ستعيد الكاتب السوري ماهر مسعود في مقالة له نشرت مؤخرا في مجلة «حرمون» بعنوان «في فلسفة اللغة: اللغة والعقل والتسلط» فرضية للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، وردت في كتابه «تكوين العقل العربي» (الجزء الأول من مشروع في «نقد العقل العربي») تربط إشكاليات «العقل العربي» باللغة العربية.
يصف الجابري في كتابه المذكور الأعرابي بـ«الحيوان الفصيح» ويقول إن العربية «لغة لا تاريخية لا تتجدد بتجدد الأحوال، ولا تتطور بتطور العصور» وبأنها لا تسعف الإنسان العربي «بالكلمات الضرورية عندما يريد التعبير عن أشياء العالم المعاصر» مستنتجا أن هذه المفارقة «توجب على المثقف العربي العيش في عالمين كلاهما قاصر: عالم لغته العامية، وعالم اللغة الفصحى».
يسير مسعود على مساق الجابري، لكنه يتجاوزه بالقول إن اللغة العربية «رسمت حدود الثقافة العربية، وصاغت ممكنات التفكير والتعبير لدى الإنسان العربي» وأنها تنوس بين حدين: الأول هو «الأصل القابع في الماضي» ما يؤدي إلى «إنتاج وإعادة إنتاج سلطة الدولة أو العشيرة أو الطائفة أو الشعب» والحد الثاني هو «المتعالي، المثالي والكامل، الباحث عن مثالية اللغة والكلمات في ذاتها بمعزل عن الواقع» «حيث يبدو «الكتاب المقدس» حاملا لإمكانية لانهائية في ذاته لتفسير الوقائع الجديدة» وهو ما «نراه في التراتبية الاجتماعية والسياسية المرتبطة باللغة» وما يؤسس «للاستبداد السياسي والاجتماعي» وبذلك تمنع اللغة، في حالتنا العربية، ناطقيها من التطور الاجتماعي والسياسي.
يستخدم الجابري، في مشروعه النقدي ما يعتبره منهجية أبستمولوجية لإظهار الخلل الذي أدت إليه اللغة العربية في تكوين العقل العربي، فأدت لجعله عقلا بيانيا، أما رؤية مسعود للغة العربية، فتحملها مآلات الحاضر السياسي والاجتماعي أيضا، بما فيه الاستبداد السياسي، و«إعادة إنتاج سلطة الدولة أو العشيرة أو الطائفة أو الشعب».
كسر قداسة الكلمات والإنسان
جاءت اقتباسات الجابري لأفكاره التي تربط «العقل» بـ«اللغة» من كتاب أوروبيين، كالألماني هردر (1744-1803) وإدوار سابير (1884-1939) وآدم شاف (1913-1939) أما مسعود، بعد افتتاحه مقالته ببعض مقولات الجابري في هذا الموضوع، فينتقل إلى ما يسميه «التفكير الفلسفي في ماهية اللغة» وإلى أطروحة فردينان دوسوسير الشهيرة حول أن «الكلمات التي تحتويها أي لغة لا تشير إلى معان أصيلة، أو ماهيات ثابتة موجودة، لأنها كلمات موضوعة وضعا ومتفق عليها اتفاقا» مشيرا إلى أن هذه الفكرة كانت بداية ثورة انتقلت إلى الفلسفة والعلوم الأخرى، التي اتضح بعدها أن «الإنسان لا يفكر إلا ضمن بنية لغوية وثقافية معينة، ولا معنى لكلماته وأفكاره، وبالتالي له هو ذاته، خارج تلك البنية التي تحدده، وتحدد أفكاره وعلاقته بالعالم، فاللغة هي أداة للإنسان، لكنها الأداة التي تصنعه أيضا» وبناء عليه، يرى مسعود أن هذه الثورة أدت إلى «كسر قداسة» الكلمات والإنسان، لكنه، في الوقت نفسه، يعطي «بنية اللغة» سلطة هائلة، يجعلها مسؤولة عن «ذوقك في الموسيقى، في المأكل والمشرب، في اللباس، الأفكار الدينية التي تؤمن بها، العلم الذي تتبعه، الأخلاق، الجريمة، الحب، الاقتصاد.»..، وبما أنه «لا أصالة ولا جوهرية» في هذه البنى، و«لا هي تمثيل للحقيقة» «فلا تفاضل في المحصلة بين البنى المحددة للثقافات والمجتمعات المختلفة على الإطلاق».
ينتقل مسعود من فكرة «حاكمية البنى اللغوية» إلى فكرة «حاكمية الطبقة» عند ماركس، و«حاكمية اللاشعور» عند فرويد، ثم إلى فكرة «حاكمية الخطاب» حيث «الأديان مجرد أساطير» و«الأسطورة ليست إلا حقيقة زمن معين» ولا فرق بالتالي بين «أساطيرنا (حقائقنا) في القرن الحادي والعشرين وأساطير الأولين» ليعود بعد هذه الرحلة الشائقة للاستنتاجات المذكورة آنفا حول اللغة العربية، في نسج جديد لحاكمية بنيتها المؤسسة للاستبداد السياسي والاجتماعي و«الأنتي ديمقراطي».
