أثناء استماعي لأغان على تطبيق «سبوتيفاي» المعروف ظهر خيار الاستماع لتسجيلات «بودكاست». أحد العناوين كان بالدارجة المغربية ويقول: «علاش الراجل العادي لنحطوه فالفريندزون فالمقابل كنحماقو على السيكوباط؟» وهو ما يمكن ترجمته إلى العربية الفصحى: لماذا نقبل صداقة الرجل العادي وننزعج من السايكوباتي؟
سياق السؤال يبدو موجها من امرأة لعموم النساء، والسايكوباتي، حسب التعريفات العامة، شخص يفتقد الشعور بالتعاطف مع الضحايا، أو الندم على أفعاله، ويتصف بالتلاعب بالآخرين والغطرسة، وهي صفات «غالبا ما تقود إلى سلوك إجرامي».
مقابل هذه الفكرة التي تبدو بديهية نفسيا واجتماعيا، والتي تشابه مقولة ابن حزم الأندلسي عن أن الأرواح «جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» بمعنى انجذاب الناس، وليس النساء حسب، إلى الشخصية اللطيفة و»العادية» والسعي لصداقتها، أظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، سوقا كبيرا للشخصية «السايكوباتية» الناشرة للكراهية لعرق أو قومية أو دين أو جنس، وهي شخصية تزدهر على الاستقطابات البشرية.
فتحت وسائل التواصل الاجتماعي سوقا كبيرة لهذه الشخصية، فيها أرباح عديدة حيث تتحوّل الشهرة المكتسبة إلى سلعة يمكن صرفها نفوذا وأنصارا وشعبية مؤثرة في أولئك الأنصار، وإذا تجاوزت حدودا معينة، تصبح مدرة للمال. انتبه لهذه المعادلة كثيرون صاروا يتقصدون مخالفة الاتجاهات العامة، ويستثمر كثير منهم في «اقتصاد سياسي – اجتماعي» تزدهر فيه تلك النزعات الوحشيّة، والسخرية من الضحايا، والتصفيق للتجبّر، والمنافحة عن الطغيان، وكان المثال الأكبر على تلك الصفات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي قرّر، بعد أن قيّدت تغريداته وتصريحاته وسائل التواصل الاجتماعي، أن يموّل واحدة خاصة به.
«خلّيه يدبحك»!
تسمح الطبيعة المفتوحة لوسائل التواصل الاجتماعي، بإعلان أشكال الاستقطاب الحادة، غير أن آراء بعضها النامّة عن عنصرية وتعصّب قومي وكراهية للنساء، أو لثقافة وهويّات اجتماعية – دينية، كالمسلمين، أو طوائف الأقليات، خلف أقنعة، فيظهر بعضها، في المجتمعات العربية الإسلامية، من يحمل سيف العقيدة القويمة، للدين، أو القومية، أو الرجولة، أو بالعكس، يظهر منافحا عن الحداثة والعلمانية، فيخرج، كل هؤلاء، بآراء نافرة مرسومة بالأبيض والأسود، والخيّر والشرير، والمتحضر والمتخلف، إلخ.
يمكن أخذ تصريحات مبروك عطية، أحد هؤلاء «المؤثرين» مثالا على كيفية استغلال أحد مؤثري تلك السوق المذكورة لحدث فاجع، هو ذبح نيّرة أشرف، الطالبة في كلية آداب جامعة المنصورة، على يد زميل لها أمام الشهود. اختار عطية، على عادة أولئك المؤثرين، مناقضة موجة التعاطف الشعبي مع القتيلة وتأثر الناس بالجريمة المروّعة، وجعل، بطريقة مباشرة، لبس الضحيّة هو سبب قتلها، مجردا بذلك القاتل من مسؤوليته وراميا إياها على القتيلة. يقول عطية موجها الكلام للفتيات: «إذا كانت حياتك غالية عليك، اخرجي من بيتك قفة، ولا متفصلة ولا شعرك على الخدود، هيشوفك اللي ريقه بيجري وممعهوش فهيدبحك» معقبا ذلك بما يشبه الدعوة للذبح: «خلّيه يذبحك» ويضيف على ذلك لاحقا: «قلت لها اعملي ما بدالك واتحملي النتائج» وكرّر هذه الأفكار بأشكال متعددة، من ذلك قوله «الفتاة تتحجب عشان تعيش وتلبس واسع عشان ما تغريش» و»غض البصر للرجال المحترمة، لكن إنت أيتها المرأة تعيشين وسط الوحوش».
