حسام الدين محمد: سوء تفاهم مع الشرّ: البقاء للأقوى أم الألطف؟

0

يستذكر الفيلسوف الهولندي روجر بريغمان، في «النوع البشري: مستقبل مفعم بالأمل» الوقت الذي كان فيه كتاب غوستاف لوبون «سايكولوجيا الجموع» مرجعاً أساسياً لدى القادة السياسيين قبل الحرب العالمية الثانية (وبعدها أيضا) بحيث أن هتلر «قرأه من الغلاف للغلاف» وكذلك فعل ستالين، موسوليني، تشرشل وروزفلت.
يقدّم الكتاب المذكور تصويرا لطبيعة الجنس البشري عند تعرضه للأزمات، بحيث تُظهر عناصر الهياج والفوضى والعنف، المعدن الحقيقي الشرير للبشر.
استخدم هتلر هذه الفكرة حين بدأ طيران ألمانيا الجوي، حملة هائلة دشنتها 348 قاذفة في 7 أيلول/سبتمبر 1940، وخلال تسعة أشهر، وبعد 80 ألف قنبلة على لندن تم مسح ضواح بأكملها، وتحولت مليون بناية إلى أنقاض ومات 40 ألف بريطاني، فهل أدى ذلك إلى نزول البريطانيين إلى «أحط درجات سلم الحضارة» كما اقترح لوبون؟
حسب شهادة طبيب نفسي زار إحدى الضواحي بعد غارة عنيفة، أن «الأطفال استمروا في اللعب، والمتسوقين تابعوا مجادلة الباعة حول الأسعار، فيما أحد عناصر الشرطة ينظم السير وقد بدا عليه الملل الشديد، والدراجين تحدوا الموت وقوانين السير. لا أحد من هؤلاء كان ينظر إلى السماء». أحد الصحافيين الأمريكيين سأل زوجين كانا يحتسيان الشاي فيما أطر الشبابيك تهتز من القصف إن كانوا خائفين والجواب كان: «لا. ماذا سيفيدنا الخوف؟».
الكثير من شهود تلك المرحلة قاموا بدلا من ذلك باستخدام السخرية، لتحدّي الغارات، فأحد المحلات وضع يافطة تقول: «المحل مفتوح أكثر من المعتاد» وكتب آخر: «نوافذ حانتنا تحطمت، لكن مشروباتنا الروحية ممتازة. تعال وجربها» في تلاعب على كلمة spirits التي تعني الكحول، كما تعني المعنويات والأرواح.
الأغرب من ذلك أن العيادات النفسية لم تمتلئ، وأن إدمان الكحول انخفض وأن نسبة الانتحارات لم تزد عن أيام السلم، وأن العلاقات الاجتماعية بين البريطانيين تحسنت، وبذلك فإن الأزمة استحضرت أفضل ما في المجتمع وليس أسوأه، وعلى عكس نظرية لوبون، يقول بريغمان مستشهدا بصحافية أمريكية إن «الشجاعة، الدعابة، ولطف الناس العاديين، كانت مظاهر مدهشة في ظل الظروف التي كانت أقرب إلى كابوس».

من إخضاع بريطانيا إلى تهشيم ألمانيا

رغم إجراء إحصاءات نفسية على مناطق بريطانية واسعة تعرضت للقصف، وانتهت إلى أن لا دليل على انكسار في معنويات سكانها، فإن مستشارا لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، أصرّ على استخدام أسلوب القصف الهمجي على المدنيين الألمان، وقدّم اقتراحات تزوّر عمليا النتائج الإحصائية، وتم وصف العلماء الذين عارضوا هذا الأسلوب بالجبناء والخونة! أدى القصف البريطاني على ألمانيا إلى وقوع عشرة أضعاف عدد ضحايا القصف الألماني من البريطانيين، وفي ليلة قصف واحدة على مدينة دريسدن وقع ضحايا أكثر من كل من سقطوا في لندن خلال سنوات الحرب كلها. نصف مدن ألمانيا تدمرت وتحوّلت البلاد كلها إلى كومة من الأنقاض، فهل أدى ذلك إلى إخضاع الألمان وكسر معنوياتهم؟ لم يؤد ما حصل إلى هستيريا جماعية. حسب طبيب نفسي قابل قرابة مئة ألماني دمّرت منازلهم عام 1945 فإن الجيران كانوا يساعدون بعضهم و»إذا أخذنا بالاعتبار شدة وطول الأزمة النفسية، فإن الموقف العام كان منضبطا ومستقرا» وهناك تقارير للمخابرات الألمانية تنقل صورة مشابهة فبعد الغارات كان الناس يتساعدون في انتشال الضحايا من الأنقاض وفي إطفاء النيران. إحدى البقاليات رفعت يافطة ساخرة تقول: زبدة الكارثة تباع هنا!
ابتعثت وزارة الدفاع الأمريكية علماء اقتصاد لدراسة آثار القصف، لمعرفة إن كان هذا الأسلوب جيدا للانتصار في الحروب، وقد استنتجوا أن قصف المدنيين دعم اقتصاد ألمانيا الحربي، بحيث تضاعف إنتاج الدبابات تسع مرات، والطائرات الحربية 14 ضعفا، وهو ما يعني أن استهداف المدنيين أطال أمد الحرب.
يتساءل الكاتب لماذا وقع الأطراف المتخاصمون، هتلر وتشرشل وروزفلت في فخ آراء غوستاف لوبون التي تقول، إن الحضارة ليست غير طبقة رقيقة لا يلبث أن يتكشف زيفها حالما يتعرض البشر لأزمات؟ ولماذا لم يفهم العسكريون أن قصف المدنيين لا يضعف الرابطة الجماعية بين الناس بل يقوّيها (حرب فيتنام مثال ساطع)؟ وهل صحيح ما استنتجته «نيويورك تايمز» مؤخرا من أن تجربة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن القصف يؤدي لنتائج جيدة؟

