حسام الدين محمد: قبائل بريطانيا.. «البرابرة» يرثون الأرض!

0

تحدّث مستكشفون وتجار من عالم البحر المتوسط، قبل قرابة ألفي عام، للأجيال اللاحقة عن أسماء سكان جزيرة بعيدة في الشمال الغربي للقارة الأوروبية، مسمّين إياها «بريتاني» Pritani أو بريتانّي Britanni.
أما سكان تلك الجزر حينها فلم يكونوا يعرفونها بذلك الاسم، لأنهم كانوا يسمّون أنفسهم بأسماء القبائل الموجودة مثل كانتيي Cantii التي واجهها يوليوس قيصر في ما يعرف حاليا بمنطقة «كنت» Kent، أو باريسيي Parisii في يوركشير، أو أتريباتيس Atrebates في هامبشير، وهذا يطرح مسألة مهمّة في التاريخ، وتؤدي لإشكاليات تاريخية وسياسية عويصة أحيانا، وهي أن مسمّيات الجغرافيا والشعوب تأتي أحيانا من خارجها.
وصف تاكيتوس، أحد كتاب الإمبراطورية الرومانية، وزوج بنت حاكم إقليم بريطانيا الروماني سكان تلك البلاد بالبرابرة، وقدّم اقتراحات للجغرافيا التي جاؤوا منها، أما بيدي، أول مؤرخ للإنكليز ومؤلف «التاريخ الكنسي للشعب الإنكليزي» في أوائل القرن الثامن، فاقترح أن قومه أتوا من بريتاني، فيما جاء البيكتس الشماليون من سكينثيا (أسكندنافيا)، وجاء الاسكتلنديون من شمال أيرلندا، وأن قبائل الإنكليز والساكسون جاءت من عمق القارّة الأوروبية.
كمسيحي مؤمن فقد جاهـــد المؤرخ بيدي لشرح لماذا تمكن أجداده الجرمانيون الوثنيون من التغلب على السكان الأصليين البريطانيين المسيحيين: تلك كانت عقوبة من الله، وهي فكرة سيستمر مؤرخون كثيرون في كل الأمم باستخدامها.

انفراط الإمبراطورية ودخول الأنغلو ساكسون

انفتح منعطف كبير في تاريخ بريطانيا، في الوقت الذي كانت قبائل «بربرية» أخرى من أوروبا وآسيا تضغط على الإمبراطورية الرومانية، فاستباح القوط روما عام 410 بعد أن كانوا عناصر في أقوى جيوشها، كما تجمعت قبائل الألان والفاندال والسويف الجرمانية على حدود الراين، لمواجهة قبائل الهون البدوية الآسيوية. اضطر الرومان لاستدعاء جيوشهم الموزعة في الأقاليم البعيدة، للدفاع عن عاصمتهم، وكانت هذه فرصة للاسكتلنديين والأيرلنديين والبيكتيين وحتى الإنكليز، الذين لم يعودوا يرغبون بتنفيذ أوامر مقبلة من أوروبا (كما يقول مناصرو البريكسيت حاليا) بالعمل على التخلص من إرث الامبراطورية، ومع تراجع روما انزاحت القوة الإمبراطورية إلى القسطنطينية، عاصمة الرومان الشرقيين.
يشرح كتاب «قبائل بريطانيا» لدافيد ميلز كيف سادت ثقافة الإنكليز والساكسون، الذين كانوا «برابرة» على النسيج الاجتماعي للسكان الذي كانوا، خلال المرحلة الرومانية، أكثر تطورا ثقافيا وسياسيا ودينيا وعمرانيا، متسائلا إن كان ذلك نتيجة هجرة جماعية هائلة لتلك القبائل (وربما تطهير عرقي؟)، أم أن البريطانيين المحليين تقبلوا ثقافة الغالب ورضوا بدور الفلاحين أمام الأرستقراطية الحربية الناشئة، التي سمتهم غيدالهيش (غرباء) والتي صار معناها لاحقا عبيدا، ومنها اشتقّت كلمة ويلش التي تطلق على سكان ويلز الحاليين.
حسب بيل برايسون، في كتابه «في البيت»، الذي يدرس التطور التاريخي للعمارة في بريطانيا، فإن الأنغلو ساكسون لم يستخدموا القصور والبيوت الفارهة التي تركها الرومان، وأن بيوتهم كانت أشبه بحفر كبيرة يقيمون فيها مع حيواناتهم، وهو ما يسميه دافيد ميلز «بيوت كلاب موقّرة»، تقارب 25 مترا تسكن العائلة فيها بجهة والحيوانات في جهة أخرى.
هيمنت ثقافة الأنغلو ساكسون كليّا خلال القرن السابع، وبعد أن كانت أولى المستوطنات الإنكليزية منتشرة في الأرياف من دون حدود للمساحة، أو التخطيط مع مظاهر للفظاظة والبدائية فقد تطورت تصميماتهم الهندسية لاحقا، وبدأت تظهر بلدات مأهولة بكثافة مع ملامح تراتب اجتماعي، تطور ليصبح ممالك.