تصف وسائل الإعلام عطية بـ»الداعية المعروف» أما صفحته على فيسبوك فتظهره تحت اسم الدكتور مبروك عطية، واصفة إياه بـ»عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية» مغفلة أنه «عميد أسبق» كما تبين الصفحة أن لديه مليونا وأربعمئة ألف متابع، وتوجه الصفحة قراءها أيضا لمتابعة قناة خاصة بعطية على «يوتيوب». تابعت بعض فيديوهات عطية على يوتيوب، والمحاولات البدائية لتسويقها، مثل الإعلان عن «بشرى سارة برنامج أسبوعي للدكتور مبروك عطية. تعرف على الموعد والقناة». بدا بعض الأشرطة متسقا مع سرديات الدعاة التقليديين، التي تصرف جزءا طويلا من الشريط المصوّر للصلاة للحمدلة والحوقلة والتعوذ والدعاء، لكنّ الواضح أن عطيّة اكتشف، مثل باقي المؤثرين، الحاجة للتنويع، فلجأ لتغيير أزيائه، من الجلباب، إلى البدلة وربطة العنق، إلى الطاقية والوشاح الصوفيين، كما لجأ أحيانا للدندنة القريبة من الغناء، وللتعليقات الطريفة، كأن يكتب «هذه صفحتي الوحيدة وغيرها حرامي» إلخ.
«عاملّي غاغة وعايز يحكم»
ينتقل عطية من خطب الجمعة بالفصحى، ومعالجة قضايا مثل «الرد على من قالت: ليس كل النساء مثل أم سلمة» ومسائل الزنا، والتحذير من تجار رمضان، ويتبسط في كثير من الأحيان فيتمطّع أو يطقطق بأسنانه أو يتقمّص أدوارا تمثيلية يسخر فيها من النساء، أو منتقديه، أو يتحدث عن اكتفائه المالي وعدم حاجته للدولارات، وكل ذلك يدخل في أطوار «الشو بزنس» المسلّي لجمهور واسع، وهي أطوار تفسّر تصريحاته الأخيرة وتضعها في سياق طبيعي. يمكن ربط تصريحات عطية الأخيرة، بهذا «البزنس» الجديد الكبير، الأدعية والحوقلة والفتاوى فيه قناع إسلامي.
وهناك: في الضفة الأخرى، أقنعة أيديولوجية أخرى، كما هو حال الروائي يوسف زيدان، الذي يقدم مثالا واضحا على كيفية الاستثمار في مناهضة الرأي العام، لكن، هذه المرة، عبر الحطّ من شأن الرموز الدينية والقومية، وليس عبر التمسّح بها. يُذكر زيدان باعتباره صاحب حفلة الشتائم ضد صلاح الدين الأيوبي، ومنها اعتباره «أحقر شخصية في التاريخ» وأحمد عرابي، الذي اتهمه بأنه خرّب مصر وجاء بالإنكليز، وأنه «عامللي غاغة وعايز يحكم» وعلى أن أهل الجزيرة العربية «سرّاق إبل» وأن تلك «الحتّة الوسطانية» «عمرها ما كان فيها حضارة».
هناك روابط أخرى، عابرة للأيديولوجيا، غير «البزنس» والشهرة السيئة المتحصلة من معاكسة الرأي العام، وتسطيح الظواهر، ومن تلك الروابط، أن كلا الاتجاهين، يحتسبان على الانتهازية السياسية التي تنافح، بطريقة مواربة، عن الطغيان، سواء عبر تحميل المسؤولية للمقهورين، على ما فعل عطيّة، أو عبر إهانة الهوية الثقافية لأولئك المقهورين، على ما فعل زيدان.
الرابط الإضافي، طبعا، أن كلا الشخصين هما إعلان «صعود السايكوباط» الذي يفتقد الشعور بآلام الضحايا، و»غالبا ما يقود إلى سلوك إجرامي».
*القدس العربي