى قرب البحر، وقصائد قديمة، ولا ذكر لشيء آخر.
آخر تحديث في صفحة الشاعر فاضل العزاوي في 16 سبتمبر/أيلول ونجد فيه قصيدة أيضا بعنوان «مهنة السيد أدورد لوقا» في إعلان عن أنطولوجــــيا «بغــــداد: المدينة شــــعرا» الصادرة بالإنكليزية عن جامعــــة هـــارفارد، وقبلها بأيام إعـــلان عن مقال عن الشاعر في موقع Literary Hub الإلكتروني الأمريكي.
وجدت في صفحة الشاعر شوقي عبد الأمير «بوست» مكتوبا في اليوم الذي بدأت فيه الاحتجاجات في العراق هو عبارة عن قصيدة قديمة له عنوانها «احتمال الرؤية».
كان آخر تحديث في صفحة الفنان التشكيلي فيصل لعيبي في 1 سبتمبر ويتحدث فيه لعيبي عن الفنان التشكيلي العراقي الرائد جواد سليم ويعلق قائلا: «جواد سليم (مواليد 1919) الذي فتح أبواب العراق على العالم وأبواب العالم للعراق. المئوية المنسية»، وهناك أيضا بضعة تعليقات في اليوم نفسه عن الشاعر الراحل إبراهيم الخياط.
في صفحة الكاتب والروائي فاضل الربيعي وجدت لقاء تلفزيونيا معه على القناة الرسميّة السورية عن «إشكالية المفهوم والمصطلح» ضمن سياق الأمسيات الثقافية لمعرض الكتاب في دمشق، وصورا له مع فنانين سوريين و«محلل استراتيجي»، كما وجدت مشاركة لـ«بوست» مدير استخبارات سوري سابق هو الجنرال بهجت سليمان يمتدح الربيعي بالقول إنه «مخلص لسورية والأسد، ودافع عنها دفاع الأبطال، في هذه الحرب علينا».
فتحت أيضا صفحة الشاعر شاكر لعيبي، فوجدت مجموعة من «البوستات» المتلاحقة عن «التاريخ الاجتماعي للعراق الحديث عبر المدوّنة الفوتوغرافية».
لماذا لا يمتلئ الشعر بالدم؟
في المقابل كان هناك مثقفون عراقيون يتابعون الأحداث ويتفاعلون معها بشكل إيجابي بالتحليل والقراءة والمشاركة العاطفية، فكتب مروان ياسين الدليمي، من داخل العراق: «سيناريو نظام بشار الأسد الذي اتبعه مع المحتجين ضد نظامه بعد الشهور الستة الأولى، القائم على خلط الأوراق، يعاد إنتاجه في بغداد، ولكن بإيقاع أكثر سخونة وشدة، فلا غرابة أن تلجأ سلطة بغداد إلى قنص عناصر من الجيش، وأن تظهر صور صدام حسين مرفوعة هنا وهناك، أو حتى راية داعش، أو علم السعودية أو تركيا، ولا غرابة أن تفجر مؤسسة للدولة، أو تغتال رجل دين له مكانة رصينة، أو تعثر على مخبأ يضم منشورات ووثائق تشير إلى تخابر مع جهات أجنبية.. عموما السيناريو سخيف جدا، ولكنه لا محالة واقع مع سلطات غاشمة».
وكتبت لقاء موسى الساعدي في مقالة بعنوان «ثورة الصدور العارية ترسم لعبد المهدي مصير تشاوشسكي»: لن يكون أي خطاب موجه للحكومة وزبانيتها ذا قيمة بعد الآن»، كما كتب عامر القيسي تحت عنوان «من الفشل إلى القتل»: «تحولت الطبقة السياسية الحاكمة والأحزاب المتنفذة فيها من سلطة وطبقة سياسية فاشلة إلى طبقة سياسية قاتلة»، وكتب نوزت شمدين: «الحكومة تعمل لصالح الأحزاب التي تشكلها وليس للمواطنين»، وكتب ياسين النصير: «الخزي والعار للقتلة وسارقي أموال الشعوب». وتفاعلت أقوال وتصريحات مثقفي الداخل مع مثقفي الخارج فرأينا الروائية والكاتبة هيفاء زنكنة تنشر صورا من الاحتجاجات كتبت تحتها «كومونة بغداد»، وتشارك في إصدار بيان بعنوان «مع شعبنا ووطننا في حراكه الشعبي» وقعه أحمد الناصري، صباح الشاهر، علاء اللامي، كاظم محمد تقي، محمد جواد فارس، منذر الأعظمي، ووسام جواد، وكتب شاكر الأنباري: «في الظلام تدار المذبحة وهي عادة الطغاة والقتلة»، وكتب شاكر نوري: «تتحمل فرنسا مسؤولية أخلاقية لأن مواطنها عادل عبد المهدي مسؤول عن اغتيال 140 شابا عراقيا»، وقال عبد الله صخي: «إلى عادل عبد المهدي المندوب الإيراني في العراق: سئل هتلر: من أحقر الناس؟ فأجاب: الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم»، وكتب كريم عبد: «هؤلاء ليسوا حكاما بل مجرمين تم تكليفهم بإدارة دولة»، وقال علاء اللامي: «يا خامنئي. الحسين أنبل من أن يجمع الذباح بالمذبوح فارفع حمايتك عن حكومة القناصة ودع العراقيين ينتزعون استقلالهم من أمريكا ومنك»، ونشر فاضل السلطاني مقالة بعنوان: «لماذا لا يمتلئ الشعر العراقي دما؟».
