نشر الكاتب السوري فراس السواح «تعميما» له على «فيسبوك» يقول: «أنا لا أقبل طلبات صداقة من محجبات. حجاب الرأس يعني حجاب العقل»، وأكد لاحقا في مقابلة تلفزيونية لاحقة معه في القاهرة أن: «الحجاب ظاهرة غير حضارية ويجب أن تختفي. إذا أردنا أن نسير نحو المستقبل علينا، ألا نتبنى المعايير القديمة. معايير القرن الثاني والثالث الهجري»، مضيفا: «نحن أمة تلتفت نحو الماضي ولا تلتفت نحو المستقبل».
أحدث هذا البيان المفاجئ لفراس السواح ردود فعل قوية فكيف يمكن لصاحب «مغامرة العقل الأولى» و«لغز عشتار» وعشرات الكتب الأخرى في قضايا الميثولوجيا والتاريخ والأديان القديمة، أن يقوم بحشر نفسه في تلك الثنائية الخطّية الفجّة التي تواجه الحجاب بالعقل، والماضي بالمستقبل؟
انقسم المتعاطون مع آراء السواح إلى اتجاهين، وكان اتجاه معارضتها غالبا حيث التقط كثيرون، بينهم مصطفى تاج الدين موسى، مفارقات خطاب السواح متسائلا: «ماذا نقول للأم القابعة في خيمة اللجوء، تحاصرها الأمطار والفقر والجوع وقد قتل أولادها. نقول لها إخلعي حجابك يا متخلفة؟ إنه سبب الهزيمة. حجابك هو الذي أساء للبلد لا رامي مخلوف وزمرة اللصوص؟ أم نقول لها أن تلك الشخصيات التاريخية التي تؤمنين بها هي شخصيات حقيرة على عكس شخصيات القادة الأمنيين؟»، كما سخر منها كثيرون على وسائط التواصل الاجتماعي، واتجه البعض، مثل ابتسام تريسي، إلى التعبير عن تقدير إنجاز الكاتب الفكري الطويل، ولكنّها، وهي المحجبة – كما تقول – أشارت إلى انتظارها منه، طيلة 8 أعوام من عمر الثورة السورية، «موقفا أخلاقيا» يعبر فيه عن تعاطفه مع المعتقلين أو النازحين، غير أنه، على حد قولها، اختار «منشورا من السخف أن أناقشه»، خاتمة بالقول إن «الأيديولوجيا حجاب»، وأن «حُجب العقل أكثر من أن تحصى».
الاتجاه الثاني عبّر عنه القاص والكاتب خطيب بدلة الذي اعتبر الكلام عن الحجاب صحيحا، وأن «المشايخ التافهين الذين تدخلوا بالحرية الشخصية للنساء تحت اسم الدين هم مثل رفعت الأسد وربما أسوأ»، وأن التخلف توصيف صحيح لأحوالنا، مشيرا مجددا إلى «الحثالات التي صارت تلاحق النسوان في إدلب» لتحجيب النساء قسرا وإهانتهن بأوصاف الفجر والفسق»، وأخيرا أن «التخلف لا ينحصر بالنساء فرجال مجتمعنا متخلفون، بحجاب وبدون حجاب».
أحد من بحثوا المعضلات السياسية والاجتماعية والنفسية المتعلقة بالحجاب، كان فرانز فانون، الطبيب الدومينيكي المناصر للثورة الجزائرية (1925 – 1961) الذي قام في كتابه «سوسيولوجية ثورة» بدراسة الحجاب والزي الإسلامي الذي كانت تلبسه الجزائرية (المسمى «الحايك») في علاقته الدينامية المعقدة والمتحولة بالثورة، شارحا كيف ردّ المجتمع الجزائري على محاولة المستعمرين تقسيمه من خلال استهداف المرأة وجسدها، منها العنيف كالاغتصاب والانتهاك والكشف، ومنها المبطن، تحت دعوات «التحرر» من الحجاب، وهو ما ردت عليه الجزائريات، مرة بالمزيد من الاختفاء والتمسك بالحجاب، ومرات بطرق نزعه عندما تتطلب دينامية الثورة والمجتمع ذلك.
قدم فانون دراسة أخرى لديناميات التعامل مع الجسد والحجاب في بحثه المعنون «الجزائرية تلقي الحجاب» مبينا كيف تغيّر موقف المرأة حين احتاجت الثورة إلى نساء سافرات لنقل القنابل والمسدسات والمناشير، وصار الحجاب، بالتالي، عائقا أمام هدف المجتمع العام بالتحرر، كما درس تقلبات هذا الوضع سلبا وإيجابا، بحسب تطورات المجتمع السياسية والاجتماعية بالعلاقة مع المستعمر، وبالعلاقة مع المجتمع نفسه.
