لم يربط أحد، حسب علمي، بين الأثر الممكن لاسم وليام شكسبير الأدبي الكبير الذي يعيدنا مباشرة إلى التراجيديات الكبرى، التي صارت جزءا من التراث الأدبي للبشرية، كهاملت ومكبث وعطيل وتاجر البندقية وروميو وجولييت وأنطونيو وكليوباترا وغيرها كثير، بالأحداث الغريبة التي أحاطت بالمقتل التراجيدي الغامض، الذي تعددت رواياته ومواقيته للكابتن في الجيش الإنكليزي، والممثل السياسي لبريطانيا في الكويت منذ عام 1909، الذي يحمل الاسم نفسه للشاعر العظيم: وليام شكسبير.
رغم تنكب باحث بريطاني يدعى هاري فيكتور ونستون عام 1976، لنبش تاريخ المذكور، فقد اقتصرت على البحث عن علاقته بعائلة الشاعر الإنكليزي، وبتتبع الأثر العائلي، الذي يصل بين وليام السياسي ذاك المنخرط في مؤامرات الامبراطورية البريطانية للسيطرة على العالم، خلال الحرب العالمية الأولى، ووليام الكاتب المسرحي/الشاعر الإنكليزي الأعظم، وليس بأثر شكسبير الأدب بشكسبير العسكر والسياسة، أو بتعقب المعنى «الشكسبيري» لمقتل الأخير في لحظة تكثيف عسكرية/سياسية لمصائر الإنكليز وامبراطوريتهم العتيدة.
هذه واقعة مذهلة بحد ذاتها، فميتة وليام شكسبير، تحمل، من دون شك، عناصر الحبكات الشكسبيرية التراجيدية، ومن غير المعقول أن هذه المقتلة وملابساتها تم اختصارها من قبل بعض الدبلوماسيين البيروقراطيين، ليرووها بطريقتهم البائسة، وليس إلى أحد الروائيين أو الشعراء.
حملت حياة الكابتن وليام شكسبير، إذا تجاهلنا اسمه المثير، الطابع التقليدي لتلك المرحلة التاريخية، فقد ولد في بومباي في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1878، وأصبح، باعتباره ابن موظف مدني بريطاني في الهند، جزءا طبيعيا من «المؤسسة»، سواء في إعادته إلى بريطانيا للدراسة في «غرامر سكول» (وهي مدرسة للمتفوقين مدرسيا، حاولت رئيس الوزراء البريطانية تريزا ماي إعادة دورها في المجتمع)، ثم في كلية في «مانز آيلاند»، وتخرجه من الأكاديمية العسكرية الشهيرة ساندهيرست، وانضمامه بعد سنوات إلى الإدارة البريطانية في الهند، وابتعاثه إلى الكويت عام 1909.
غير أن هناك صفات مميزة لهذا العسكري/ السياسي تذكر في سيرته، وقد أهلته لإنجازاته اللاحقة (وميتته العجيبة) ومنها إتقانه الأوردية، والبشتوية، والفارسية والعربية، ثم في رحلاته السبع إلى الجزيرة العربية قاطعا 2900 كيلومتر من الكويت عبر صحراء النفود إلى العقبة، ليصبح الأوروبي الأول الذي يرسم خرائط هذه المنطقة، والأول لأخذ صور لعبد العزيز بن سعود وجيشه، والراعي لدخول مؤسس المملكة السعودية الحديثة في الحرب ضد العثمانيين، وكل ذلك عناصر «درامية» ربما كانت ستؤهله، لو أن شكسبير الجد كان حيا، لتوصله إلى خاتمته الغريبة، وربما لإعطائنا كبشر، بعض المتع والحسرات التي لا تزول ربما؟ تبدأ الوقائع الغريبة المتعلقة بشكسبير من تاريخ موته، وحسب بعض المصادر فإن معركة جراب التي قتل فيها جرت في 15 يناير/كانون الثاني، وهناك مصدر آخر يقول إنها جرت في 17 يناير، ومصدر ثالث يقول إنها جرت في 23 منه، أما التقارير البريطانية فتشير إلى مقتله في 24 يناير، فما الذي جرى فعلا بين 15 أو 17 و23 و24 من ذلك الشهر، ولماذا هناك تواريخ متعددة للمعركة ولمقتل الكابتن وليام شكسبير؟ تحيط بالخلفية التاريخية لبدء شكسبير رحلته عبر الجزيرة العربية وصولا الى وفاته تناقضات كثيرة أيضا، كونها تخص مرحلة لا تنتهي الحاجة إلى إعادة كتابتها، في كل مرة تتغير التحالفات التاريخية في المنطقة، فبعض الروايات العربية تشير إلى إلحاح عبد العزيز بن سعود على البريطانيين (كما نراها في رسالته إلى شكسبير نفسه عام 1914 يقول فيها: أملي قويّ بالله، ثم بالحكومة البهية البريطانية، بأن الأمر سيدبر كما ينبغي لحماية الدين والشرف)، عبر علاقته الشخصية المتميزة مع الكابتن شكسبير، الذي كان أحد الداعمين له ضمن «المؤسسة» البريطانية، على الإلحاف والإصرار على البريطانيين لدعمه في قتال خصومه من آل رشيد، أمراء حائل، والشريف حسين، أمير مكة، والعثمانيين، فيما تروي بعض الروايات سردية أخرى تجعل عبد العزيز موضع محاولات إغراء وإقناع من قبل البريطانيين، وهناك طبعا سرديات أخرى يتم تظهيرها والتوكيد على عناصر فيها، حسب الضرورة التاريخية لإعلاء شأن السعوديين (أو خصومهم المحليين) أو نقدهم، أو لمديح العثمانيين أو هجائهم الخ.
