يقدم ستيفن غالواي في روايته «عازف تشيلو سراييفو» مواجهة مدهشة بين الموسيقى والشرّ. تجري أحداث الرواية خلال ثلاثة أسابيع من السنة الثانية لحصار سراييفو (1992- 1996) وكان سكان المدينة أثناء ذلك يتعرضون للقنص المنهجي والقصف والتهجير والتجويع.
بعد أن يشهد قصفا لمدينته قتل فيه 22 من جيرانه وأصدقائه، خلال انتظارهم في طابور الخبز، يقرّر عازف تشيلو شهير في سراييفو القيام بتكريم القتلى، بالوقوف في الموقع الذي وقعت فيه قذيفة الهاون، وعزف مقطوعة «أداجيو» لتوماسو ألبينوني (مؤلف موسيقي إيطالي من القرن 17 ضاعت أغلب مؤلفاته!) لمدة 22 يوما، يتحدى فيها القناص المتربّص بالسكان، ويعطي للناس أملا في الاستمرار في الحياة.
تكلف السلطات أشهر قناصيها، الملقبة بالسهم، بحماية العازف الشهير من القناص العدوّ المكلف باغتياله، فتتمكن، بعد مناورات خطرة، من تحديد موقع القناص، واصطياده، في اللحظة التي توقّف فيها للاستماع قليلا إلى العازف، قبل إطلاق الرصاصة عليه!
الموسيقي الذي ترتكز الرواية على قصته هو فيدران إسماعيلوفيتش، الذي قام فعلا بالعزف 22 يوما في المكان الذي سقط فيه أصدقاؤه وجيرانه، وهو ما ألهم موسيقيا آخر، الإنكليزي ديفيد وايلد، تأليف مقطوعة موسيقية بعنوان «عازف تشيلو سراييفو» كما ألهم هذه الرواية والفيلم الذي أنتج عنها (إخراج جيمس كاميرون).
بعد مقتل قائدها المباشر، الذي كان صديق والدها، في عملية مشبوهة، يحاول القائد الجديد أن يفرض على القناصة استهداف المدنيين الصرب، وليس الجنود وحسب، فتقرّر أن تترك الجيش، فما هو الفرق بين البوسنيين والصرب إذا صار الطرفان يستهدفان المدنيين؟ يفتح قرار «السهم» هنا موضوعا شديد الحساسية في ميادين السياسة والأخلاق والاجتماع، ويرسم، بطريقة حادة، خطا فاصلا بين الإنسانية والتوحش، وبين «الشرّ المطلق» على ما تصف حنه آرنت، آلة القتل النازيّة (وهو مفهوم دينيّ أكثر منه فلسفيا) أو حتى «الشرّ التافه» الذي يمكن أن يرتكبه شخص ينفذ الأوامر البيروقراطية أو العسكرية للدولة، التي يعمل موظفا فيها، والقرار المتخذ على أرضية أخلاقية إنسانية، قبل أن تكون سياسية. لكن، هل يمكن للإنسان رفض الشرّ، إذا كانت له مصلحة فيه؟ هل ترفضه لو أن من يتعرّضون له يختلفون معك قوميا أو دينيا أو سياسيا؟
صار المخيم مهجورا!
تقدّم تجربة أيهم أحمد، الموسيقي الفلسطيني – السوري، مقاربة مشابهة للسؤال المطروح. أحمد هو عازف بيانو معروف، وقد طبع كتابه، «عازف بيانو اليرموك» في أمريكا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا، لكن إنجازه الأكبر، ربما، هو أنه بقي حيّا، وتكرار مسلسل التهجير الذي بدأته عائلة أبيه اللاجئة إلى دمشق، إثر نكبة 1948، حيث خاض أحمد تجربة لجوء مريرة بعد الثورة السورية عام 2011، واضطر خلالها لعبور سجون النظام السوري، وحواجز «الدولة الإسلامية» وخطر الغرق في بحر إيجة، أو الموت في شاحنة مغلقة لنقل الهاربين إلى أوروبا. والد أحمد كان نجارا أعمى، وأصبح صانعا للآلات الموسيقية، وكان قد تزوج معلمة فنون تشكيلية حين بدأت الثورة عام 2011، التي اعتُقل أثناءها أخوه وفُقدت أخباره بعدها. سيطر «الجيش السوري الحر» على المخيم الذي تعرض لقصف بالطيران الحربي، وأمر النظام السكان بالمغادرة، لكن عائلة أحمد بقيت للحفاظ على محلها الصغير، فكل ما تملكه الأسرة كان موجودا في المخيم، وتركه كان يعني التخلي عن إرث شاركت في صنعه ثلاثة أجيال، وعلى الأغلب، أن لحظة مغادرة فلسطين كانت حاضرة في الأذهان، ولم ترد العائلة أن تتكرر.