قامت فاطمة المرنيسي في عدد من كتبها، كما في «الحريم السياسي» و«ما وراء الحجاب»، بتحليل عميق وكاشف للديناميات العميقة لمفهوم الحجاب وممارساته، وبحثت أسباب المآلات الوخيمة التي انحدرت إليها النساء العربيات والمسلمات، رابطة ذلك دائما بتطورات الواقع التاريخي والعياني لنشوء الإسلام وتطور الحضارة العربية ـ الإسلامية، مفككة المفاهيم المسيئة للمرأة عبر دراسة لأسباب نزول الآيات، وعلاقة بعض الأحاديث المهينة للمرأة بوقائع الصراعات السياسية اللاحقة، ثم أثر انتشار الفتوحات وتدفق الجواري من البلدان المفتوحة، ما أدى إلى انعزال النساء في حيز «الحريم» وتراجع دور المسلمة في الشأن العام، وصولا إلى ما نرى اليوم من جدار عال بين القيم الديمقراطية العالمية التي تُعلي من شأن المرأة ومظاهر إنكار حقوقها واستخدامها كسلعة والتجبر عليها كإنسانة والتحكم بجسدها.
يكشف تحليل المرنيسي طاقات الثورة في الإسلام على مفاهيم القبلية القديمة، وحيثيات النزوع لإشراك المرأة في الحياة العامة وإعطائها حقوقا لم تكن موجودة لها، وكيف ووجه ذلك بمقاومة شرسة استهدفت النبي شخصياً ونساءه والمجموعة الإسلامية ككلّ، خصوصا في فترة الهجرة العصيبة إلى المدينة، وأدى ذلك لتراجعات أملتها ظروف عانت فيها المجموعة الإسلامية صعوبات كان يمكن أن تقضي عليها، واعتبرت مرنيسي مقاومة النساء في تلك الحقبة التأسيسية وما بعدها، وتأثيرهن العظيم في شؤون المسلمين السياسية أمرا يمكن البناء عليه لصالح المجتمعات الإسلامية الحديثة.
قامت المرنيسي، كما فانون، بقراءة الحجاب وهندسة الجسد البشري ضمن معطيات الواقع وتطوراته، وليس كمعادلات حاسمة وجازمة أيديولوجية وسلطوية لتطويع المرأة واستخدام جسدها في الصراع السياسي، باسم الدين تارة وباسم التقدم والعقل تارة أخرى.
توضح ردود الفعل العنيفة على معادلة فراس السواح، الطبيعة السياسية لتلك التصريحات حيث فهم المعلقون الشيفرات الكامنة وراء كلمات «الحجاب» و»التخلف» و»العقل» و»الماضي» و»المستقبل» على حقيقتها، لا كما تبدو عليه، وقرأوها ضمن خطاب النظام لإكمال تهشيمه للاجتماع السوري (الذي تلبس نساؤه الحجاب)، كما قرأوا مضمونه الباطني، الذي يمكن استخدامه في الصراع السياسي (بشكل غير مباشر) على أن ذاك النظام يمثل المستقبل والعقل، فيما تمثل الثورة عليه التخلف الذي يجب القضاء عليه.
الفرق بين خطاب المرنيسي عن تمكين النساء المسلمات (المقروء ضمن المقاومة التي أبدتها أمثال السيدتين الجليلتين عائشة وأم سلمة زوجتا النبي، وابنتته فاطمة، وحفيدته سكينة بنت الحسين، والنضال العظيم الذي قمن به، وكثيرات بعدهن، دفاعا عن موقعهن في الشأن العام)، وخطاب السواح عن «الحجاب تخلف»، هو مثل الفرق بين دفاع النساء العربيّات عن حقوقهن في المواطنة والسفر والإرث والتعبير، وحملة رفعت الأسد الذي أراد «تنوير» السوريات غصبا بإرسال عناصره من المظليات لنزع ألبسة رأس نظيراتهن من السوريات «المتخلفات»، وقد فهم السوريون آنذاك معنى الرسالة: نحن محتلون وأنتم أسرانا ونحن قادرون على إخضاعكم وانتهاك نسائكم بالقوة.
*تقول بلقيس ملكة سبأ في رواية لغوستاف فلوبير: «أنا لست مجرّد امرأة… أنا العالم بأسره، فمتى سقطت ثيابي عني، تكشفت لك أسرار وألغاز». لقد حاول السواح حلّ «لغز عشتار» القديمة بإسقاط حجاب عشتار الحديثة، ولكنّه أخطأ في حل لغز نساء بلاده البسيط ـ المعقد والذي يمكن تلخيصه بأن خلع أحجبة النساء بدعاوى «العقل» و»التقدم» و»المستقبل» (أو بالتشديد عليهن باسم الدين) قسرا لا يمكن فهمه إلا كآلية إخضاع وتدمير.
إن محاولة طرف، أكان سلطة مادية أم رمزيّة، فرض أفكاره بالقوة، حتى لو كانت أكثر «تقدمية» من أفكار من يمارس عليهم الفرض والغصب والقسر، أمر يرفضه كافّة البشر، ومن كافة الأديان والأعراق والاتجاهات السياسية، وهم على استعداد للقتال ضدّه بشراسة.
والخلاصة أن تغيير الناس لقناعاتهم لا يأتي قسراً بل نتيجة لتطوّر تاريخي يقع التغيير السياسي الديمقراطي في صلبه. يمكن للدكتاتورية أن تخضع البشر لكنها لا تستطيع احتلال أرواحهم وتغيير قناعاتهم بالقوة.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
لقراءةالمقال من المصدر انقر هنا