خلال فعالية نظمتها الناشرة (والشاعرة) كاميلا ريف، من دار Palwell Press لكتابي Grave Seas وقدمنا فيها، معا، خمسا من قصائد المجموعة، تساءل بعض الحاضرين عن معنى هذه التجربة، وما الذي جعل شخصا كان يكتب طيلة حياته بالعربية، يقرر فجأة الكتابة والنشر باللغة الإنكليزية، وليس بلغته الأصلية؟
أحد المتسائلين كان ابني سامي، ذو السبعة عشر عاما، الذي ابتدرني، وهو في طريقه لأداء امتحان بالإنكليزية، بالسؤال عن كيف يكتب مقالة تحوز إعجاب المدرس. حاولت أن أبسط أمرا معقدا بالحديث عن ضرورة الاستهلال الجيد والشرح المفيد في متن المقالة والخاتمة، التي تربط الأفكار المشروحة وتلخصها بطريقة ذكية وكاشفة. أخذني هذا الشرح التعليمي لأصول كتابة المقالة، إلى سؤال كتابة الشعر بلغة أخرى غير لغتنا الأصلية.
من «جزء عم» إلى غرامشي
نرضع اللغة الأولى مع حليب الأمهات، اللاتي يناغين أطفالهن، وتندمج بعدها بروائح الأشخاص والأماكن حولنا، فنتعلم بسرعة أسماء الياسمين والحبق والعطرية في حديقة الجدة، ونخلطها مع النعناع والزعفران واللوز المقلى والبصل المحروق في مطبخ الأم. يصبح الطقس المعتدل ولون السماء والنجوم في شرق المتوسط جزءا من مزاجنا ولغتنا، التي تتحول إلى هوية خيالية مع قصص الخالات عن الذئب الذي يريد هدم البيت، والغولة التي تظهر للأطفال الأشقياء، ثم هوية دينية وثقافية مع تعلم «جزء عم»، والآيات القصار وسيرة الرسول، وقراءة سيرة عنترة وألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن والسيرة الهلالية، مخلوطة مع «الريدرز دايجست» و«جيش الشعب» و«الكواكب» و«سمير» و«أسامة»، ثم حين نتدرج على مقاعد الدراسة يظهر شعراء مثل، تأبط شرا والحطيئة والفرزدق وابن زريق البغدادي والمتنبي، صعودا نحو أحمد شوقي والجواهري وبشارة الخوري والمنفلوطي، لنهبط فجأة على ترجمات طرابيشي والبعلبكي وغيرهما لكازنتزاكيس وهوغو وهمنغواي وديكنز ورامبو و»الكتاب المقدس» وأورويل وماركيز، ونغادر الصبا مع أيقونات السياسة الجديدة: لينين وتروتسكي وغرامشي الذين سيصبحون هويات جديدة تحاول تفكيك وإعادة تركيب كل ما سبق.
مع انفتاح القوس المعرفي على آخره، لا تعود الهوية محكومة بأهواء الجغرافيا ومنظومات السياسة والاجتماع ثقيلة الوطأة في سوريا، ومع انتقال العائلة إلى بيروت عام 1970 (الذي يصادف عام استلام حافظ الأسد للسلطة في سوريا)، تحضر أطر سياسة واجتماع وثقافة جديدة، وتحضر الإنكليزية كلغة أساسية لتدريس العلوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء، لكنها لن تتحول إلى جزء متكامل من هويتي، إلى أن أصل إلى مطار غاتويك عام 1994، وأبدأ قراءة جدية لكتب بالإنكليزية، ثم أستكشف بداية، مثل الخلد، مكاني في الأرض البريطانية، حيث سيمسك بيدي إنكليزي من يوركشاير يدعى تشارلز داروين رايبولد، ويعلمني مبادئ الـDIY (طرق تصليح الأعطال في المنزل بنفسك)، وندخل في نقاشات حميمية حول مارغريت ثاتشر والإسلام والعرب والمهاجرين.
حدود الهوية المتصدعة
تحن الهوية إلى «القواعد» القديمة حيث ذكريات الطفولة وثقافتها وإثنيتها ودينها، التي تبدو على شكل خطوط سميكة ثابتة، حيث يمكن تعريف المرء بسهولة خادعة: عربي، كردي، آشوري. مسلم، مسيحي، درزي، علوي. دمشقي، وادي النصارى، جبل العلويين، السويداء. يمكن سحب الأمر بسهولة أكبر على بلدان عربية تبدو أقل تعقيدا: مصر حيث المسلمون السنة أغلبية مسلمة، والأقباط أقلية مسيحية. المغرب والجزائر وليبيا حيث العرب والأمازيغ الذين يجمعهم الإسلام.
تظهر مفارقات الهوية حين تتعرض لضغوط السياسة، فالاستبداد يستدعي، من جهة، تمتين روابط الهوية كآلية دفاعية، فتعود إلى الأمكنة الصلبة فيها حيث يزدهر التطرف الديني والقومي، كما يستدعي محاولة الانفتاح على الآخر لنسج أيديولوجية وطنية عابرة للإثنيات والطوائف والأديان.
