أطلق طرفة بغجاتي مدير «مبادرة مسلمي النمسا» عضو المجلس الاستشاري للشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية، في 3 حزيران/يونيو الماضي، رسالة مختصرة على صفحته العامة على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» تقول: «تم في هذه اللحظات حجب محتوى خريطة الإسلام في النمسا من الإنترنت بشكل شبه كامل».
يفترض أن هذا الإعلان، طوى صفحة بائسة من علاقة النمسا الرسمية بالمسلمين، لكنّه لم يطو، عمليا، الأساس الذي استند إليه مطلقو هذه الخريطة، والمقصود بذلك قانون «مكافحة الإرهاب» الذي قام «مركز توثيق الإسلام السياسي» الذي أنشأته الحكومة الحالية مؤخرا، بالاستناد إليه في إصدار الخريطة. اعتبر القانون المذكور، في نسخته الأولى، أن «الإسلام السياسي» إرهاب، ورأى الشخص المركزي في المسؤولية عن إصداره، المستشار النمساوي سيباستيان كورتز، أن أوروبا مدعوة لمحاربة «الإسلام السياسي» لأن «تياراته تهدد الحرية في أوروبا».
القانون المذكور كان قد أعد إثر هجوم إرهابي على يد شخص يحمل الجنسيتين النمساوية والمقدونية الشمالية، وأودى بحياة 4 اشخاص في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 في العاصمة النمساوية فيينا، وتنص إحدى مواده، على تعقب الأفراد المدانين بالإرهاب بعد إتمام أحكامهم. خضع مصطلح «الإسلام السياسي» لنزاع بين طرفي الحكومة النمساوية، حيث كان حزب «الشعب» اليميني الشعبوي يسعى لفرض هذا المصطلح ضمن القانون، ويرى في كل تيارات الإسلام السياسي «تهديدا للحرية في أوروبا» فيما سعى حزب «الخضر» الشريك في الحكومة، لتخفيف الصيغة المتطرّفة التي تجرّم تيارات الإسلام السياسي عامّة، وكانت الصيغة التسووية هي ذكر «الإسلام السياسي» في القانون كمثال عن الإرهاب، واعتبار «امتدادات التطرّف الديني» عنصرا تجريميا.
«غراوند زيرو» وأسامة جودة
وبما أننا نتحدّث عن «تيّارات» فمن المناسب أيضا أن نلاحظ أن تيّار اليمين الشعبوي في النمسا، تمكّن من جعل الحادثة الإرهابية أشبه بما اصطلح عليه بـ»غراوند زيرو» الأمريكي الذي جرت فيه حادثة تدمير برجي التجارة الدولية على يد عناصر من «القاعدة» غير أنه لم يتمكّن من الإلغاء التامّ للواقع، الذي يعاكس بأكثر من وسيلة طرق رؤية المتطرّفين، سواء كانوا إسلاميين أو عنصريين غربيين. من هذه الوقائع أن شابا فلسطينيا مسلما يدعى أسامة جودة كان موجودا في موقع الحادثة، وقام بمساعدة ضابط مصاب محاولا إيقاف نزيفه وتقديم الإسعافات الأولية له معرضا حياته للخطر، ومن المعلومات المفيدة أيضا أن رئيس بلدية مدينة فايكندورف النمساوية، وضع عراقيل أمام عائلة جودة لمنعهم من شراء بيت لأنه لا يريد مسلمين في بلدته! إحدى القضايا التي حاول كورتز ونسخته من قانون «مكافحة الإرهاب» التعمية عليها هي الجمع المقصود بين التيارات التي ترفع راية الإسلام وتدعو للعنف وتستخدمه، كما هو حال تنظيم «الدولة الإسلامية» و»القاعدة» والأحزاب التي تشارك في الانتخابات ووصلت إلى الحكم في أكثر من بلد عربي.
ساهمت هذه التعمية المقصودة بين اتجاهات ما يسمى «الإسلام السياسي» في الانتقال (المقصود أيضا) إلى استهداف الإسلام والمسلمين عموما، مع تعميم «مركز توثيق الإسلام السياسي» لما سماه «خريطة الإسلام» (لاحظ كيف انتقل مركز توثيق لموضوع خاص إلى توثيق شأن عام). مع ضم الخريطة عناوين وطرق الاتصال بكل الجمعيات والجهات التي تعمل تحت يافطة الإسلام، انكشفت رغبة حزب «الشعب» من تجريم «الإسلام السياسي» وهي، عمليا، تجريم أي نشاط تنظيمي يقوم به مسلمون، سواء كان جامعا أو جمعية ثقافية أو مدنية أو اجتماعية، وهذا أمر لا تسعى أحزاب اليمين الشعبوي والعنصري لإخفائه، فهو موجود ضمنا من خلال أجنداتها السياسية المناهضة للمسلمين واللاجئين والمهاجرين.
