فازت قصة يمكن ترجمة عنوانها بـ«شخص محب للقطط» A cat person بجائزة مجلة «النيويوركر» للقصة القصيرة قبل فترة. تتحدث القصة عن علاقة بين طالبة شابة في العشرين من عمرها برجل في الثلاثينيات من عمره تطورت من ملاطفة صغيرة خلال بيعها إياه غرضا في صالة السينما التي تعمل بها إلى رسائل على جهاز الهاتف الجوال تمر فيها أحاديث طريفة متخيلة بين قطّها وهرّته التي لديها شريك قط أيضا.
تتطوّر العلاقة إلى لقاء جسديّ في بيته، فتلاحظ أن لا قطط لديه، ويتحول الجنس إلى ممارسة تحسّ فيها الفتاة بالتشيؤ وبأنها جزء من فيلم «بورنو» يجري في رأس الرجل، وتنتهي القصة برسالة طويلة من الرجل يصفها في نهايتها بأنها عاهرة.
يختصر العنوان سياق قصة عن اختلاق شخص بهيمي صورة رومانسية لنفسه عبر هذا التفصيل البسيط، وهو ادعاء أن لديه قطتين. إحدى التأويلات الممكنة للقصة هي أن الشخص المحب للقطط (أو للحيوانات عموما) أكثر حساسية نفسية من غيره، أو أنه، بسبب علاقته مع تلك الحيوانات، هو أكثر إنسانيّة، وهو ما يفترض أن العلاقة بالحيوان الأعجم (كما يقال في العربية) ترتقي بالشخص وتجعله أكثر فهما لأخيه الإنسان، وتلمس القصة أيضا عدة قضايا، بدءا من إشارتها إلى العلاقة بين الأنثى (والأنثوية) والقطة.
من سيدة القطط إلى المرأة القطة
هناك دراسة حديثة حللت ما يمكن تعريفه بوجود علاقة خاصة بين الأنثى والقطط، وقد لاحظت أن نسبة النساء اللاتي يعتقدن أن القطط (والحيوانات) تتجاوب مع مشاعرهن أكبر من نسبة الرجال، وأن النساء أكثر ابتساما وكلاما مع القطط من الرجال. ورأت الدراسة أن النساء لديهن روابط أكثر عمقا وتعاطفا مع القطط، وأن تفاعلهن مع تلك الحيوانات تتخذ أشكالا سلوكية معقدة.
والحقيقة أن الارتباط بين النساء والقطط قديم جدا، ومستمر عبر العصور، وهو محفور في الدماغ البشري واللغة، فعدد كبير من اللغات يخاطب القطة باعتبارها أنثى، وهناك ظاهرة لدى عدة أمم عن الشخص الذي يتفرغ لتربية القطط، وهذه الظاهرة في الثقافة الإنكليزية، (والغربية عموما) تميل إلى اعتبار هذا الشخص امرأة فتسميه «Cat Lady».
إضافة إلى الربط مع الأنوثة، ففي الثقافة الغربية هناك ربط بين المرأة، والقطة، والسحر. تجسد «المرأة القطة» كما تقول كاسيا ديلغادو، في مقال لها في صحيفة «I» «البطلة الخارقة الحديثة، وروابط الجنس والسحر معا، بسمرتها الجاذبة، وبرّيتها، وغلمتها، وتهديدها وقوتها، وألبستها من مواد جلدية لماعة ذات علاقة وثيقة بالجنس، وسلاحها هو السوط» وهي صورة معاكسة لصورة «سيدة القطط» المذكورة سابقا، والتي تكون، في المخيلة الغربية، عجوزا غير مرغوبة تعيش مع 17 قطة.
في المقابل، ترى الكاتبة، أنه من الصعب، ربط الرجل بالقطة، فالرجل الذي يحب القطط يعتبر شخصا غريب الأطوار، إلا إذا كان فنانا!
من هيمنغواي إلى دونالد ترامب
كان إرنست هيمنغواي، على سبيل المثال، مفتونا بالقطط، وما زال منزله السابق في فلوريدا مسكنا لأكثر من 50 قطة، وهناك أسماء أخرى من محبي القطط مثل الكاتب وليام بوروز الذي لديه كتاب بعنوان «القطة داخلك» الذي يصف فيه حياته عبر قصص القطط التي عاشت معه، والموسيقي جون لينون الذي كانت لديه 20 قطة، والشاعر إليوت الذي كتب «كتاب البوسوم القديم حول القطط العملية» والذي بيعت منه نسخ أكثر بكثير من كتابه الأشهر «الأرض اليباب» وتم اقتباسه ضمن المسرحية الموسيقية الشهيرة «قطط».
