تزايدت، مع ازدياد الاضطرابات في العالم، والعزلة المفروضة على مليارات من سكان الأرض بفعل انتشار وباء كورونا، الرغبة المتأصلة في النفس البشرية لمعرفة ما يخبئه لنا المستقبل من أفراح أو كوارث، خصوصا مع العزلة المفروضة على مليارات من سكان الأرض، وتحوّلت بعض وسائل التواصل الاجتماعي إلى منتديات لهذه الحرفة وزبائنها الكثر، كما توسعت مواقع متخصصة بهذا الموضوع، مثل «كو ستار» و«سانكتيواري» وحسب موقع «غوغل ترندز» فقد بلغ البحث عن «الخريطة الفلكية» و«التنجيم» عبر محرك البحث الشهير ذروة في عام 2020 مقارنة بالسنوات الخمس الأخيرة.
عاينت هذه الرغبة الحارقة شخصيا خلال فترة عشق شديد انتابتني في مقتبل شبابي، وصار قسم الأبراج في صحيفة «النهار» اللبنانية حينها يعطي جرعات من الأمل، أو ترقب الخيبة المقبلة المعروفة في من يعيش في حالة عاطفية لا يعود للقياسات المنطقية والعقلية دور كبير فيها.
قرأت، في مرحلة لاحقة من شبابي، عن الأبراج والكواكب، إلى أن أصبحت خبيرا فيها قادرا على كتابة «خريطة فلكية» (وضع السماء والأفلاك لحظة ولادة الشخص، لاستطلاع الخصال الشخصية والحوافز والأهداف ومسار الحياة) للأشخاص الذين «يتورطون» معي في هذا الشأن، مبنية على ساعة ويوم ولادتهم وخطوط الطول والعرض التي ولدوا فيها. كان ذلك استكمالا لنزوع إنسانيّ لإعطاء معنى سحريّ، كانت مفيدة لاحقا في إضفاء البهجة على قلوب بعض الفتيات التي تعرفت إليهن.
معلوم طبعا أن بعض المنجمين، كما يسمون في الثقافة العربية، كان (وما زال) عليهم طلب لدى فئات مجتمعية كثيرة، ولا يختلف في ذلك الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، ويقضي كثير من اللبنانيين (أو غير اللبنانيين) ليلة نهاية رأس السنة، كل عام، يتابعون على قنوات مختلفة، تنبؤات المنجمين، التي كان آخر حكاياتها، أن منجمة تنبأت للنائب في البرلمان جان عبيد بأن يصير رئيسا، لكنه خالف حسابات الودع والنرد والنجوم، ورحل عن دنيانا قبل فترة قصيرة.
الأرضيون عمليون والمائيون عاطفيون
تنسحب هذه الظاهرة على شعوب وفئات واسعة في العالم، ومعلوم أن الرئيس الأمريكي الأسبق، الذي ساهم في دعم فكرة «حرب النجوم» (على ما أذكر) رونالد ريغان وزوجته نانسي، كانا يستشيران المنجمين ليختارا للرئيس وحرمه أيام الطالع والسعود المناسبة للاجتماعات أو الخطب أو الأحداث المهمة له أو لبلاده، غير أن الجديد في الموضوع، الذي يوضحه استطلاع للرأي أجراه مركز للأبحاث، فإن أكثر من 60٪ من أبناء جيل الألفية في الولايات المتحدة يؤمنون بالروحانيات، وهذه المجموعة أقل استعدادا من الأجيال التي تسبقها للإيمان بوجود الله أو التمسك بالدين. وهناك علاقة تتوطد حاليا بين وسائل التواصل الاجتماعي والتنجيم، وحسب تقرير نشر عام 2019 فإن «قطاع الخدمات الروحانية» الذي يشمل التنجيم والعرافة بأشكالها، يقدر في أمريكا بـ2.2 مليار دولار، وحين نشرت إحدى المنجمات الشهيرات حاليا تشاني نيكولاس، كتابا بعنوان «مقدّر من الولادة» بيعت منه 14 ألف نسخة خلال أسبوع من نشره، وأصبحت بعدها تقدم برنامجا على منصة «نتفليكس» وطورت تطبيقا لأجهزة الموبايل. حسب اعتقاد «علماء» الأبراج (استرولوجيست) فإن من يولدون في تواريخ أبراج الحمل والجوزاء والأسد والميزان والقوس والدلو والحوت، هم أشخاص اجتماعيون ومنفتحون على العالم، بينما أصحاب الأبراج الستة الأخرى، وهي الثور والسرطان والعذراء والعقرب والجدي والدلو هم انطوائيون وداخليون. إضافة لذلك فإن أصحاب الأبراج «الأرضية» (الثور، العذراء والدلو) هم مستقرون عاطفيا وعمليون، أما أصحاب الأبراج «المائية» (السرطان، العقرب والحوت) فهم مضطربون وقلقون عاطفيا.
صلب المسيح ومطاردة المسلمين!
استثارت هذه التنميطات الاجتماعية والنفسية لأصحاب الأبراج عالما غربيا شهيرا يدعى هانز آيزنك (توفي عام 1997) فقام بتجربة إحصائية على ألفي شخص من أتباع مدرسة شهيرة لتدريس الأبراج (مدرسة مايو) وكانت نتائج الإحصائية مطابقة بشكل عام لاستنتاجات «علم الأبراج» فالأشخاص الذين ولدوا تحت أبراج ترتبط بالانطلاق والاجتماعية، حصلوا على علامات أعلى في هذا الجانب، والأشخاص الذين أبراجهم «مائية» أظهروا مزايا عاطفية وعصابية أكثر من أصحاب الأبراج «الأرضية».