ذكريات الأيام السوداء
الأمر الإشكاليّ، في اضطرار حزب «الشعب» تحت وطأة ضغط شركائه وأطراف دينية وسياسية نمساوية متنوعة، إلى الرضى المتذمر بمصطلح «امتدادات التطرّف الديني» أن المصطلح يجمع، من حيث لا يحتسب، بين أحزاب اليمين العنصريّ الغربية، وخصومها من أتباع بعض الاتجاهات الأيديولوجية الإسلامية، فالمتطرّفون أولياء بعض، وإذا كانت أحزاب اليمين العنصريّ تتحصّن بالقضاء والقانون لممارسة العنف الشرعيّ، فإن مناصريها لا يكفّون عن إظهار القدرة على ممارسة العنف الإرهابي، كلّما سنح الوقت، فيبدو الأمر كما لو أن أتباع الأجندتين يتبادلون الخبرات والأساليب، ويتنافسون على من يستطيع إلحاق الأذى بالجماعة الأخرى أكثر!
فتح نشر الخريطة الباب لمجموعة من الاعتداءات على المسلمين ورموز الإسلام، ومنها تعليق بعض اليافطات قرب بعض المساجد مكتوب عليها «احذر جارك هو إسلام سياسي» وهو ما علّقت عليه النائبة نورتن ايلماز، وهي من أصول تركية، بالقول، إن ذلك «يذكرنا بأيام سوداء من تاريخنا» والواضح أن هذا لم يذكر المسلمين وحدهم بـ»الأيام السوداء» فقد ندد رئيس مؤتمر حاخامات أوروبا بها، وهو ما فعله رئيس الكنيسة الكاثوليكية في النمسا، ورئيس أساقفة الكنيسة البروتستانتية، إضافة إلى الحزبين الاشتراكي والليبرالي وجهات أخرى كثيرة أوروبية ونمساوية.
لا تشكّل الحادثة النمساوية سوى جزء من المشهد العام، فما حصل هناك مشابه لما يحصل في فرنسا، وما جرى في النمسا تحت يافطة محاربة «الإسلام السياسي» حصل في فرنسا تحت يافطة محاربة «الانفصالية الإسلامية» وقد امتدّت الحملة اليمينية الفرنسية لتشمل ما تسميه «اليسار الإسلامي» ضمن الجامعات.
حبل السرة على طرفي الخريطة
لا يخفى على الناظر أن هذا التوجّه الأوروبي لإضعاف مبادئ الديمقراطية، التي تؤكد على حق اعتناق المبادئ السياسية كافّة، ومبادئ المساواة، عبر استهداف مجموعة معينة من المجتمع بالتهميش والتضييق والمراقبة والعداء، يتقرّب، بقوانينه المجحفة، وبممارساته السلطوية، من منظومة الطغيان العربية، التي كانت بعض أنظمتها، رائدة في ابتكار قوانين «مكافحة الإرهاب» وتطبيقها الوحشي على معارضيها، بدءا بالإسلاميين وانتهاء بكل من يقف في وجهها، وأن الأجهزة الخارجية لتلك الأنظمة تنسّق مع الدول الغربية ضد ما تعتبره «إسلاما سياسيا» في الغرب، وأن بعضها يقوم بتمويل مشاريع لتجريم الجمعيات الإسلامية ولتسفير بعض اللاجئين الفارين من بلدانهم إليها.
إحدى المفارقات الواضحة ضمن هذا السياق أن المساهمات الفاعلة الكثيرة في أوروبا ضد استهداف المسلمين والأقليات واللاجئين، التي تأتي من اتجاهات سياسية وإعلامية ودينية، يقابلها خطّ هجوم يشارك فيه أشخاص جاؤوا من تلك الأقليات، كما هو حال عدنان أصلان الأكاديمي الذي نشر الخريطة، وزميله مهند خورشيد، وهما يلتقيان، أيديولوجيا، مع اليمين المتطرّف الأوروبي، في استهداف أقليات من الشعوب التي جاؤوا منها!
ينتظم في «حبل السرّة» هذا عدد من الكتاب والإعلاميين والمثقفين على طرفي الجغرافيا، ولا يبدو، والحال هذه، غريبا، أن نقرأ إشادات في بعض الدول العربية بهذا الاتجاه اليميني، ففي مقال نُشر في صحيفة خليجية بعنوان «تجريم الإسلام السياسي في النمسا» يشبه الكاتب المسلم «الإسلام السياسي» بالنازية، التي، كما يقول «تتجلى في العنصرية، والتشدد ضد الأعراق الأخرى، وعلو جنس على جنس آخر، والإيمان بقمع وإبادة الأعراق الدنيا» وبذلك يقوم الكاتب بإزجاء المديح لحزب يميني، يتقرب ضمنا إلى النازية ويتضامن معه في قانون لا تخفى بواعثه العنصرية!
*القدس العربي