يهود اليمن وجواد سليم!
تتطلع الجماهير، في لحظات الاهتزاز السياسي الكبرى، إلى مرجعياتها الدينية والسياسية والثقافية، متأملة انحيازها إلى مطالب تراها عادلة وتتعلق، في أغلب الأحيان، برفع مظالم اقتصادية او اجتماعية أو سياسية، وعادة ما تحتاج هذه الانحيازات إلى أشكال من التضحيات التي لا يمكن أن تكافئ بأي حال تضحيات المحتجين الخارجين إلى الشوارع لمقارعة آلة القتل بصدورهم، لكنها تقدم أمثولة معنوية ورمزية هائلة لأولئك الواضعين أرواحهم على أكفهم والواقفين، كما في بيت المتنبي الشهير، في «جفن الردى وهو نائم».
تفتح حالة الاهتياج الشعبي الناتج عن مظلوميات كبيرة حالة من التعاطف العام، ويزعزع سقوط الضحايا وسفك الدماء والتوحش المنفلت من عقاله شبكات التماسك الأيديولوجي والمصالحي للمرجعيات الرمزية المتحالفة مع الأنظمة، وتميل فئة من المثقفين إلى صف الضحايا، وهو ما يجعلها موضع تقدير واحترام الجمهور. تنحاز فئة أخرى من المثقفين، وبشكل واضح وصريح، إلى جهة الأنظمة، لأسباب عديدة بينها المصالح الشخصية أو السياسية والكره العميق للجماهير، والنوازع الطائفية والقومية، وتغلف هذه الأسباب كلها بعدة أيديولوجية خفية أو فاقعة، ويتميز، بين تلك الفئة المدافعة عن الأنظمة، أفراد يعبرون عن مواقفهم عبر السكوت، فلا تسمع لهم حسا أو خبرا كأن المجزرة الجارية في بلادهم لا تعنيهم بشيء. يتابع آخرون مشاغلهم الثقافية التاريخية فيستكمل أحدهم مشروعه في إثبات أن اليهود جاؤوا من اليمن، ويحدثنا آخر عن التاريخ الاجتماعي للعراق، ويحتفل فنان تشكيلي بمئوية جواد سليم، ويبهرنا شاعر بإعلانات عن أدبه في الصحف أو المواقع الإلكترونية الأمريكية، ويعرض شاعر كبير صورا له قرب البحر أو في معرض تشكيلي، ويخبرنا شاعر آخر عن آخر منشوراته إلخ.
تشير هذه الحالة الأخيرة، وهي كلها لمثقفين عراقيين جاء أغلبهم من الحزب الشيوعي العراقي، إلى صدع وجودي عميق في العلاقة بين المثقف والشعب، فحدث انتفاض الجماهير العراقية ضد النظام والمقتلة الهائلة التي حصلت تتحدى قدرة الإنسان على السكوت وعدم التفاعل، فما بالك بمثقفين قادمين من حركة يسارية، وكل ما يفعلونه أو يكتبونه يدل على انخراط بالشأن الثقافي والسياسي العام، فليس معقولا لمن ينشغل بمظالم فلسطين أن يسكت عن مظالم بلده العراق، وليس معقولا ممن يطالب باستذكار مئوية جواد سليم الذي «أدخل العالم إلى العراق وأدخل العراق للعالم» أن يتذكر مناقب شخص عراقي قبل مئة عام ويتجاهل مناقب العراقيين الموجودين في الشوارع للدفاع عن مستقبل العراق.
مفيد طبعا، في الأحوال العادية، أن يقرأ أصدقاء ومتابعو المثقف آخر إنجازاته المعرفية وأن يتفاعلوا مع جهده الأكاديمي ويسروا لسروره ويتفاءلوا بوقوفه أمام لوحة وصخرة بحرية، وأن يتأثروا بجهوده لتذكير الناس بمناقب شخصيات تاريخية، وأن يعيدوا قراءة قصائده القديمة، ولكن تظهير هذه المواقف على خلفية يحضر فيها القناصة الذين يقنصون المتظاهرين السلميين، والغطرسة الوحشية للمسؤولين، واعتبار المسؤولين الإيرانيين المظاهرات «مؤامرة» إسرائيلية لمنع سياحهم من زيارة المراقد الشيعية في أربعينية الحسين، وسيناريوهات الأجهزة الأمنية حول «البعث» و«داعش» و«الجهات الأجنبية، يبدو الجهد الأكاديمي والوقوف أمام لوحة وقراءة قصائد واستذكار جواد سليم وقائع خارج السياق والمعنى والمنطق لأي مثقف عراقي أو غير عراقي.
*المصدر: القدس العربي