طباخ شكسبير يطبخ الحكاية!
يبدأ اختلاف الروايات حول مقتل شكسبير بتقرير باهت من وزارة الخارجية البريطانية، تريد أن تجعل من وجود شكسبير خلال المعركة عرضيا، كما لو كان موجودا هناك بالصدفة البحتة، فهي تقول في «تقرير حول المهمة إلى نجد 1917-1918» إنه في معركة جرت في 24 يناير بين ابن سعود وابن رشيد، كان شكسبير أعزل من السلاح و»موجودا فقط حين لقي حتفه»، وحسب رواية غريبة ثانية يسجلها تيرنس همفري كيز، الوكيل البريطاني في البحرين، عن شاهد عيان كان طباخ شكسبير، يدعى خالد بن بلال، فإن الكابتن رفض عدم الانضمام للمعركة المقبلة بين ابن سعود وابن رشيد، باعتباره «عارا». تنتهي الرواية بهزيمة آل سعود وأسر شكسبير وخالد الذي يسمع من آسريه عن وفاة شكسبير وقتله برصاصتين (وإصابته قبلها برصاصة في مرفقه).
تبدو الرواية المنسوبة لطباخ شكسبير مجرد ترداد متأخر لكشف ابن سعود عن حادثة القتل، عبر رسالة له يعلم البريطانيين بمقتل وكيلهم، مشيرا إلى أنه حاول إثناءه عن المشاركة، والمقصود من هذا طبعا هو إبعاد مسؤولية مقتل المسؤول البريطاني الكبير، عن عبد العزيز آل سعود نفسه، فقد حصلت خلال المعركة «خيانة» من قبل قبيلة العجمان، التي انقضت على حليفها ابن سعود وحاولت نهب مخيمه، وهناك بالتالي خلاف حول من قتل شكسبير، فبعض الروايات تقول إن رجال عبد العزيز هم من فعلوا ذلك استنكارا لوجود «كافر» يقوم بتوجيههم.
على عكس تقرير الخارجية البريطانية، فإن المؤرخ جون فيلبي يعتمد رواية شاهد آخر يدعى حسين، تشير إلى أن شكسبير لم يكن شاهدا محايدا، أو موجودا لتصوير المعركة بالكاميرا التي يحملها، بل كان عمليا يستخدم منظارا ميدانيا لتسديد إطلاق المدفع الوحيد الذي تملكه قوات ابن سعود، وأنه كان يلفت النظر إليه بزيه البريطاني، وقد أصيب أثناء ذلك بطلق في فخذه، وأنه أثناء هروبه شاهد جمالة ابن رشيد تهاجم شكسبير، الذي راح يقاتلهم رغم إصابته إلى أن سقط ميتا. هذه الرواية تحمل قوات ابن رشيد مسؤولية القضاء على شكسبير، لكنها تترك المجال مفتوحا حول الرصاصة الأولى التي أصابته في فخذه، فهل كانت من «الجمالة» المهاجمين، أم من حلفاء ابن سعود المتعصبين أو العجمان الذين خانوه؟
تحمل تراجيديا مقتلة الكابتن وليام شكسبير نقائضها الفاضحة، وأسباب ذلك كثيرة، ولعل أكثر أشكال تمثل هذه النقائض بين الاسم الأدبي وتمثيله العسكري المخابراتي اللاحق جاء على شكل سخرية وانتقام هائلين عبر الممثل الشهير روبرت دي نيرو، الذي اشتهر أيضا بشخصيات درامية تراجيدية، من «العراب» إلى «الثور الهائج» وحتى «الأيرلندي»، والذي يمثل في فيلم «ستاردست» بشخصية «الكابتن شكسبير»، في مشهد خالد يلبس فيه ثوبا نسائيا، فيما يراقبه شخص يريد قتله.
الالتفافة الأخيرة للحكاية في أن شكسبير لديه قبر في «المقبرة اليهودية» في الكويت، يزوره أحيانا مسؤولون بريطانيون حين يصلون تلك البلاد، وأن نجد تغريدات حديثة في حساب «محبو صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان» تشرح سببه دفن شكسبير في الكويت بأنه «قتل من قبل الأتراك بطلق طائش» رغم أن الأتراك لم يكونوا موجودين في المعركة التي قتل فيها!
المصدر: القدس العربي