حسام الدين محمد: الهاتف قبل القهوة و«زومبي» الإنترنت!

0

دعاني رجل الأعمال الفلسطيني ـ الأردني المحب للصحافة عصام عودة، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لكتابة مقالتي الأولى حول الإنترنت فقمت بشرح موجز عنه وبشرت بعصره المقبل في نشرة صغيرة كان يصدرها في قبرص، وكنت قد بدأت رحلتي مع الكاتب الأمريكي ألفن توفلر، الذي ابتدأ مثلي متأثرا بالماركسية، ولكنه صار أشبه بنبي للحداثة الرقمية، مصدرا كتبا مذهلة في قدرتها على رؤية التغيرات الكبرى التي ستحصل في عالمنا («صدمة المستقبل»، «الموجة الثالثة للحضارة» و»انزياح القوة»)، وابتدأت أنا رحلتي مع هذا العالم مع كومبيوتر مربع الشكل يحمل علامة التفاحة، وكنا، أنا والفنان التشكيلي والشاعر السوري عدي الأتاسي، نتخاصم حينها على أفضلية المكانيش والبسابيس (كما سمينا المعركة بين شركتي أبل، التي بدأت بتصنيع كومبيوترات أبل ماكنتوش، ومايكروسوفت، التي ابتدأت ثورة الكومبيوتر الشخصي PC).
عشت بعد ذلك، مثل غيري، ثورة الإنترنت، وظهور البريد الإلكتروني، واستخدمت، بداية، برامج مثل الناشر الصحافي، الذي سهل عملنا الصحافي والإخراجي، وألدوس فريهاند، الذي كان إنجازا كبيرا في التصميم والرسم، وأدوبي فوتوشوب، وانتقلت لاحقا، مع غيري، إلى اكتشاف المواقع الإلكترونية، والتقيت عبر العالم الافتراضي بجمعية رقمية سمت نفسها «أرانب»، وهي حروف أولى تعبر عن كون أشخاصها عربا يقيمون في بريطانيا، وتمخض عن ذلك معرفة أصدقاء حميمين.
أعطتنا الثورة الرقمية إمكانيات هائلة للمعرفة، مع غوغل، وويكيبيديا، والمكتبات الرقمية المفتوحة، والأكاديميات، كما تعرضنا، مثل غيرنا، لمقالب قراصنة الإنترنت، ولصوصه، الذين يريد الواحد منهم أن يقنعنا باستلام ثروة القذافي، أو المساعدة في تهريب مئات الملايين لابنة ديكتاتور أوغندا، ودخلنا، مع بقية العالم، عالم الجوال العادي، ثم الذكي، الذي يستطيع أن يراقب أنفاسنا، ويحسب خطواتنا، ويصورنا، لو أرادت أجهزة الاستخبارات، في بيوتنا. وانجرفنا مع مليارات البشر، في ملاحقة وسائل التواصل الاجتماعي، وتنزيل التطبيقات التي لا تنتهي، لنكتشف، فجأة، أننا صرنا أسرى للعالم الذي حلمنا أنه سيحررنا، وتحولنا إلى ما يشبه «الزومبي» الذي لا يستطيع السيطرة على أفكاره وأفعاله.

تغيرات داخل الدماغ البشري

هل تبدأ يومك بشرب القهوة؟ أم تندفع مباشرة لفتح بريدك الإلكتروني، أو فتح «الواتس أب» أو «فيسبوك» أو «تيك توك»؟ وهل تكافح، بعد بدئك العمل، لمقاومة دفق الرسائل والصور والفيديوهات والقصص والنكات وأخبار الموت والكوارث، وتطلبات كل ذلك من وقتك وذهنك وعواطفك، بحيث تحس بأنك محاصر وأن لديك مشكلة في قدرة التركيز على الأولويات؟
يعاني مليارات البشر، في العصر الرقمي هذا، من ضغط هائل على الأفراد، والأسر والمجتمعات، في صراع بين المزايا التي وفرتها شبكة الإنترنت، والمواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل، سهولة غير مسبوقة للتواصل العابر للثقافات واللغات والجغرافيا بين البشر؛ والإشكاليات العميقة التي نتجت عنها، والتي طبعت الإنسانية بطابعها، وفتحت الباب لتغيرات، داخل الدماغ البشري نفسه (كما سبق أن كتبت في مقالة سابقة)، وفي منظومات العلاقات الإنسانية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. نحاول، كل ليلة، الاستراحة من هذه الدوامة بمشاهدة التلفزيون والتسلي وحتى النوم، فإننا نظل مجهدين وقلقين وعقلنا يعمل، وأن هذه الظاهرة جعلت أغلبية من الناس تشعر بالفشل كزوج/ زوجة، كأب أو كصديق، وبالفشل في العمل كما نأمل، وتتملكنا مشاعر السطحية والهشاشة واليأس.

