بين الـ34678 مشجعا رياضيا حضروا مباراة أرسنال مع تورينو في ضاحية هايبري البريطانية في 15 مارس/آذار 1994 كان هناك رجل بعمر 37 عاما، ورث ثروة طائلة من أبيه صاحب شركة المقاولات العملاقة المقرّب من العائلة المالكة السعودية.
كان ذاك الرجل ممنوعا حينها من دخول بلاده منذ 4 سنوات ولكنّه لم يكن قد أصبح بعد «المطلوب رقم 1 في العالم».
إضافة إلى اهتماماته «الجهادية» كان أسامة بن لادن أحد المعجبين بفريق أرسنال الإنكليزي، وكان يستغل الفترات التي كان يوجد فيها في بيت العائلة في لندن، لحضور مباريات فريقه المفضّل.
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 سارع فريق أرسنال للقول: «بن لادن غير مرحب به في هايبري»، أما رد فعل جماهير الفريق فكان غريبا، ففكرة أن الشخص الذي وضعت الولايات المتحدة الأمريكية 25 مليون دولار ثمنا لرأسه، كان من المعجبين بفريق «المدفعجية» كانت أمرا فانتازيا، ومن ثمّ اخترع الجمهور أهزوجة في الملاعب كانوا يزعقون بها: «أسامة، واه واه، إنه مختبئ في كابول، إنه يحب الأرسنال».
في 2 مايو/أيار 2011 فاز الفريق 1 ـ صفر على خصمه مانشستر يونايتد، ولا أحد يعلم إن كان بن لادن قد تابع تلك المباراة واحتفل بنجاح فريقه المفضل، قبل أن تقوم فرقة الحرب البحرية الخاصة الأمريكية بقتله في الليلة نفسها في مدينة أبوت عباد في باكستان.
٭ ٭ ٭
زرت الأحد الماضي، رفقة ابني المتابع لفريق أرسنال منذ طفولته، ملعب الفريق الجديد في فنزبري بارك، الذي كلّف بناؤه قرابة 400 مليون دولار، وكان ذلك دخولي الأول لمباراة كبرى في ملعب بهذا الحجم الهائل، ومع جمهور من عشرات الآلاف، وكانت تلك مناسبة لتأمل هذه الظاهرة العجيبة التي تدفع عشرات الآلاف لتنكّب وعثاء السفر وحضور مباراة لتشجيع فريق والشعور بالانتماء إليه، والانشاد الجماعي عبر المدرّجات بطريقة تحوّل الفرد إلى قبيلة كبرى.
يصعب ألا تمسّ الجالس في الملعب تلك الكهرباء الجماهيرية العامة، التي تجعل الموجود ينخرط، مباشرة، في ما يسميّه غوستاف لوبون «سيكولوجية الجماهير»، التي تحضر في أجلى صورها في الرياضة، كما تحضر في الحروب وفي السياسة وفي الثورات والانتفاضات، وفي مختلف الظواهر الاجتماعية، التي يصبح فيها الفرد جزءاً من مجموعة كبرى يشعر بالانتماء إليها، بحيث يتأثر المجموع بطريقة غير واعية بغض النظر عن الطبقة والدين والسنّ والمهنة.
مثال بن لادن ليس فريدا، فهناك أمثلة أخرى تؤكّد هذه الظاهرة، فالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، كان مناصرا لفريق ليفربول الإنكليزي أيضا، وكان طريفا أن الثوار وجدوا بين أغراضه الشخصية كأسا من الكؤوس التي يبيعها الفريق، وعليها علامته التجارية، وكان حضور الجزار الصربي رادوفان كاراديتش لمباراة للفريق الإيطالي إنتر ميلان بعد أن اشترى اللاعب الصربي سينيسا ميخالوفيتش، أحد أسباب القبض عليه، وهناك أمثلة عديدة أخرى عن غرام سياسيين من طراز من سبقوا في الإيلاغ بدماء البشر، كستالين وفرانكو وعيدي أمين، بلعبة كرة القدم وفرقها الشهيرة.
بين السياسة والرياضة عناصر متشابهة فكلاهما إطار لحركة العواطف البشريّة اللاواعية، ولذلك من الطبيعيّ للسياسيّ، الذي تحرّكه نوازع عاطفيّة عميقة، أن يكون في مجال تأثير الرياضة، وهي تشتغل على تلك النوازع أيضاً، أحياناً بطرق مختلفة، وأحيانا تتلاقى السبل بين المجالين، فيحاول كل مجال اختراق الآخر، وإذا كان الجمهور السياسي الموحّد ضمن أحزاب البلدان الديمقراطية لا ينتمي بالضرورة إلى فريق معيّن، بل ينقسم حسب معادلات الجغرافيا والأهواء الرياضية والنفسية (وهي كثيرة)، فكذلك ترى أن جمهور الفريق الرياضيّ يضمّ المحافظ والليبرالي والمتديّن والملحد.