لماذا بقي «الإنسان العاقل» واختفى الآخرون؟

حسب مقالة حديثة في مجلة «العالم الجديد» فقد تقاسم «الإنسان العاقل» كوكب الأرض مع عدة أنواع أخرى من الأجناس البشرية، لكن تفوقنا على تلك الأجناس لم يكن لكوننا الأقوى، لكن بسبب نقطة ضعفنا الأعمق: حاجتنا لبعضنا بعضاً.
كانت حظوظ الآخرين أعلى: النياندرتال، كان قد انتشر في مجمل آسيا وأوروبا، والإنسان المنتصب، نجح في العيش جنوب آسيا، وكان «الإنسان العاقل» آخر سكان الأرض أولئك وأحدثهم وجودا، وتأخر خروجه من افريقيا بعد أولئك بحدود 200 ألف سنة، لكن خلال 40 ألف سنة تقريبا، اختفى الآخرون وبقيت سلالة الإنسان العاقل. التفسيرات التي قدمت كانت حول قوة الدماغ، اللغة أو الحظ وحسب، لكن هناك قناعة جديدة تترسخ حول أسباب سيطرتنا، لكن المفارقة هي أنها تفسر الأمر بضعفنا العاطفي، باعتمادنا على بعضنا، بالإحساس بالتعاطف والشفقة مع الآخرين، وهذه هي العناصر التي قادت لانتصارنا على الأنواع البشرية الأخرى. لم يكن الإنسان العاقل أكثر ذكاء من نياندرتال، وربما من الدينوزوفيين، فكلاهما كان قادرا على صنع أدوات ذكية، ومنها الحراب التي مكنتهم من صيد حيوانات كبيرة. كانوا أيضا قادرين على إبداع أعمال فنية والتفكير الرمزي، وهي مسائل تم الاعتقاد بأنها كانت عنصرا حيويا في سيطرتنا وليس فقط في بقائنا. لقد حفر الإنسان المنتصب نماذج فنية على القواقع، قبل نصف مليون سنة ورسم نياندرتال على جدران الكهوف.
بعد هذه الاكتشافات انتقل التفسير من الذكاء إلى القدرة على التواصل مع غرباء، الذي يمكن تلخيصه نظريا بعبارة: البقاء للأكثر لطفا. هناك أدلة أركيولوجية تظهر، على سبيل المثال، أن الإنسان العاقل لم يعش في جماعات كبيرة وحسب، بل كانت لديه قدرة على خلق تحالفات عابرة لعشيرته أو جماعته. هذه القدرة، على ما يبدو، جعلتنا الأقدر على التكيف، والوحيدين القادرين على احتلال كل مكان على الكوكب.
كان إنسانا هايدلبرغنسيس والنياندرتال يملكان قدرات تقنية وثقافية، ومن ذلك صناعة الثياب، النار وبناء مسكن، بحيث كانا قادرين على التكيف مع الطبيعة، لكنهما، وكذلك أنواع هومو لزونيسيس وهومو فلورسيينيسيس، ما كانت قادرة على التأقلم مع أنواع أخرى.
طور الإنسان العاقل قدرات على التعميم: كلنا بشر، وعلى التخصص، أي القدرة على التكيف مع البيئات المختلفة. هناك تفسير من بيني سبيكنز عالمة الآثار البريطانية، لتطوير هذه القدرات، وهو ينصب، مجددا، على عاطفيتنا وهشاشتنا. لقد أعطتنا حاجتنا العاطفية محركا للتواصل مع الآخرين. أما توسيع شبكاتنا فجعلنا أكثر مرونة مما سمح لنا بالازدهار في كثير من البيئات المختلفة.
لقد سادت، بسبب الصراعات السياسية الكبرى، التي رافقت نشوء الإمبراطوريات والقوميات والأديان، نظريات لا تبرّر الشرّ المرافق للغزو والحروب، بل تعتبره طبيعتنا البشريّة الأعمق. نظرية «البقاء للألطف» بهذا المعنى، تقدّم تفسيرات أكثر رحابة لأسباب بقاء النوع البشري، ويمكن أن تعيد تفكيرنا في كثير من الأسس التي نقوم بها لفهم التاريخ.

*القدس العربي