قادما مع رفاق له من مدينة مونتفرميل إلى باريس، يضع الطفل الفرنسي الأسمر عيسى علم فرنسا على ظهره، ليحتفلوا مع الآلاف في محيط قوس النصر وشارع الشانزليزيه بالمباراة النهائية لكأس العالم بين فرنسا وكرواتيا عام 2018، مغنيا نشيد «المارسيلييز» الشهير في إشارة إلى الهوية الجامعة لهؤلاء الأطفال الفقراء بباقي الفرنسيين.
يقيم فيلم «البؤساء» للمخرج لادج لي، الذي ظهر فيه هذا المشهد تناظرا بالطبع مع رواية «البؤساء» «بؤساء» فيكتور هوغو، وفقراء أحداث الرواية الفرنسية الأشهر مع فقراء فرنسا الحاليين، وأغلبهم من الأقليات السوداء والمسلمين.
تدور أحداث عمل هوغو في الفترة بعد سقوط نابليون عام 1815. وتتناول وقائع الثورة الجمهورية ضد الملك لويس فيليب الأول 1832 (الذي بدأ خلال حكمه استعمار الجزائر 1830). إضافة للجغرافيا المتشابهة التي يشترك فيها العملان (مونفرميل هي المدينة التي التقى فيها بطلا رواية هوغو، جان فالجان وكوزيت) فهناك عناصر عديدة انتبه لها بعض النقاد منها، عدم وجود حدود فاصلة بين الخير والشر، وفيما تركّز رواية هوغو على موازنة التجبر السلطوي بالخلاص الديني، فإن فيلم لادج لي، يحاول أن يجد حلولا ضمن الواقع السياسي، فيدعو ماكرون لحضور فيلمه.
تذكّر المشاهد المذهلة للثورة في رواية هوغو، وفي العمل الغنائي الذي يعرض في عواصم العالم الكبرى، بأحداث الكومونة اللاحقة عليها، التي أخذت طابعا طبقيا ووطنيا، فحملت نفسا اشتراكيا، كما جاءت ردا على احتلال بروسيا لباريس.
بين هذين العملين تحضر عناصر خام للشغل عليها، ولمحاولة فهم أسباب الأثر الكبير لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة حول الإسلام.
الاقتصاد والاجتماع أم «الخطاب» الديني؟
يجب وضع تصريح الرئيس الفرنسي في سياقه التاريخي والسياسي، فماكرون جزء من تراث بات راسخا ضمن التيار السائد في السياسة الفرنسية، يستثمر في العداء للإسلام والمسلمين، تحت دعاوى العلمانية، ويستبدل الطرح السياسي والاجتماعي والاقتصادي لظروف المسلمين في فرنسا، وفي بلدان الاستبداد العربي بتحميل دينهم مسؤولية أزماتهم: من هجرتهم لبلدان ضيقّت أحوال العيش عليهم بأسباب الطغيان والفساد، إلى إقامتهم في فرنسا التي ضيّقت عليهم أحوالهم بتهميشهم ومعاملتهم بعنصرية.
يصل أحمد أمين في «يوم الإسلام» إلى القول إن «مرور نحو 570 سنة على المسيح، كان كافيا لفساد العقيدة النصرانية، كما حدث للإسلام في ما بعد» ويعدد أمين بعض مظاهر الفساد التي طرأت على الإسلام حين «قلّ الجهاد أو بطل على توالي الزمان» و«عدم استعمال المسلمين عقلهم، ووقوفهم عند تقليد آبائهم» و«شيوع الترف» بين الخلفاء والأمراء في مقابل فقر العلماء، وبالتالي «كان طبيعيا بعد أن يسود العالم الإسلامي الجمود».
«جمود العالم الإسلامي» وتدهور أحوال المسلمين هما من المواضيع التي شغلت المفكرين العرب والمسلمين، الذين بحثوا، في حقب مختلفة، مسألة إخراج «العالم الإسلامي» من وهدته، وبإعطاء صفة «الإسلامية» للبلدان التي تنتسب أغلبية شعوبها لهذا الدين، كان طبيعيا أن تصدر أيضا مؤلفات تحلل وتنتقد «العقل الإسلامي» و«الخطاب الديني» و«سبات العقل في الإسلام» وبذلك تم الانتقال بين علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد، من جهة، والسرديّات الدينية، من جهة أخرى، ما أدى لاحقا، إلى خلط وربط سببا إشكاليات كثيرة.