تعود الصورة الشهيرة لأحمد وهو يعزف على بيانو بين أنقاض مخيم اليرموك، في ساحات محترقة، وأمام أبنية مدمرة، إلى عام 2014، متحديا، مثل عازف تشيلو سراييفو، قذائف الهاون والقنص، والجوع. تم تصوير هذا العزف، مع فرقة صغيرة مباشرة من المخيم المحاصر، وقد كتب في إحدى أغانيها يومها يخاطب الرئيس الفلسطيني بالقول: «دبرنا محمود عباس، صرنا لعبة بين الناس، صار المخيم مهجور، وبكيت عنا كل الدور، قربنا ننسى فلسطين ما عنا خبز ولا طحين»!
اضطر الجوع من كانوا محاصرين من سكان المخيم، إلى أكل أعشاب شبه سامة ولحم قطط وشرب مياه ملوثة، مسجلا إشارة الأمل في استمرار الحياة، رغم أن المئات ماتوا من الجوع، أغلبهم أطفال وشيوخ، (في ألمانيا، لا يأكل أحمد أكثر من مرة في اليوم، فهناك حفرة غائرة من الألم ما تزال موجودة داخله).
خلال محاولتهم للخروج من سوريا، اعتقل أحمد وزوجته الحامل تهاني وطفله، شمال حماه، لكنهم، بضربة حظ، أطلق سراحهم، وخوفا على عائلته من الطريق إلى أوروبا، انطلق أحمد وحده في رحلة أكثر من 4000 كيلومتر، ليتحمل وحده مخاطر عبور مناطق «داعش» وغرق سفينته المطاطية، والنجاة من خطة لتهريبه مع 71 مهاجرا ماتوا خنقا في شاحنة في النمسا، ليصل، أخيرا، إلى ميونخ في أيلول/سبتمبر 2015، بعد أسبوع من سماح المستشارة أنغيلا ميركل للاجئين بدخول ألمانيا، حيث تم تعريفه كمواطن XXA، وهو الرمز الدولي لشخص دون دولة، ولحقت به زوجته وطفلاه بعد سنة.
واجه أحمد، مثل إسماعيلوفيتش و»السهم» سؤال الشرّ، واختاروا تحدّيه، لكن هذا السؤال المؤرق يجب أن يستعاد، في الوقت الذي يعمل طرفا المعادلة السياسية الفلسطينية الكبيران، «فتح» و»حماس» على التطبيع مع نظام يمثّل الشر، لنسبة غالبة من مواطنيه والعالم، ويقوم طرف سياسيّ ضمن فلسطينيي 1948 («القائمة الموحدة») بالتصويت في الكنيست على مشاريع تتناقض مع مصالح جمهور كبير من الفلسطينيين، وبالتحالف مع أحزاب ومنظومة إسرائيلية يعتبرها الفلسطينيون، وأنصارهم الكثر في العالم، أمثولة للشر؟
السؤال المطروح هنا: هل يمكن محاربة الاحتلال بمساندة الاستبداد؟ وإذا كان التحالف مع أعداء بعيدين، ضد أعداء قريبين، واقعية لدى الأحزاب السياسية، فما الذي يدفع بشرا عاديين إلى مناصرة أنظمة تقتل شعوبها، بل ولتمجيد حكام يتفوقون في وحشيتهم ضد مواطنيهم على وحشية المحتلين؟
على الجندي أن يعصي المجرمين
يقدّم فيلم فرنسي بعنوان «صمت البحر» (أنتجت نسخته الأولى عام 1949) مقاربة أخرى فريدة، عبر قصة ضابط ألمانيّ مصاب يسكن خلال فترة احتلال فرنسا في غرفة بيت عجوز فرنسي وابنة أخيه، التي تكسب رزقها من تدريس عزف البيانو. يقرر الفرنسيان مقاومة احتلال بلدهما، والاحتلال الرمزي لبيتهما بالصمت. يوميا، وعلى مدار فترة إقامته كان الضابط، الذي يحب الثقافة الفرنسية ويتقن لغة البلد، ويعمل مؤلفا موسيقيا، يحكي عن الموسيقى، وعن فولتير وراسين وبيتهوفن، مقدما مرافعة ثقافية إنسانية تحاول جسر الهوة بين الأمتين، وعن ضرورة اتحاد البلدين، بحيث يتولّد شعور حبّ لدى الفتاة، وإحساس بالألفة وبعض التعاطف من قبل العجوز.
يكتشف الضابط الفرانكفوني الهوى، أن الاحتلال النازي لم يأت ليوحد بين الأمتين والثقافتين، بل بأمل إخضاع فرنسا واستئصال روحها وإعدام هويتها، وعندها يتوقف عدة أيام عن النزول إلى غرفة الجلوس الدافئة التي تضم الفتاة وعمها، ثم يقرّر أن يقف أمام الباب حتى نسمع أول (وآخر) جملة من العجوز موجهة للضابط قائلا: ادخل! ينتهي الفيلم، الذي سيعاد إنتاجه عام 2004، باقتباس يستلّه العجوز من كتاب لأناتول فرانس ويقرأه الضابط قبل أن يترك البيت، وفرنسا، يقول فيه إن على الجندي أن يعصي الأوامر الإجرامية لجيشه.
السؤال مجددا: من يستطيع تحمّل تكاليف القرار الأخلاقي بمواجهة الشر إذا لم يكن القرار من مصلحته؟
*القدس العربي