حمل القرن الماضي نماذج متنوعة، بعضها غريب جدا، للعلاقة بين الزعماء السياسيين، والأدب والفن، ومن الأمثلة المهمة على هؤلاء، ماو تسي تونغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني، وهتلر، الذي عاش لسنوات على بيع اللوحات التشكيلية التي يرسمها، والذي تواجه مع الزعيم البريطاني تشرشل، الذي اشتهر بكتبه العديدة وبلاغته الكتابية والخطابية، وكذلك ممارسته الرسم في شيخوخته.
على المستوى العربيّ لدينا مثال الزعيم الليبي معمر القذافي، الذي أصدر مجموعة قصص قصيرة بعنوان «القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء مع قصص أخرى»، وحسب تذييل الروائي الليبي الراحل أحمد إبراهيم الفقيه للمجموعة، فإن القذافي كتب «قصة تنتمي إلى الحداثة» لأنه «قائد ثوري يمتلئ بهاجس تحطيم القوالب القديمة»، وهناك مثال الزعيم العراقي الراحل صدام حسين، الذي نسبت إليه أربعة روايات: «زبيبة والملك»، التي تروي قصة حب تقع أحداثها في تكريت في القرن السابع أو الثامن، بين حاكم قوي وفتاة من عامة الشعب (تدعى زبيبة)، و»القلعة الحصينة»، عن زفاف مؤجل لبطل عراقيّ يقاتل الإيرانيين، على فتاة كردية، و»رجال ومدينة» عن ظهور حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، وكانت «أخرج منها يا ملعون» آخر الروايات المنسوبة إليه، ويقال إنه أتمّها قبل الهجوم الأمريكي على العراق بيوم، وهي تتحدث عن مؤامرة صهيونية غربية ضد العرب والمسلمين!
كان من المفترض ألا ينهمك في السياسة
كانت هناك أيضا أمثلة عربيّة وعالمية لطيفة كان فيها الأدب سببا في عمل صاحبه في السياسة «الناعمة»، كما حصل مع الشاعرين السوريين نزار قباني وعمر أبو ريشة، اللذين عملا في مناصب دبلوماسية، وكذلك الروائي عبد السلام العجيلي، الذي انتخب نائبا واستلم مناصب وزارية، والشاعر السوداني محمد الفيتوري، الذي كان سفيرا لليبيا في لبنان، والروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي كان مستشارا في السفارة الليبية في سويسرا وغيرهم، ولعلّ بابلو نيرودا، الشاعر التشيلي الشهير، هو أشهر أمثلة العلاقة الماتعة بين السياسة والأدب في العالم ، والذي سجّل جزءا من أيام عمله سفيرا في مذكراته المترجمة بعنوان «أشهد أنني قد عشت»، وكانت له علاقة جيدة بالرئيس التشيلي القتيل سلفادور الليندي، وهناك أندريه مالرو، الكاتب والروائي الفرنسي، الذي استلم منصب وزارة الثقافة، وكانت له أيضا علاقة وثيقة بالرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول، ومن الطريف أن زوجة الأخير قالت عن مالرو إنه: «كان من المفترض ألا ينهمك في السياسة».
أعطى الأدباء لمناصبهم الدبلوماسية والسياسية طابعا إبداعيا، أثرى هذه العلاقة الشائكة بين السياسة والأدب، ولكن الأمور كانت «مختلفة»، حين نريد تفسير الإغواء الذي مثّلته الآداب والفنون، لساسة طغاة رهيبين مسؤولين عن جرائم لا تحصى بحق الإنسانية، وعن إبادة الملايين من البشر، كما هو الحال مع الزعيم النازي الشهير أدولف هتلر، الذي توجه، في أوائل عام 1908 بعد وفاة والدته، وهو بعمر 18 عاما، إلى فيينا، حيث أمضى وقته بقراءة الكتب ورسم اسكيتشات، والذي رفض طلب قبوله طالبا في كلية الفنون الجميلة مرتين، لأن مهاراته الفنية «غير مقبولة».
