قرأت في ثمانينيات القرن الماضي، رواية حيدر حيدر الشهيرة «وليمة لأعشاب البحر» وفُتنت بشعريتها العالية، كما بامتزاج تلك الشعرية بتصوير الحالة الراديكالية والمصائر الملحمية، الكارثية أحيانا، التي آلت إليها حركات انشقاقية ماركسية مثل «الحزب الشيوعي – القيادة المركزية» (التي خاضت تجربة كفاح مسلّح فاشلة في أهوار العراق) ونظيرات لها في ساحات عربية أخرى.
من أعماله الأخرى التي نالت شهرة، روايته القصيرة «الفهد» التي أنتج فيلم عنها عام 1972، أسهمت في صناعته نخبة سورية مهمة، من المخرج نبيل المالح، إلى الشاعر ممدوح عدوان الذي ألف أغانيه (واستوحى أحداث القصة الحقيقية في مسرحيته «المخاض») والملحن سهيل عرفة الذي كتب موسيقاه، وشارك فيه ممثلون مرموقون مثل خالد تاجا وأديب قدورة (الذي مثّل دور الفهد) وقد حول الفيلم بطلته، إغراء، إلى أيقونة جنسية.
يشير فيلم «الفهد» إلى مزاج نخبويّ سوريّ عام، تقارب مع جوّ سياسيّ مناسب، يمثّله صعود حكم حافظ الأسد (1970) وحاجة إلى انتقاد حقبة الاستقلال (أحداث القصة تدور عام 1949) وكذلك الحاجة لنقد تحالف «الإقطاع» مع سلطة ما بعد الاستقلال السياسية. كان هذا في رأيي، نوعا من «زواج مصلحة» بين المثقّف الثوري «البرّي» والسلطة السياسية التي أنهت «مرحلة تحالف الإقطاع مع سلطة رأس المال» ممثلة بانقلاب حزب «البعث» عام 1963! تستلهم رواية «الفهد» قصة أبو علي شاهين طالب، الفلاح الذي اشتبك مع حارس إقطاعي في قريته سيغاتا في قضاء مصياف، فسجن وعذّب، وسحقت كرامته بوحشية من قبل الدرك، فهرب من السجن وخاض صراعا مع الدرك والإقطاع، قبل أن يقوم أحد أقاربه بالإبلاغ عنه فيقبض عليه ليتم إعدامه. التقيت خلال خدمتي العسكرية بحفيد أبي علي شاهين، الذي كان يحتفظ في جيبه بصورة لجدّه الشهير مكبلا بالسلاسل. قال لي حينها إن اسم عائلته صار «أبو علي» (وليس شاهين أو طالب) انطلاقا، على ما يبدو، من تلك الحادثة، وكان ظريفا أن أتعرّف إلى قائد اللواء، وهو ينحدر من قرية حيدر (وسعد الله ونوس) حصين البحر، وقد كلّفني، حين عرف بعلاقتي بالطباعة والنشر والكتابة، بتجليد كتب مكتبته المحترقة أغلفتها أو أجزاء منها، وكان حيدر حيدر يأتي أحيانا إلى ذلك اللواء لممارسة الصيد، هوايته الشهيرة التي يرد ذكرها في أعماله، وأورثها لعدد من أبطال رواياته. كانت لحيدر علاقة رمزية أيضا، بصحيفة «القدس العربي» عبر مصاهرته، التي لم تطل كثيرا لزميلنا الشاعر الراحل أمجد ناصر، حيث تزوج حيدر أخت زوجته هند الساروط.
يمكن تلخيص «وليمة لأعشاب البحر» ضمن مسار علاقات العراقيين مهدي جواد ومهيار الباهلي، اللذين يكابدان حسرات مشاركتهما في انتفاضة الأهوار عام 1968، مع البيئة الاجتماعية الجزائرية، وبالحدث المتنقل بين حالتي الجزائر والعراق، مع إحالات إلى تشابه طباع العراقيين والجزائريين (العنف والجنس والكحول خصوصا) ومقاربة نظام صدام حسين (الذي يعطيه الروائي طابعا أسطوريا مرعبا تحت مسمى اللوياثان) بنظام هواري بومدين. تنتهي الرواية بانتحار مهدي بعد اعتقال السلطات الجزائرية لصديقه مهيار.
بدأت روايات حيدر بالبيئة الدمشقية بين الستينيات ومطالع السبعينيات، في رواية «الزمن الموحش» ثم بيروت، التي انتقل إليها ليعمل مع المقاومة الفلسطينية، «السنونو المهاجر» ثم افريقيا، في «مرايا النار» و«شموس الغجر» التي تتحدث عن علاقة بين شابة يتحول والدها من يساري إلى شيعي متعصب، وشاب فلسطيني غارق في مشاكله الخاصة، و«غسق الآلهة» التي تتناول الاختلال في العلاقة بين المرأة والرجل، وأخيرا «مفقود» التي تعود، بعد رحلة طويلة جدا، إلى سوريا، حيث تتحدث عن وجود جنديّ علويّ خلال سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على الرقة، كما يتطرّق إلى رفض عائلته زواجه بسنّية (ورفض عائلتها له).