الفن القبطي وسجاجيد المسلمين

تطور الفن والثقافة أيضا من خلطة اللغات والثقافات، وهو ما يظهر في ملحمة «الليندسفيرن» المنجزة في الأعوام 715- 720، وتأثرت صفحاته المزينة كالسجاد، حسب «قبائل بريطانيا»، بـ»تأثير من الفن القبطي المصري الذي يشبه سجاجيد المسلمين»، مضيفا أن رهبان نورثمبريا كانوا يصلون على سجاجيد صلاة.
تعرّضت بريطانيا بعد ذلك إلى موجتي غزو كبيرتين، من قبائل الشمال الأسكندنافي، ولكن اللغة الإنكليزية صمدت وتطورت، كما الإنكليز أنفسهم، واستوعبت لغات ولهجات وثقافات القبائل والشعوب اللاحقة التي سكنتها، وما لبثت هذه البلاد المنعزلة عن العالم أن أصبحت امبراطورية تحكم، في ذروة امتدادها، ربع سكان العالم.
أظهرت إحصائية أجريت عام 1874 أن ملكية الأراضي في بريطانيا لم تتغير فعليا منذ أيام الإقطاع القديم، وأنها صمدت أمام الثورة الصناعية والإصلاحات السياسية وحركة السوق، وكان أقل من مليون شخص (من أصل 31 مليونا حينها) يملكون الأرض، وكان 4500 منهم يملكون نصف أراضي إنكلترا وويلز، و1700 يملكون تسعة أعشار أراضي اسكتلندا، بهذا المعنى يمكننا اعتبار أن القبائل التي غزت البلاد حافظت على ملكيّاتها منذ القرن السادس عشر، وعلى حد قول الكتاب، فإن «بريطانيا كانت مملوكة من أصغر وأنجح قبيلة في أوروبا».
كل هذا تغيّر بداية من العقد نفسه، الذي جرت فيه الإحصائية الآنفة، فقد ضربت أصحاب الأراضي منتجات منافسيهم من أصحاب الأراضي الواسعة في شمال أمريكا، والهجرة الكثيفة للمدن، وأسعار الحبوب المتهاوية، التي كانت الأدنى خلال قرن، وشهد القرن التاسع عشر بداية تغيرات كبرى في الاقتصاد والسياسة والبنى الاجتماعية للأراضي في المملكة المتحدة، إلى درجة أنه في عام 1900 كان نصف اسكتلندا معروضا للبيع لدى محام واحد.

العائلة المالكة تضطر لتغيير كنيتها

لقد وصلت الثورة الزراعية إلى نهايتها مع مسح الغابات، وإزاحة الماشية للكائنات الأخرى بما فيها البشر، كالسكان الأصليين لأمريكا الذين وصلتهم الأوبئة الغربية، لكن اللغة الإنكليزية تابعت انتصاراتها. حصل ذلك عبر حرية الحركة التي أمّنها «السلام البريطاني»، لكن الشعوب الأصلية لجغرافيات واسعة لم تكن جزءا من هذا السلام، وكان التعامل معها ببارود البحرية الإمبريالية ورشاشات الماكسيم، وفي عام 1890، الذي شهد هجرة 300 ألف بريطاني، كان هناك 3 ملايين في شمال أمريكا، ونصف مليون في كندا، و800 ألف في أستراليا و150 ألفا في جنوب افريقيا. خلال إحصاء 1874 كان نصف سكان إنكلترا وويلز فلاحين، وكان هناك إحساس إثني بالتواصل مع الماضي، الذي ضم الإنكليز والساكسون والدنماركيين والسلتيين، لكن مع نشوب الحربين العالميتين، تدفق إلى بريطانيا أيرلنديون وإيطاليون وأوكرانيون وهنغاريون وبولونيون، وبعدهم جاء الكاريبيون والهنود والباكستان والبنغال.
غير أن أغرب علاقة بين أسلاف القبائل الجرمانية من الإنكليز والساكسون، كانت مع أقربائهم الجينيين من الألمان المقيمين في بريطانيا، فقد تعرضوا لحملات كراهية هائلة خلال الحرب العالمية الأولى، وفي ليلة واحدة هوجم ألفا منزل في لندن و500 في ليفربول، واضطر كثيرون لتغيير أسمائهم العائلية، بمن فيهم العائلة المالكة البريطانية، التي تغيّرت كنيتها من ساكس ـ كوبرغ ـ غوثاس إلى وندسور!
كانت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية محطمة ومفلسة، ما اضطر الحكومة لمتابعة التقشف لخمس سنوات، ولكن كثيرا من النخبة البريطانية كان يرى أن «عرق الجزيرة» المنتصر في الحرب ما زال يحكم العالم، وكان قانون الجنسية لعام 1948 تعبيرا عن هذا الإحساس الامبراطوري، حيث سمح بدخول سكان الإمبراطورية إلى بريطانيا.
على زاوية فورنير ستريت وبريك لين شرق لندن بناء أسسه البروتستانت الفرنسيون اللاجئون «الهوغنوت» عام 1743، وتحوّل بعدها لمركز لطائفة أخرى، وفي عام 1898 حولها اليهود إلى كنيست سبايتفيلد الأكبر، وبعد تحوّل الكنيسة إلى معبد يهودي أصبحت عام 1976 جامعا للجالية البنغالية يدعى مسجد جارشيد.
إلى كونه يقدّم مفهوما مستمرّا لفكرة القبيلة، فإن التاريخ الإنكليزي يمكن أن يكون نموذجا لتواريخ أغلب بلدان العالم، حيث تقوم قبيلة جديدة بغزو أراضي قبائل أخرى، فتبيد خصومها، أو تختلط بهم، وتأخذ ثقافتهم ولغتهم ودينهم، أو تعطيهم ثقافتها ولغتها ودينها (كما حصل مع الإنكليز والفايكنغ، والعرب والمغول)، لكنّ أهم ما تقدّمه هذه الوقائع، في رأيي، هو إمكانية النقد والمراجعة لكل الأساطير التاريخية والقومية والثقافية للشعوب.

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here