ينتشر تيار رهاب الإسلام في أنحاء العالم، لكنّ صيغته الفرنسية تستحق التمحيص والإفراد، فرغم أن دعاوى القوى السياسية الفرنسية، مفهوم ضيّق للعلمانية، باعتباره عداء للأديان، فإنها تجد جذورها القديمة في ممارسات يمكن بدأها من الحروب الصليبية مرورا بمرحلة الاستعمار والاستيطان (في الجزائر مثلا) وصولا إلى المرحلة الحاليّة، التي تجري فيها إعادة «احتلال» سكان المستعمرات السابقة بنشر الكراهية ضدهم، واعتبارهم انفصاليين، رغم أن تلك التيارات قاتلت على مدى عقود لاستبعادهم من الاجتماع العام، وبالتالي فصلهم عن الأمة الفرنسية.
جمهورية أفلاطون تفلس اليونان
يمكن اعتبار هذه العلاقة المحمومة بين تيار تاريخي وسياسي فرنسي مكين مع المسلمين (واليهود والسود إلخ) نتاجا لأزمة فرنسا نفسها، سواء مع مدرستها العلمانية المتطرّفة، المسكونة بعداء الأديان، وبإرث الحرب الأهلية، التي جرت إثر الثورة الفرنسية (وهي أزمة لم تجد فرنسا حلا لها بعد) أو مع تراثها الصليبي ثم الاحتلالي اللاحق، بدءا من اللحظة البونابرتية حتى الآن. نجح تيار رهاب الإسلام نجاحا عظيما في التشبيك الهائل بين فكرة الإسلام وأحوال العالم الإسلامي بحيث تغدو الفكرة مسؤولة عن الواقع، وهو أمر لا نجد شبيها له في ديانات العالم وحضاراتها الأخرى، فلا أحد يمكن أن يخطر بباله تحميل الفلسفة الإغريقية أو «جمهورية» أفلاطون، أو الكنيسة الأرثوذكسية مسؤولية إفلاس اليونان (فعليّا) أو تدهور أحوالها الاقتصادية، ولا أحد يحمّل الكونفوشية والبوذية مسؤولية الاستبداد الصيني، والهندوسية مسؤولية الفقر الهندي، أو المسيحية مسؤولية إبادة شعوب الأمريكيتين (يصور فيلم «أبوكاليبتو» دخول المسيحية إلى أمريكا اللاتينية كخلاص من وحشية دين السكان الأصليين).
قام عديدون باعتبار ماكرون متشبها بنابليون بونابرت، ورغم التشابهات المقصودة، أو غير المقصودة، من قبل ماكرون (مثل الميل الواضح للتدخل الخارجي) والاشتباك مع السياسة التركية (كما اشتبك بونابرت مع جيوش العثمانيين في فلسطين) ودفعت حاجة نابليون لسكان مصر لمواجهة العثمانيين لجعله يتودد لهم معلنا إسلامه، وهناك تصريح منسوب له عام 1800 يقول فيه إنه ادعى أنه كاثوليكي لإنهاء حرب أهلية نشبت غرب فرنسا «وغزوت مصر بعد أن أظهرت إسلامي، وإذا حكمت الشعب اليهودي فسأعيد بناء هيكل سليمان».
يظهر هذا التشبيه عناصر متواصلة لدى الساسة عبر العصور، لكنّه لا يخلو من قدر من السخرية، أظهرتها تعليقات ساسة وإعلاميون أوروبيون، فقال باحث فرنسي إن ماكرون يشبه «بونابرت عند جسر أركول، لكنه ليس في أركول ولا يوجد جسر» (في إشارة إلى المعركة التي بدأت أسطورة نابليون الحربية) فيما قال باحث بريطاني، إن ماكرون «أشبه بأرنب بطاريات دوراسيل. يثير الكثير من الضجيج ويتحرك في كل الاتجاهات بدون أي هدف محدد».
يمكن نظم موقف ماكرون ضمن خط فرنسي محلّي راسخ، يحاول القفز على قضايا الاجتماع والاقتصاد والأزمات، التي تعاني منها فرنسا بالتركيز على خلق عدو من «الأغيار» المختلفين بالدين والعرق، وهي لعبة سياسية مارستها نظم الحكم عبر التاريخ، لكنّها تكتسي في اللحظة التاريخية الراهنة طابعا عالميا، يقوم على نشر العنصرية وتقوية النزعات السلطوية.
بهذه الأجندة يتم استبدال مقاومة أشكال الاستبداد (في النظم العربية) والاحتلال (إسرائيل) بتحالف عابر للأديان والقارات، يجعل من العداء للإسلام هدفه الأول، فيتّصل خط النظم الديمقراطية في أمريكا وفرنسا مع نظم التوحش الاستبدادي العربية وحكومات الاستئصال الديني والعرقي في الهند وبورما والصين.
*القدس العربي