المشكلة، حسب كتاب «مشغول» (Busy: how to thrive in a world of too much) لتوني كرابي، فإن المشكلة الأساسية هي أن العالم تغير، لكننا لم نتغير. استراتيجياتنا للتأقلم مع العصر الرقمي تأتي من عصر سابق عليه: الصناعي أو الزراعي، وأنها لم تتغير رغم الدلائل الأكيدة أن هذه الاستراتيجيات لم تعد تعمل، ورغم كل محاولاتنا فإننا واقعون تحت ضغط هائل في العمل، وواجبات متزايدة في البيت، ويبدو أن الأمور متجهة نحو الأسوأ.
وحسب الكتاب فإن جزءا من انشغالنا يعود إلى أننا نتهرب من اتخاذ الخيارات الصعبة، بالسماح للعالم وما تمتلئ به إيميلاتنا ونقاط تواصلنا بالتحكم بنا، بدل أن نتحكم بها، وأن هذا دليل على الكسل والجبن، وأن الشجاعة هي أن نقرر أن نعمل أقل، فالعمل بالطريقة التي نعمل بها، على عكس ما يبدو عليه، هو كسل وعطالة، فنحن نصرخ للناس أننا نعمل أكثر، لنرتقي ضمن وظائفنا، أو لنثبت أننا أكثر أهمية.
يؤدي فتح البريد الإلكتروني وقراءة الرسائل، إلى ما يشبه الإدمان الذي يطلق مادة الدوبامين في الدماغ (العنصر الكيميائي الذي يجعلنا نشعر بالسعادة)، ويصبح التفتيش في غوغل وتصفح فيسبوك وانستغرام وتيك توك، أشبه بتعاطي المخدرات، فمن منا لم يقاوم إغراء فتح الصفحات على جهاز الموبايل للحصول على جرعة سريعة من السوشيال ميديا، حتى في الوقت الذي نعلم أنه يجب علينا أن لا نفعل ذلك، كأن نكون في اجتماع، أو نستقبل ضيوفا، أو حتى نسوق السيارة؟

الموت من العمل الدائم

لا يعتبر الضغط العصبي أمراً سيئا بحد ذاته. خلال انشغالنا بإنجاز كل شيء نريده أو يُطلب منا، نتزود بوقود من الضغط العصبي على أنفسنا للبقاء مشغولين، وخوفا من أن يفوتنا شيء فإننا نادرا ما نتوقف أو نعطي أنفسنا شحنة من الطاقة. وجدت دراسة لمؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية، أن هناك زيادة مطردة منذ عام 1972 في نسبة الرجال والنساء الذين يشعرون دائما أنهم على عجلة في حياتهم.
غير أن المشكلة، حسب كرابي، ليست في الضغط العصبي، بل في الإصرار المتزايد على تلقيه، فجسم الإنسان ودماغه مصممان على أن يتداورا الراحة والعمل، وليس أن يستمرا في العمل دائما، لكنهما يشتغلان، في الحقبة الرقمية، بشكل مستمر، وهو ما يعرضهما لحالة متزايدة من الاجهاد والخلل. في اليابانية هناك كلمة تلفظ: كاروشي، ومعناها «الموت من العمل الدائم»، وهذه الحالة تحصل حين يؤدي الإجهاد التاريخي الناتج من العمل لفترات طويلة وضغط عصبي مستمر.
يتخيل المسلسل الدرامي «مرآة سوداء» بطريقة مرعبة المآلات الممكنة للإنسانية، نتيجة التطور التكنولوجي والرقمي، فيقدم في إحدى حلقاته عالما يقاس الفرد فيه برصيده الاجتماعي على الإنترنت، ويدعو «غنيان» صديقة قديمة إلى حفل زواجهما، لكنها تتعرض في الطريق لمشاكل، وتقوم الشرطة بخفض رصيدها فيمنعها رصيدها الجديد من دخول الحفل، كما يقدم أشخاصا مزودين بقدرة على تصوير، واستعادة كل الذكريات بحيث يرى زوج ذكريات زوجته الخائنة، وتظهر إحدى الحلقات، فنانا بائسا يخطف أميرة ويدعي إرسال اصبعها المقطوع دافعا رئيس الوزراء لممارسة الجنس مع خنزير على التلفزيون لإطلاقها حيث تخلو الشوارع من المارة لمراقبة الحدث، كما يعرض شركات تختار شريك حياتك أو تمنعه عنك، وبرامج تسلية تلفزيونية تحول المشاركين إلى عبيد.
يتساءل كتاب «مشغول»: هل انت مشغول إلى درجة أنك لا تستطيع قراءة هذا الكتاب؟ وهو سؤال يمكن أن نسأله لأنفسنا بطرق متعددة لأن كثيرين منا يتعرضون، بسبب تداعيات العصر الرقمي، إلى ضغوط هائلة لا يستطيعون الفكاك منها، ولكن المفارقة هي أنهم يقرأون كثيرا، ويعملون كثيرا، ويبدعون كثيرا، لكن هذا «الكثير» يضغط على عقولنا وأرواحنا وأجسادنا، ويجعلنا أشبه بعبيد لا يستطيعون الكف عن العمل.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here