أثارت مقالة بركات المعنونة «محمود درويش وأنا»، المنشورة في 6 حزيران/يونيو 2020، فيضاً من التداعيات والردود، وقد انشغل كثير من الردود بكشف المقالة حكاية لدرويــــش أسرّها لبركات عام 1990 بقوله: «لي طفلة. أنا أب. لكن لا شيء فيّ يشدّني إلى أبوة»، وتشير المقالة إلى أن تلك الطفلة كانت من امرأة متزوجة، وهو كشف أثار نقعا وغبارا كثيرين، وكان من تداعياته اشتباك ثقافي وأهليّ بين قبيلة اعتبرت أن الشاعر الفلسطيني الكبير يتعرّض لهجوم، وقبيلة نافحت عن بركات، وبعضها هاجم درويش.
كانت تلك مناسبة لاستثارة ذكريات البعض حول درويش وبركات وإثارة كثير من الأسئلة حول السيرة الشعرية لدرويش، التي انضافت إليها معلومة جديدة مثيرة للتأويل والتفكّر والقياس. كان ذلك فاتحة لإثارة الضغائن ضد هذا أو ذاك، وضد الفلسطينيين أو الأكراد، وضد الشعراء الكبار والصغار، وضد تبذّل الشعراء أو نرجسيتهم، كما كانت مناسبة، لدى البعض، لانتقاد شعر درويش أو الأعمال الأدبية لبركات، وكان إصدار مراد السوداني، الأمين العام للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، تعميما بعنوان «استكتاب حول الهجوم على محمود درويش»، يدعو فيه الكتاب لكتابة مقالات ترد على هذا «الهجوم»، ذروة فانتازية في التحشّد والتعبئة العامة، لخوض حرب أهليّة ثقافية دفاعا عن درويش.
تعرّفت إلى سليم بركات في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، في قبرص، وكان حينها يدير تحرير مجلة «الكرمل»، فيما كان محمود درويش رئيس تحريرها. وإضافة إلى قراءتي كتب شعر وسيرة ورواية له، كنت أقرأ بخط يده الرائع الزاوية التي كان يكتبها بصفته المحرر الثقافي لمجلة «فلسطين الثورة» كل أسبوع، وهذه الزوايا، برأيي، تراث مهمّ تفيد الرجعة إليه لفهم الاشتباك السياسي والثقافي الحاصل بين سليم بركات، القادم من عائلة كردية في الشمال السوري، مع التعبير عن شؤون الثقافة من خلال المنبر السياسي الأساسي، المعبر عن منظمة التحرير الفلسطينية (وبالأحرى، في تلك الفترة، حركة «فتح»).
إلى تلك الجزيرة التي أهداها أحد الملوك مرة لابنته كمهر لزواجها، انتقلت بعد اجتياح إسرائيل بيروت عام 1982 مجلات فلسطينية وعربية عديدة منها «الكرمل» و«فلسطين الثورة» ومجلات عديدة مثل «الأفق» و«البلاد» و«بلسم»، (وانضمّت إليها لاحقا مجلات عربيّة كـ»الشاهد» و«شهرزاد» و«الصفر»)، وأخذت نيقوسيا، عاصمة قبرص «الروميّة»، تتطبّع ببعض طباع اللاجئين العاملين في هذه المجلات، وبينهم مصريون وعراقيون ولبنانيون وسوريون، وانتقل المفاعل السياسي – الثقافي الذي كان يتفجّر أفكارا وحيوات في بيروت إلى مختبر أكثر هدوءا، وعزلة شكّل جسرا لكثيرين، كنت أنا منهم، للانتقال لاحقا، جماعات وأفرادا إلى أوروبا.
شجرة مظلوميات عديدة
تشير المكانة التي أخذها بركات ضمن «الكرمل» و«فلسطين الثورة» إلى اتساع أفق السرديّة الفلسطينية، وقدرتها على التعبير عن أهواء ومشاغل وذاتيّات وقضايا عامّة وخاصة، وقد كان لي حظ لقاءات عابرة بقصص أو أشخاص، في بيروت ونيقوسيا، ينجذبون إلى القضية الفلسطينية بربطها، كما لو كانت شجرة، بفروع مظلوميات وسرديّات متباعدة، من الكرديّ المسلح القادم من حزب العمال التركي، إلى الأرمني الباحث عن انتقامه من الأتراك في جيش سرّي، إلى العراقي الشاعر والرسام والروائي، والياباني والألماني الباحثين عن سرديّات ثوريّة عالميّة، كما نصير «حركة أمل» الشيعية، والسلفيّ والشيوعي السوريين المتطلّعين إلى كفاح مسلح، والمناضل القومي الإريتري، والعلماني «الجذريّ» التونسي إلخ.
بدا حينها أن المسألة الفلسطينية بمظلوميتها الهائلة أشبه بمغناطيس سياسي وثقافي واجتماعي هائل لكافة المظلوميات العالمية المتناقضة حد التناحر الوجودي، وكان محمود درويش قد تموضع بفذاذة ضمن سرديّته الفلسطينية، مادّا جذوره نحو السرديّات والميثولوجيات الإنسانية الكبرى، بما فيها السرديّة «اليهودية»، التي تحضر آثارها في شعره، من «العهد القديم»، والسرديّة الإغريقية، والتراث الشيوعي والإسلامي والصوفي، وصولا إلى سرديّة الهنديّ الأحمر، الذي أخذ يلقي خطبته الأخيرة قبل أن يتلاشى هو وعالمه.