فنان الإبادة وثوريّ المجاعة
لا نعلم طبعا إن كانت إحباطات هتلر الفنية، قد ساهمت في اتجاهه إلى السياسة عام 2009، ولكنه سيزعم في كتابه «كفاحي» لاحقا إن أفكاره النازية تكونت في تلك الفترة، مع ملاحظة أن صامويل مورغينستيرن، وهو يهودي صاحب متجر في المدينة، كان الأكثر شراء للوحاته. استمر هتلر بالرسم بعد انتقاله إلى ميونيخ عام 1913، وحين قبضت عليه الشرطة عام 1914 لتخلفه عن التقدم للجنديّة، فشل أيضا في اختبار الجيش للياقة البدنية، واعتبر «غير مناسب للقتال، ضعيفا جدا، لا يستطيع استخدام الأسلحة النارية» (سيقبل لاحقا كمتطوع مع نشوب الحرب العالمية). وفي ما بعد، عندما سيتملك الفوهرر زمام السلطة، سيفتش عن لوحاته التي رسمها لتدميرها، وسيفرغ غضبه على الفن التشكيلي، معتبرا الفن التشكيلي الحديث إنجازا «منحطا» لليهود والبلاشفة وخطرا على الهوية القومية الألمانية. يمكننا تتبع هذه العلاقة المفتوحة على التحليل النفسي والقراءة السياسية مع الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، الذي كان «ثوريّا» في السياسة، إلى درجة إطلاق «حملة ضد اليمين» عام 1957 بعد حقبة طويلة من الثورة المسلحة التي انتصرت عام 1949، وكان ضحيّتها مئات آلاف المثقفين، و»القفزة الكبرى للأمام» عام 1958 التي أدت لأكبر مجاعة في التاريخ وإلى وفاة ما بين 20 إلى 46 مليون صيني، والثورة الثقافية عام 1966 التي أدت لدمار واسع واضطهاد عشرات الملايين. غير أن هذا الزعيم الذي لا يكل عن إطلاق الثورات، كان شاعرا «رومانسيا» رقيقا يكتب الشعر الصيني التقليدي المقفى، وبقدر ما كان راديكاليا في سياساته بقدر ما كان محافظا في ممارسته وآرائه الأدبية، ويسجل له إعجابه بالشعراء القدامى الثلاث: لي باي، ولي شانغين، ولي هي، ويجد النقاد الأدبيون بعضا من «القيمة الأدبية» في شعره، وكانت تلك الأشعار جزءا من المناهج التعليمية، وكان يستشهد بها السياسيون والأدباء والطلاب، وعلى حد تعبير آرثر ويلي، المترجم البريطاني للأدب الصيني، فإن شعر ماو «ليس سيئا بسوء لوحات هتلر».
في مراجعتي لبعض أشعاره الشهيرة، ومنها قصيدته «تشانغشا» (1925)، لفتت نظري قصيدة يقول فيها: «تحت السماوات المتجمدة مليون مخلوق سعيدين بحريتهم /متفكرا في كل هذه المساحات الشاسعة/ أسأل، في هذه الأرض المتماسكة/ من يسيطر على قدر الإنسان؟»، وهو ما يجعلنا نفكّر كيف يمكن ترجمة الأفكار الفلسفية الشعرية إلى إبادات ومجاعات.
ترامب ونظرية «إضربهم على مؤخراتهم»
أشهر الكتب المنسوبة لترامب هو كتاب «فن الصفقة»، الذي قرأنا لاحقا شهادة كاتبه الحقيقي توني شوارتز، الذي سيعلن في مقالة طويلة في «نيويوركر» ندمه على تلك «الصفقة» البائسة التي أنجزها مع ترامب، والتي ساهمت في صناعة صورته، وبالتالي وصوله إلى الرئاسة، رغم أن شوارتز قبض نصف مليون دولار عن كتابته، وهناك كتاب «فكّر باتساع واضربهم على مؤاخراتهم»!، و»كيف تصبح غنيا»، وإضافة إلى هذه الكتب ذات العناوين المثيرة ستجد كتابا عنوانه «الشعر الجميل لدونالد ترامب»، وفكرته البديعة تقوم على جمع تصريحات ترامب الغريبة، وإعادة تجميعها وتحريرها لإظهار الشعري فيها.
يقول روب سيرز، مؤلف الكتاب، في مقدمته إن «كون الرئيس 45، دونالد ترامب، كان لفترة طويلة شاعرا، لم يكن معروفا كخيار واقعي»، وأن كتابه يهدف لتعديل هذا الخطأ في العالم الأدبي، بإظهار «كلماته الكاشفة الرائعة بشكل لم ير من قبل» سواء تعلق الأمر بقضايا السياسة، والأسوار والجندر، أو «بجيناته الممتازة»، بحيث تكشف عن الجانب الحساس والخجول في ترامب.
تقول قصيدة «أنا غني حقا»: «أنا فخور جدا بمجموعتي الجديدة من الكريستال/ لديّ مخزن غوتشي أكبر مما لدى رومني/ أشتري آلافا من أجهزة التلفزيون كل عام/ ستة أشخاص لا يفعلون أي شيء غير ترتيب إيميلاتي/ آسف أيها الكارهون والخاسرون/ من يملك الذهب يقرر قواعد اللعب». وفي قصيدة هايكو «باراك حسين أوباما» يقول: «ليس من تظنونه/ إنه الرئيس الأسوأ/ إنه مؤسس داعش»، أما في «أنا أقل الأشخاص عنصرية»: «كان لي دائما علاقة عظيمة مع السود/ دعمت تايغر وود بقوة في أيامه الصعبة/ أوبرا، أعشق أوبرا. أوبرا هي خياري الأول دائما/ كيناي ويست – أحبه/ أعتقد أن ايمينيم رائع، وأغلب الناس يعتقدون أنني لا أحب أيمينيم/ وهل تعلمون أن اسمي يظهر في أغاني السود أكثر من أي اسم في الهيب هوب/ أنتم العنصريون وليس أنا».
بربطه جمل ترامب المتفرقة ضمن سياق «شعري» ساخر، يضع سيرز يده على مجموعة مفارقات رائعة، لا تتعلق فقط بفضح طبقات الماكياج الشفيفة بين تهريج ترامب وسياسته، بل كذلك بين شعر ماو «الرومانسي»، ولوحات هتلر الرديئة، والمجازر التي ارتكباها، المفارقة الهائلة في العقل البشري التي تجمع الكوميدي والتراجيدي، وتجعلنا نفكر في الوزن الهائل للعبث في التاريخ والأدب البشريين.
*المصدر: القدس العربي