استقبل متلقّو الاحتجاجات اللبنانية المشتعلة، الحدث، بأشكال من الافتتان والتأثر والتفاعل الإيجابي، حيث مزجت بين فكرة الثورة وأشكال الاحتفال العاطفي، وظهور المشاركة الكبيرة للنساء، وعدم اقتصارها على الملتاعين بالفقر، بل كذلك على فئات عديدة أظهرت أشكال تعبيرها الجمالية الجريئة، بما فيها القبلات والدبكة والرقص وأنواع التصرفات، والملابس العاكسة لطبيعة لبنانية مندفعة للاحتفال بالحياة.
استدعت الكرنفالية الحسّية الكبيرة هذه ردود فعل مسيئة، أو ساخرة، أو مقارنات ضاحكة، بين الذكورة الطاغية على الاحتجاجات العربية، والأنوثة الطافحة في الفضاء الاحتجاجي اللبناني، وكان لافتا للنظر نشر شخصيات عامة مصرية مثل، نجيب ساويرس وعلاء مبارك تعليقات مازحة حول أنثوية وجمالية الحراك اللبناني، واعتبار معلقين من الأردن المظاهرات «أحلى من مهرجان جرش»، وقد اعتبر ناشطون التعليق على ثياب اللبنانيات «تسخيفا لثورة شعب»، ولامت إحدى اللبنانيات «تركيز التعليقات على النساء وإطلاق النكات الوقحة» باعتبارها تعكس «مخيالا ذكوريا متخلفا لا يليق بالعصر»، ووجد مراقبون في تقديم راقصة شرقية لوصلة داخل المظاهرات وقرب مسجد، محاولة من طرف السلطة المبالغة في اللعب على هذا الوتر لاستغلاله ضد الاحتجاجات.
من جهة أخرى، طرحت الكاتبة السورية سلوى النعيمي رأيا على صفحتها على «فيسبوك» تنتقد فيه استخدام «الشتائم الجنسية الذكورية» وتعتبرها «أبشع تعبير عن قيم اجتماعية متجذرة تحتقر المرأة. تقزمها. تختزلها إلى (…) هو موطن العيب والحشومة والكبت القاتل. مكان «الشرف» الرفيع. موضع الضربة القاضية للخصم، أي خصم»، رابطة إياها بمنظومة تبدأ بالشتيمة الجنسية وتنتهي بـ»جرائم الشرف»، مستخلصة أن الشتيمة الجنسية الذكورية «ليست ثورية»، وهو ما تابعته الكاتبة الأردنية ريما إيراني معتبرة إياه أمرا مخجلا ومؤسفا «في سياق تحرك يسعى للأفضل وينشد حياة تحفظ كرامة البشر». مضيفة: «أسوأ ما في هذا أن تردد النساء هذه التعبيرات وكأنهن يقلن، نعم نحن من أملاك الذكور» وأنّهن «معرّة» الرجال!»، وكذلك كان رأي الناشطة السورية خولة يوسف التي تساءلت عن سبب مشاركة النساء في هذا «الامتهان لأنفسهن» لأمر «يكرس الشيطنة وجرائم الشرف ضد المرأة».
يفتح هذا الشكل من التلقي «الصحيح سياسيا» والمحكم في جدّيته، في مواجهة الاحتجاجات التي تهاجم السياسة بالفكاهة وتفكك الهالات المقدسة للسياسيين، مفارقة مهمة في قراءتنا للمظاهرات اللبنانية، وفي طريقة تفسيرنا لمعاني امتلائها بالمفارقات والسخرية والنكات والانفلات «الثوري» غـــير المسبوق، وفي إشكاليات ومعاني استخدامها النكات البذيئة، وتحويلها الشتيمة الجنسية المكشوفة، ومن دون «فلترة جندرية» على الإطلاق، إلى ظاهرة أساسية في هذه المظاهرات.
في مقابل الطرف الأول الذي التقط المزايا السلبية التحقيرية والمهينة للمرأة في الشتيمة الجنسية، فقد رأى كتاب وناشطون كثر، في الأمر شكلاً من أشكال العافية الثقافية والسياسية، وقيّموها إيجابيا، كما فعل عمر قدور الذي قال إن السوريين «أقل شعوب المنطقة استخداما للشتائم وهذا ليس دليل عافية على الإطلاق»، ورأى بكر صدقي أن «الخصم من الانحطاط على درجة لا يصح معه غير أقذع الشتائم» وأنه «يجب شرشحة الطبقة المشرشحة»، ورأت نسرين طرابلسي أنه «لأول مرة تنزل المسبات من تابو العيب وقلة الأدب، وتصعد لمستوى الواجب الوطني. لأول مرة أحس المسبّة التي تتردد في لبنان تتحول من لفظ ينطوي على تمييز جندري، لفعل تصويب طلقة لفظية لأخطاء الفيزيولوجيا التي تحمل الناس بلاويها».