تعتبر العلاقة بين القطة وجنسانية المرأة من أكثر الروابط غموضا وقدما، ولعلّ أشهر الأمثلة الحديثة على هذا الربط، هو قول تسرّب خلال حملة دونالد ترامب الانتخابية الأولى يستخدم فيه لفظة يمكن تتبعها من اسم الإلهة الفرعونية على شكل قطة، ويقصد بها التحقير للمرأة.
احتارت قواميس إنكليزية عديدة في أصل اللفظ، فحسب قاموس ميريام ويبستر فإن «الأصل اللغوي للفظة غير معروف» وحسب مصدر آخر فقد ظهر في أواخر القرن السادس عشر كتوصيف للمرأة التي تظهر سلوكا شبيها بالقطة، كاللطف والود، وتطورت لاحقا لتعني الاستخدام التحقيري للرجل في رواية «رجل الله الطيب» لماري كوريلي، ثم ورودها بالمعنى الشائع لها في رواية لسنكلير لويس.
يجد مرجع آخر مصدرا للكلمة في اللغات القديمة الإنكليزية والاسكندنافية، من دون محاولة ربطها أو تأصيلها بالعلاقة مع تواريخ ولغات أخرى، كالفراعنة والعرب وغيرهم، كما نحاول أن نثبت في هذه المقالة.
تأنيث العالم وحيونته!
أشرنا في مقالة الأسبوع الماضي إلى أن اسم الإلهة القطة في الدين الفرعوني كان باستيت، وإلى قرب هذه اللفظة من كلمة «بس/بسة» وهو القط/ القطة في بعض اللهجات العربية، وهي لفظة قريبة جدا من اللفظة الإنكليزية.
في «لسان العرب» معان كثيرة للفظة، منها كونها تقال للناقة (أو لغيرها) لدرّ الحليب، (وفي الكتاب قصة طريفة تظهر امرأة تدعى البسوس من بني إسرائيل كان لديها زوج عنده ثلاث دعوات مستجابات ضيّعها عليها حين طلبت أن تصبح أجمل امرأة فتركته حين صار لها ذلك، فدعى عليها فصارت كلبة نباحة، ثم أعادها إلى ما كانت عليه فاعتبرت مثالا على الشؤم) أما «معجم اللغة العربية المعاصرة» فيتوسع في شرح الكلمة ومن ذلك قوله إن البس صوت تزجر به الهرة (وكذلك الناقة والشاة للحلب) وهرّ الكلب نبح من دون صوت، وهرير الكلب صوته، ليصل أخيرا إلى الهرّ الذي هو الحيوان المعروف.
هناك شبيه معروف (ضمن حدود ما أعرف عن لهجات بعض الجماعات البشرية السورية) يجمع بين القطة والجنس، كما هو الحال في الانكليزية، وتستخدمه بعض الطوائف في بلاد الشام لتوصيف جزء من جسد المرأة، وهو على الأغلب يأتي من فعل قطّ أي قطع وشقّ.
ينفتح لدينا مجال آخر للمقارنة اللغوية والتاريخية حين نعلم بوجود كلمة إنكليزية مناظرة لا تبتعد في اللفظ عن كلمة قط وتستعمل كلفظ تحقيري في اللغة الانكليزية، وهي حسب قاموس أكسفورد تشير إلى شخص محتقر، لكنها في لهجات أخرى، كما في استراليا ونيوزيلندا، يمكن أن تعطي معنى ألطف إذا أضيفت لها صفة أخرى مثل الذكاء والطرافة.
يتحدث جورج طرابيشي، في كتابه «شرق وغرب رجولة وأنوثة» عن «تجنيس العلاقات الحضارية» معددا أشكالا لهذا التجنيس، منها هجاء الغرب بتأنيثه (في «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم) و«مشروع المنتقم الكبير» (في «الحي اللاتيني» لسهيل ادريس) وهو موضوع يمكن قلبه طبعا، بتتبع ظاهرة تأنيث الشرق لدى كتاب غربيين عديدين (قد يكون غوستاف فلوبير أشهرهم) وقد تبدت لنا، في موضوع القطط، مسألة «تجنيس» الحيوان وتأنيثه وربطه بالجنس والسحر، باعتبارها خطا فرعيّا لمسألة تحتمل الحفر أكثر بشكل يفيد في تبين قضايا تاريخية ولغوية، وفي كشف استخدامات عديدة للحيوان ضمن شبكة علاقات القوة والسلطة والجندر (تأنيث القوي للضعيف لانتهاكه، وتأنيث الضعيف للقوي للانتقام).
*القدس العربي