الله شاعر الوجود
إضافة إلى استنادها الافتتاحي إلى مشروع الجابري، تحتوي مقالة مسعود طموحا هائلا لاستدخال فكرة بنية اللغة في قراءة مجمل البناء الفكري للعالم من المفيد، بالتالي، في هذا السياق، العودة إلى النقد الذي تعرض له مشروع الجابري، بدءا من مشروع جورج طرابيشي الهائل، الذي استغرقه أربعة كتب في «نقد نقد العقل العربي» وثلاثة كتب فرعية أخرى، وانتهى، كما هو معلوم إلى تفكيك هائل لذلك المشروع. يفيد أيضا ما أضافه كتاب عرب آخرون، فالمغربي محمد همام، يشير إلى أن تحليل الجابري، طبعه كثير من التعميم والحسم في قضايا لغوية هي الآن مثار نقاش وجدال في الوسط اللساني الأكاديمي، وأن في تحليله «تقصير واضح في الكفاية النظرية والإجرائية، فالخلل وقع منذ البدء، هو عدم طرح مبادئ ومسلمات نظرية وقرارات منهجية موازية على شكل تساؤلات محورية تمسك بتلابيب الظاهرة اللغوية في عمومها من نحو: ما الذي يميز اللغات الطبيعية عن غيرها من اللغات؟ ما هي السمات التي تلتقي فيها اللغات، وما هي السمات التي تختلف فيها؟ إلى أي مدى تغيرت اللغات وإلى أي مدى ظلت قارة؟» خالصا إلى أن « تصور الجابري اللغوي مشدود بشكل وثيق إلى التفكير الفلسفي القديم، خاصة الفلسفة اليونانية، التي تعتبر اللغة اليونانية مقياسا للغات العالم» وأنه «يستنجد في مرجعيته إلى التفكير الأرسطي، الذي يخلط بين الدراسات اللغوية والدراسات المنطقية والميتافيزيقية».
أما الباحث المغربي عادل الطاهري فيشير إلى أن الجابري يُغفل أن الآراء التي يستند إليها في موضوع اللغة، ذات أصل لاهوتي مسيحي (هردر وأستاذه يوهان هامان صاحب مقولة: الله شاعر الوجود) كما أغفل العلاقة الجدلية بين العقل واللغة، فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، إضافة إلى ذلك فإن الجابري، خدمة لخطابه، يُغفل أن الصحراء لا تغطي كل رقعة شبه الجزيرة العربية، ولا شبه الجزيرة العربية تغطي كل رقعة الحضارة العربية الإسلامية، فشبه الجزيرة العربية مطوقة، كما يدل اسمها بالذات، من جهاتها الثلاث بالبحر».
العقل البشري لوح فارغ؟
يفيد، في هذا السياق، أيضا الرجوع إلى مقترحات علوم اللغة. في مجال الدرس الألسني وعلاقته بالواقع، يمكننا العودة مجددا إلى تشومسكي، الذي يعتبره الألسنيون مسؤولا عن تقويض «الدعائم التي قام عليها علم اللغة الحديث» (الذي ابتدأه دوسوسير) حيث قام بنقد «المنهج الذي تأسس على الافتراض الخارجي والسطحي للغة». قدم تشومسكي نقدا للسانيات البنيوية وسعى، في منهجه، إلى إعادة العلاقة بين اللغة والواقع، عبر «ربط المعرفة اللسانية، بالتكوينات البيولوجية الإنسانية» فـ»العقل البشري يمتلك نظاما من القواعد هي التي توجه الفعل اللساني الملفوظ» وبذلك، كما يقول مختار الدرقاوي، أستاذ علم الدلالة الجزائري، أطاح تشومسكي بالمقترحات اللغوية التي ترى «العقل البشري مجرد لوح أملس فارغ من كل شيء».
يقول مسعود «لا تفاضل في المحصلة بين البنى المحددة للثقافات والمجتمعات المختلفة على الإطلاق» كما يقول، «لا فرق بين أساطيرنا في القرن الحادي والعشرين وأساطير الأولين» لكنه يخصص العربية بخصائص «التعالي والمثالية» ويحمّلها مسؤولية الاستبداد ومنع التطور السياسي والاجتماعي، فما الذي جعل العربية «تتفاضل» على غيرها من لغات العالم، وتصبح المسؤولة الكبرى عن الكارثة السياسية والاجتماعية العربية؟
اللغة (العربية أو غيرها) حتى لو كانت تعاقدا عشوائيا بين ناطقيها، ولم تنبع كلماتها من واقع أو تتنزل من مكان غامض، فهي أداة التفاهم والتفكّر والإبداع والصراع بين البشر، وإذا كان للغة العربية مكان عليّ في القرآن (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) فهي أيضا اللغة التي نطق بها «كفار قريش» وهجا الشعراء بها النبي، وكتب بها الملاحدة، ولقب واحد من أعظم شعرائها بـ«المتنبي» ووصف المعرّي ديوانه بأنه «معجز أحمد». الهجوم على اللغة، والدفاع عنها، أيضا هو أدوات للصراع في عوالم الفكر والسياسة والاجتماع، ولعلّ نسبة الاستبداد إليها، هو نوع من التفريعات «المثالية» الكثيرة، التي توجّه اللوم إلى بنى فكرية (كالدين والنزعات الأخلاقية) بدل البدء بنقد الأسس السياسية للاستبداد، واستخدامه للغة والدين والإعلام كأدوات في خدمة الطغيان.
*القدس العربي