أثارت وفاة حيدر جدلا لا ينفكّ يندلع، كلما رحلت شخصية عامة، أدبية، أو سياسية، أو دينية، حيث ينقسم السوريون، ومن في حكمهم، حول تقريظ ومدح تلك الشخصية، وإظهار دورها الثقافي أو السياسي أو الفني (مثل صباح فخري) أو الديني (منيرة القبيسي) أو تأكيد ثوريتها، أو كونها «شبيحة» للنظام (كما حصل مؤخرا مع وفاة الممثل محمد قنوع) وينقسم الطرفان، من داخلهما، إلى جهات متنازعة، فيختلف جمهور المعارضة على كون المتوفى ثوريا أم إرهابيا (كما حصل مع عبد الباسط الساروت) أو طائفيا أم علمانيا (كما حصل مع الكاتب نبيل فياض).
اقتبس الإعلامي السوري محمد منصور مقطعا طويلا من رواية حيدر الأولى، «الزمن الموحش» يرد فيه: «لواء فرحهم معقود وأنا حاديهم، ومعنا مسرة وبنادق، كتب وسجلات فقر، زحفا في اتجاه المدن التي سقطت تحت ضربات الطلائع الأولى» مستنتجا أن ذلك كان تعبيرا عن «إحساسه الطائفي بالنشوة والظفر» وخالصا إلى أن حيدر هو «الكاتب الأكثر طائفية ووضوحا بين كتاب طائفته»! كتب كاتب سوري آخر، هو منصور المنصور، ما يمكن اعتباره إضافة على الفكرة الآنفة بعزو شهرة حيدر إلى «غباء تيار الإسلام السياسي» الذي «يجعل المجرمين والطغاة، في ذهن العالم، علمانيين مدافعين عن الدولة بمفهومها الحديث».
تقول إحدى مراجعات «الزمن الموحش»: «تمثل الشخصيات المثقفة في الرواية الموقف العلماني الرافض للتراث» ويميل بعض السوريين إلى التعامل مع هذه الجملة كـ»شيفرة طائفية» لحقبة سياسية وثقافية سورية طويلة، يمكن ترجمة معناها الحقيقي لا الحرفيّ، كمعادلة يتماهى فيها وصف «العلماني» مع مركّب سياسيّ ـ عسكريّ (الأحزاب اليسارية والجيش والأمن) وثقافي – ديمغرافي يضم أبناء الأقليات الطائفية والريف، فيما يتراكب وصف «التراث» على أهالي المدن، والإسلام التقليدي المحافظ، والمسلمين (السنة خصوصا). يفتح المنصور بابا آخر على هذه التراكبات لدى حيدر ومجموعة كتاب وروائيين سوريين آخرين مثل، حنا مينه ونبيل سليمان قائلا إنهم «كرّسوا مجمل أعمالهم للانتقام من المدينة» حيث «المدينة هي التاجر الذي لا يحمل قيما وهمّه الربح، ابن سوق يساوم على كل شيء» فيما يأتي البطل ابن الريف في رواياتهم «غازيا دمشق، عبر نسائها، هاتكا أعراضها بفحولته الريفية التي لا يمتلكها ابن المدينة، الذي هو على العموم مخصيّ» أبطال حيدر ومينه، «هم أبناء الطبيعة الساعين لإقامة العدالة الاجتماعية والاشتراكية في مجتمع موبوء أبناؤه يعملون على استغلال البشر».
تكشف «الوليمة» وأعمال عديدة لحيدر، عن منظومة أفكار متقاربة، منها مساواة حركات التمرد على المنظومة الإسلامية التقليدية السنّية (مثل الشيعة والقرامطة والبابكية) بتمردات الحركات الشيوعية على الأنظمة الحديثة (يقول في «الوليمة» مثلا: «هكذا بدأ محمد ثم علي بن محمد في سواد البصرة ثم أبو طاهر القرمطي وتشي غيفارا»).
في أعمال حيدر مواجهة خطّية مستمرة بين المثقّف حامل الراية التنويرية، الذي يحاول تغيير المجتمعات بـ«العنف المسلح» فيتواجه دائما بأن السلطة التي ينشدها «تتزوج من غيره» فيسود «الغزاة الداخليون» ويعمّ الخراب، وتدور الأحداث في حلقة جهنمية مفرغة تجعل «البطل» خاسرا أبديا، لأن العطب ليس في الأنظمة فقط، بل في الشعوب أيضا. المثقف هنا، ليس جزءا من العطب، وخطابه عن فرض العلمانية على الشعوب المتخلفة ما زال هو الحل.
بعد «الأحداث» الأخيرة في سوريا، منذ عام 2011، يقوم حيدر، بمراجعة لتاريخه في مقدمة روايته الأخيرة، «مفقود» ليركز مجددا على «الثقافة». فيكتشف أن المشكلة لم تعد فقط «الطائفيين» بل «المثقفين والمتدينين المذهبيين والديمقراطيين والتنويريين والقومجيين واليساريين أيضا»!
*القدس العربي