في مقابل تموضع درويش العضويّ ضمن «القضية الفلسطينية» إلى حدّ صار يعتبر اسمه وشعره أكثر أشكال التعبير الأدبي عنها، لم يتموضع سليم بركات ضمن «القضية الكرديّة»، ولم يصبح التعبير الأيقوني عنها، وفي مقابلة لي معه نشرت في صحيفة «الحياة» في 27 آذار/مارس 1994 سألت بركات عن قضية «الهوية الكردية» فأكد، من جهة، بساطتها الصارخة بالنسبة إليه: «أنا كردي، ولأبي اسم كردي، ونحن نتخاطب بالكردية، ونخاطب دجاجاتنا، وخرافنا، وأبقارنا، ونحلنا، وحقولنا بالكردية، لا غير»، لكنه يضيف: إذا كان المكان «متشابه علينا وعلى «غيرنا» في سقمه، وقمعه، ونهبه، وبطشه، ومصادرته للحلم»، فإنه «حين يصير مضاعفا، بالتمييز الساخر الذي في الملهاة السوداء، نرتد إلى المكمن الأكثر «انعزالا» فينا».
رغم الاشتباك الأهلي الحاصل، واعتبار «جماعتين» أن درويش وبركات يخصّهما، فالحقيقة أن مسيرتي الشاعرين تقدّمان افتراقا مهمّا يمكن، لو دقّقنا فيه، أن يعطي أضواء جديدة على المقالة الأخيرة، كما على قضايا أخرى.
ينتمي الأديبان إلى مجموعتين بشريتين مضطهدتين، الفلسطينيين والأكراد، ولكن صعود درويش الأدبيّ لقي ترحيبا كبيرا بدأ من «إسرائيل» نفسها، البلد الممثل لاضطهاده الوطنيّ والقوميّ، فقد تبوّأ منصب رئيس التحرير في جريدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي «الاتحاد»، وقد استقبل بترحاب كبير من النخب الثقافية العربيّة، من قبل أن يخرج من فلسطين حتى، فأصدر رجاء النقاش، الناقد المصري الشهير، كتابا عنه عام 1969 بعنوان «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة»، وقد ازدادت شهرته بعد خروجه، وكانت هويّته الفلسطينية، عاملا جاذبا ورافعا إضافيا لأعماله الشعريّة الفذة.
مجلس حرب لطرد الكرديّ
لا نستطيع أن نفهم قول بركات إن درويش «ولد بملعقة في فمه، نصف من ذهب الشعر قضية آسرة، ونصف شهرة مجتاحة»، من دون أن نقارن الاحتفاء الكبير بدرويش من حواضن شعبيّة واسعة، بالضغوط الهائلة التي تعرّض لها بركات، الذي يصف، في مقابلته الآنفة معي، كيف أدّى مجرد ذكر أنه كردي في سنة الشهادة الإعدادية في المدرسة إلى عقد الإدارة «مجلس حرب»، وبعد مداولات حول تسليمه للمخابرات، أقنع مدرّس شيوعي الإدارة أن يكتفوا بطرده!
لا يقتصر الأمر السالب في ما يتعلّق بالهويّة، بالنسبة لبركات، على قمع البيئة الرسميّة السورية الأقرب للفاشيّة القومية، بل يمكن سحبه، من دون شديد صعوبة، إلى نخب ثقافية عربية، ويذكر بركات مثالا على ذلك باتهام الشاعر محمد الماغوط له بأنه «شعوبي معاد للعرب»، معلّقا إن الأخير، كان ينتمي لحزب مناهض للعروبة، وأنه «باع العرب بكيس بصل» في إحدى مسرحياته، مضيفا: «سبع عشرة سنة أحمل القضية العربية، وليس الكرديّة، في الجانب الصحافي من كتابتي الأسبوعية».لا يُنكر بركات الاحتفاء الذي لقيه ظهوره المفاجئ شابّا صغيرا في بيروت، والذي لم يقتصر على احتضان أدونيس له وطبعه ديوانه على نفقته، فقد احتفلت الشاعرة الفنانة إيتيل عدنان به برسم على نصف صفحة من «أوريان لوجور»، وأطرى الكتّاب والنقاد غالي شكري وخلدون الشمعة وعصام محفوظ وإبراهيم العريس وجاك بيرك عليه.
لا يقارن هذا الاحتفاء النخبوي، مع ذلك، بالحيّز الرمزيّ الشعبي والرسمي والنخبوي لدرويش، وهو ما يعزوه درويش إلى حل بركات «مشكل الحياة كله لغويّا»، والذي رد بركات عليه بالقول: «وطنك لغويّ»! يصل بركات، مبكّرا، إلى قناعة أن في الهويّة «قدرا هائلا من الخرافة»، ويصل درويش أيضاً إلى برم واضح بقصره، شعبيّا ونخبويا، على أنه «شاعر القضيّة»، ولكن أثر هذه «الخرافة» على مسار الأديبين واضح جدّا، فالأول ساهمت هويّته في فتح العالم أمامه فما عاد في حاجة ليكون أبا حيث «أنجب الكون معمورا بأطفال اللامرئي»، وشكّلت لدى الثاني عامل ضغط فظيع، فكانت الأبوّة «قصيدة مضافة إلى ديوانه»، واستمرارا، لخرافة الهويّة المقموعة.
*المصدر: القدس العربي