تتكشف المفارقات أيضا لدى الأشخاص الواقفين على الحدود المتصدعة للهوية، كما هو حال الأشخاص والعائلات، التي يجمع أفرادها بين دينين أو قوميتين أو جماعتين بشريتين، وقد أثار هذا الأمر فضولي حين قمت بتحليل شخصيات مثل صبري البنا (أبو نضال) زعيم «المجلس الثوري» الذي زرع الرعب لحقبة طويلة بين الفلسطينيين، وقد تزوج أبوه الغني الفلسطيني من فقيرة من الطائفة العلوية (وكذلك أسامة بن لادن، زعيم «القاعدة»، الذي تزوج أبوه الملياردير أيضا من الساحل السوري). إضافة إلى المفارقات التي تكشفها تصدعات الهوية الجينية، كتبت عن التصدع الثقافي والأيديولوجي، حين حللت شخصيتي جمال عبد الناصر وسيد قطب، حيث كان الأول من المنتسبين للجهاز المسلح للإخوان المسلمين، فانقلب ليصبح أحد رموز الوحدة العربية والاشتراكية والتقدم، وكان الثاني علمانيا متحمسا زار أمريكا للدراسة، ثم صار أحد رموز الدعوة للجهاد الإسلامي المسلح.
حرف الألف كضريح للاجئين
ظهرت أحجيات الثقافة والهوية واللغة لديّ على شكل مساءلات مستمرة للحدود الثابتة، التي يتمسك بها البشر، فانعكست كموقف سياسي ضد الاستبداد بتجسداته الفاحشة، كما هو الحال في بلداننا العربية، أو بامتداداته الغربية، متمثلة بتيارات الفاشية والنقاء العنصري وكراهية الأقليات الدينية والإثنية واللاجئين. رغم تعرض هذه «القواعد» السياسية إلى امتحانات حين يتعلق الأمر باشتباكات الضحايا وأولوياتهم، لكن هذا الأمر يبقى أقل صعوبة من الامتحانات اليومية للهوية والثقافة واللغة، وكان الشعر، بالنسبة لي، هو مجال هذا المفارقات الكبرى المحتدمة، ويمكن اعتبار مجموعتي الشعرية الصادرة مؤخرا بالإنكليزية ذروة هذه المفارقات.
تبدأ هذه المفارقة بالعنوان نفسه، Grave Seas الذي تصعب ترجمته، فالمعنى المعلوم لكلمة Grave الإنكليزية هو القبر أو حفرة الدفن أو الضريح، ورغم أنها مستخدمة هنا كصفة بمعنى «بحار مهلكة»، فإن ثقل كلمة القبر سيبقى فاعلا، ومجمل الفكرة من العنوان، هي التعبير عن أحوال آلاف اللاجئين الذين قضوا نحبهم بحرا في طريقهم للنجاة بأرواحهم، والوصول إلى ملجأ آمن، في أوروبا أو غيرها، كما يعبر الغلاف نفسه عن الفكرة بلوحة حيث ينقلب حرفا A في كلمتي Grave Seas ليبدوا على شكل قبر مائي.
يتابع الكتاب، باختياره التعبير بلغة جديدة، وبقصائده، وبالهموم التي يحاول التعبير امتحان هذه الإشكاليات باستمرار، بدءا من قصيدة مليئة بالسخرية والمفارقات بعنوان English يصور فيها محاولة عائلة مهاجرة أن تصبح إنكليزية، حيث تتكسر الصور والمعاني، فيحضر الفيلد مارشال مونتغمري وتحضر تماثيل الطغاة العرب في متحف مدام توسو، ويحضر الكابتن وليام شكسبير الذي قتل في العربية السعودية عام 2015، وتحضر أغاثا كريستي مع قطعة أثاث أحضرتها من دمشق، والقاتل المتسلسل جاك الممزق بصورة حاكم عربي ينادم يساريين إنكليزيين في حانة، وتصل العائلة إلى قناعة أنها صارت إنكليزية أثناء مشاهدتها لمسرحية «البؤساء» الفرنسية.
يتعامل البعض مع قضايا الهوية والثقافة واللغة على أنها قواعد صلبة متماسكة لكن الواقع الذي نعيشه يقوم بالتحدي المتصاعد والمستمر لهذه القواعد، ويفرض عليها أن تعيد تعريف نفسها بشكل يتكيف، باستمرار، مع تغير الواقع نفسه، الذي تعيد وسائل التواصل الحديثة والأوبئة والحروب وعلوم الجينات الحديثة والتيارات السياسية العنيفة التي تسود العالم وضعه أمام امتحانات صعبة. لا يكلف المرء، هنا في الغرب، أكثر من خمسين جنيها، ليحصل على خريطته الجينية، وليكتشف أنه خلطة فريدة من أمم عديدة، ولا يحتاج المرء الوقوف على الأسوار التي تصنعها الأمم الغنية لمنع عبور «البرابرة»، أو أن يقوم بـ«الحراكة» من المغرب إلى جبل طارق، ليعرف عبث معنى الحدود التي تضعها الأعلام والجنسيات والثقافات.
*القدس العربي