أما في البلدان التي تحكمها أنظمة مستبدّة فإن السياسة تحاول السيطرة على الرياضة، ويكتسي ردّ الجمهور الرياضي على هذه المحاولات طابعاً سياسياً مضادّا بالضرورة، والدلائل على ذلك أكثر من أن تحصى، ولعلّ أكثرها جلاء التوتّر المستمرّ بين السلطات المصرية وألتراس نادي الأهلي، الذي يؤدي أحيانا إلى عنف وبطش دمويين.
مفيدة إذن، في حكّ قضايا السياسة والرياضة العربية، استعادة فرضيّات المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون المذهلة، التي رغم تقادم بعض مصطلحاتها وتعميماتها، فإن استدلالاتها وأمثلتها تشكّل عوناً لنا على ربط هذه المفارقات المتعلّقة بالسياسيين والرياضة، ومن ذلك قول لوبون إن «الرجال الأكثر عظمة وتفوقا لا يتجاوزون إلا نادرا مستوى الناس العاديين، في كل ما يخص مسائل العاطفة: من دين وسياسة وأخلاق وتعاطف وتباغض»، وفي تأكيده على أن «أفعالنا الواعية متفرعة عن جوهر لا واع مشكل من التأثيرات الوراثية» وبأن «العقائد السياسية والسماوية والاجتماعية لا تترسخ لدى الجماهير إلا بشرط أن تكتسي الحلة الدينية»، وأنه «لو أمكن فرض الإلحاد على الجماهير لاتخذت كل ضراوة التعصب الخاص بالعاطفة الدينية».
لقد أدّى خروج بن لادن عن «النص الرسميّ» للجهاد الإسلامي ضمن الأجندة السعودية ـ الأمريكية، والخصومة المتصاعدة بين الطرفين، التي أدّت، في النهاية، إلى مشاركة 15 سعوديا (من أصل 19 مهاجما) في عمليات 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية في أمريكا إلى ارتكاسة سياسية كبرى لبلاده، وقد لعبت هذه الخضة دوراً في كل ما نشهده منذ ذلك الحين في المملكة السعودية، وأجلى ما في ذلك محاولات قيادتها الحاليّة إبعاد نفسها ما أمكن عن الاتجاهات الجهادية الإسلامية، بل الانخراط في التطبيع مع سرديّة يمينية غربيّة متطرّفة تشتبه في كل ما هو «إسلامي»، وصولا إلى ما نراه اليوم من «سياسات» تحاول التركيز على الترفيه والرياضة (على طريقة المسؤول السعودي تركي آل الشيخ) وجعلهما تعويضاً عن تاريخ لا يمكن افتكاكه، بأي طريقة، عن الإسلام! من ضمن مفارقات «استبدال» الدين الأصليّ بدين الرياضة أيضا أن ملعب أرسنال نفسه يدعى حاليا ملعب «الإمارات» (التي تعرّضت أيضاً لخضّة فظيعة مع مشاركة اثنين من مواطنيها في هجوم «القاعدة» الأمريكي)، وهو أمر تدفع شركة طيران الإمارات كلفته قرابة 40 مليون جنيه سنويا.
رغم دراسة كثيرين لظاهرة بن لادن فإن قليلين (منهم الكاتب البريطاني جون غراي في «القاعدة أو ما الذي يعنيه أن تكون حديثا») من انتبهوا إلى الأثر الغربيّ الكبير في شخصيته، مدفوعين طبعاً بتطرفه الدينيّ، كما لو أن التطرّف الدينيّ لا يرتبط بما يجري في الواقع «الحديث».
مثير للتفكّر، على خلفية مطحنة المفارقات السياسية والدينية والرياضية المذكورة، تذكر أن الإسبان أخذوا جملة «دار الصناعة» العربية وجعلوها دارسنال، وأن الإنكليز أخذوها عنهم فصارت أرسنال، وأن الأتراك أخذوها أيضاً فصارت «ترسانة»، وأن العرب أخذوها عن الأتراك أيضاً فصارت تعني الذخيرة الحربية، فعادت إليهم بضاعتهم الأصلية باسم آخر!
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
لقراءة المقال من المصدر انقر هنا