ولعلّ مقالة سنا التنوري كرم «سقوط العهد وسقوط النظام الأبوي»، من أفضل من عبر عن هذا الرأي بقولها، إن الشتيمة الجنسية: «عصيان على احتكار البذاءة من قبل نظام، حدد أطر الأخلاق والقيم العائلية على مقياس العائلة التي تصورها. البعض في الشارع صرح برفضه للبذاءة التي يوجهها الشعب للحكم، ولكن لربما عجز هذا البعض عن رؤية القوة الكامنة في فعل شتم أعراض الأب والصهر والعائلة، في مشهد فرويدي مدهش شكل حالة تحرر جماعية من هذه العائلة المفروضة فرضا».
انتقل آخرون إلى مقارنة هذا الاستخدام لدى شعوب ولغات أخرى، فذكر الكاتب الأردني زياد بركات أن الشفاهة في بلاد الشام عامة، تقوم على البذاءة و»أغاني الأعراس الفلسطينية قبل عقود كانت فضيحة»، مشيرا إلى أن إحدى أغاني الأعراس يخاطب فيها الرجل المرأة بتعداد «دكة» لباسها الداخلي، وهو أمر لم يكن، كما يقول، يشكل خروجا على الأخلاق، ضمن الثقافة المحلية، بل دليلا على الطرافة والشوق، خالصا إلى أنه لو كان لبنانيا لما اعتبر ما يقال بذاءة «بل مجرد وصف يقصّر عن الواقع البذيء والوقح»، وتواترت «تعليقات» للكاتبة اللبنانية رلى الحسين، التي لم تقتصر مساهمتها على توسيع الشتائم الجنسية، بل كشفت أيضا «تأصيلا» للظاهرة، بوضع شريط من «العيار الثقيل جدا» لمغني الراب أبو ناصر الطفار.
أما الكاتب الأردني هشام غانم فأشار إلى اللغة الروسية والمحاولات التي قام بها الحكام لمنع استعمال البذاءة الجنسية في الخطابة والكتابة، مشيرا إلى الرقابة التي حذفت الكلمات الخاصة بالأعضاء الجنسية، لدى نيكولا غوغول، ومنع قصيدة للشاعر ألكسندر بوشكين، وأنه عندما انهار الاتحاد السوفييتي، اكتشف القراء «جبالا من الشتم الجنسي في روايات الكتّاب المنشقين مثل سولجنتسين»، ويطرح حسام الدين درويش مقارنات من الفرنسية والإنكليزية والألمانية، خالصا إلى أنه بدأ «بتعليق الأحكام الأخلاقية في هذا الخصوص» من دون أن يصل إلى «مرحلة الاستساغة» لكن موقفه من الشتائم في المظاهرات اللبنانية والمصرية «استثناء بسبب استثنائية الحالة والسياق».
باختصار، فقد كشفت الظاهرة المذكورة في الاحتجاجات اللبنانية عن اختلافات اجتماعية وثقافية، ومن المفيد، في موضوعنا هنا، استذكار أن العرب، في تاريخهم الاجتماعي والثقافي منذ ما قبل الإسلام ومرورا بالعصرين الأموي والعباسي، ما كانوا يتحرّجون من ذكر القضايا الجنسيّة ولا من ذكر ألفاظها الصريحة. يجري هذا على الأعلام الكبار من الخلفاء والصحابة والفقهاء والشعراء والأدباء، رجالا ونساء، وهذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أن ربط الامتناع عن الكلام الجنسي الصريح، في السياق الأدبي والفضاء العام، هو أمر مستجدّ وهو نتاج مفهوم مستجد (وملتبس) لـ»الأخلاق» والتدين والاحتشام.
من السهولة بمكان تتبع أمثلة كثيرة من ضمن الأدب العربي، وخصوصا ضمن الهجائيات، كما في بيت الأخطل «قوم اذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار»، وحتى قصيدة شاعر العربية الأشهر المتنبي «ما أنصف القوم ضبة وأمه الطرطبة»، وصولا إلى القصيدة الشهيرة في أدب الهجاء السياسي/ الجنسي للشاعر المصري نجيب سرور.
بهذا المعنى، تبدو الشتيمة الجنسية، في السياق اللبناني الحالي، استعادة لتراث تاريخي أدبي سياسيّ، ولكنها، من ناحية أخرى، فعل تحرر جسدي ولغوي أيضا، يفكك الانفصام الذي طبع بعض الثورات العربية التي جمعت بين المضمون السياسي الثوري والمضمون الاجتماعي المحافظ والرجعي.
الشتيمة الجنسية السياسية اللبنانية، هي أيضا تنفيس لمكبوت ومحرّم سياسي عبر البذاءة الجنسية. قام المتظاهرون السوريون عام 2011 بكسر ذلك المحرم السياسي عبر أغاني القاشوش وشعارات المظاهرات التي تسقّط الرئيس وتلعن والده، أما المحرّم السياسي في لبنان فتخفى، حتى الآن، وراء شعار «كلن يعني كلن»، وتحويره عبر الشتيمة الجنسية.
*المصدر القدس العربي