غير أنه على عادة العلماء في الشك بنتائجهم، فكر آيزنك في احتمال أن المشاركين في الإحصائية هم مؤمنون بقوة بالأبراج، وأن من لديهم إيمان بمعتقد معين يعرفون الأنماط النفسية للبرج الذي ولدوا فيه، ولذلك فربما قام المشاركون بالاعتقاد أن لديهم تلك الشخصيات فعلا التي تمليها أبراجهم، ولذلك قام باستطلاع آخر بمشاركين لم يسمعوا بالأبراج والمزايا التي تقترحها لأصحابها، وشارك في البحث 1000 طفل فظهرت نتائج مختلفة تماما، ولم تكن صفات الأطفال الانطوائيين أو الاجتماعيين مرتبطة أبدا بعلامات أبراجهم.
قام عالم آخر في خمسينيات القرن الماضي بدراسة أطفال قبيلة الأشانتي في وسط غانا، الذين كانت أعرافهم تقضي بأن كل طفل يحصل على اسم روحاني يرتبط باليوم الذي ولد فيه، ومخلوق كل يوم من الأيام يتصف بصفات شخصية معينة، فمن يولدون يوم الاثنين يسمون كواداو ويعتبرون هادئين، أما أولاد الأربعاء (كواكو) فيتوقع أن يكونوا سيئي السلوك.
قام العالم بالبحث إن كان التأطير الأولي هذا سيؤثر في تصرفات الأطفال المستقبلية فقام بفحص سجلات محاكم الأحداث ليكتشف أن العلامة التي كانت تعلق على الأطفال في الولادة أثرت في سلوكياتهم فعلا، حيث تظهر السجلات أعدادا كبيرة من الكواداو في إصلاحيات الأحداث على عكس نظرائهم الكواكو.
يبدو الإيمان بالأبراج «علمنة» لمفهوم القدر الإسلامي والكارما الهندية، لكنه ينبع، عمليا، من الحاجة الإنسانية المستمرة إلى الإيمان، الذي يتحوّل مع نموّه إلى ظاهرة اجتماعية إلى قوة ضاغطة، لا تقل عن القوى الفيزيائية المعروفة. في رواية نيكوس كازنتزاكيس الشهيرة «المسيح يصلب من جديد» يقوم مانولي الراعي البسيط بتلبّس دور المسيح، ويلتحق به حواريون يشبهون حواريي المسيح، وهو ما يخلق ديناميّات جديدة في القرية، فيتلبّس المتضررون، من زعامات اجتماعية وسياسية ودينية، دور المحتلين الرومان وحاكمهم بيلاطس البنطي، ويقومون بصلب المسيح من جديد.
وفي مسرحية «الملك هو الملك» لسعد الله ونوس، يقوم الملك بإعطاء ملكه لشخص فقير على سبيل الفكاهة، وينتهي الأمر بمزاولة الفقير للحكم بالطريقة نفسها التي مارس فيها الملك السابق سلطاته، لأن السلطة منظومة وليست شخصا. أتذكر مقابلة مع مخرج أرجنتيني في مجلة «الكرمل» تحدث فيها عن اختياره بعض الأشخاص في قرية، ليمثلوا دور الأشرار، الذين يقومون باضطهاد مجموعة أخرى من مواطني القرية، وفوجئ المخرج بأنه بعد انتهاء الفيلم كان «الأشرار» مصرّين على البقاء أشرارا، وعدم التخلّي عن سلطاتهم الافتراضية التي أعطاها إياهم الفيلم. قام برنامج تلفزيوني أمريكي بتجربة مشابهة، حيث قسّم مجموعتين من المتطوعين ليلعبوا دور السجناء والسجانين، وكانت نتيجة البرنامج ـ التجربة كارثية أيضا، فبعض السجانين استخدموا سلطاتهم بشكل تعسفي لفرض النظام وتعاملوا بعنف وقسوة مفرطين مع متطوعين مثلهم.
تحيل هذه الأمثلة، جميعها، إلى ظواهر ثقافية وسياسية كبرى، حيث يتحارب الجميع على خلق «إيمان» ما يطيح باعتقادات الآخرين، وتنيخ التنميطات، التي تشبه حكاية الكواداو والكواكو، بقوة فيزيائية كبرى على الإنسانيّة حاليّا، ويدفع المستضعفون، الذين تنهال عليهم التوصيفات – الاتهامات، الثمن الأكبر، لكونهم «إرهابيين» بالفطرة لأنهم مسلمون، أو مجرمون ومهربو مخدرات، حين يحاولون التسلل من أمريكا اللاتينية إلى أمريكا، فيما يفوز البعض الآخر بتنميطات نابعة من القوة والثروة والعرق.
المشكلة الخطيرة، في اعتقادي، أن يؤمن البعض، كما يفعل المعتقدون بالأبراج أو المنتسبون لقبيلة أشانتي الغانية، بأنهم فعلا إرهابيون لأنهم مسلمون، أو أنهم مجرمون لأنهم سود أو أمريكيون لاتينيون، وأن يصدّق المستضعفون دعايات المستكبرين عنهم، وأن يقوموا بالترويج لهذه الخطابات المضادة لهم بأنفسهم.
*القدس العربي