بعد حكم الخليفة الإسلامي الثالث عثمان بن عفان، بدأت مجموعة من الصحابة الكبار، كعبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر، بانتقاد بعض الإجراءات التي اعتبروها تخرج عن سنة الرسول والخليفتين الأولين، وقد تعرض الصحابة المذكورون إلى عقوبات من الخليفة، فنفي أبو ذر إلى الربذة، وعوقب عمار، وانتزعت مهمة جباية الضرائب من عبد الله بن مسعود، وتعرض لعقاب جسدي كبير (وقد أدى ذلك إلى انتقادات من قبل عائشة زوجة الرسول، وعلي ابن عمه)، وقُطع عنه عطاؤه إلى أن مات عام 33 هجرية.
أصدر الخليفة الثالث قرارات كان أبو بكر وعمر، الخليفتان السابقان، قد منعاها، فتم اقتراض وأخذ المال من الخزينة العامة وتوزيعه على بعض المقربين، فأعطي مروان، ابن عم الخليفة، خمس غنائم افريقيا، وأعطي الحارث بن الحكم مبلغا كبيرا، وتم تعيين الوليد بن عتبة، شقيق الخليفة من أمه، عاملا على الكوفة بدلا من الصحابي الكبير سعد بن أبي وقاص، وعين ابن عمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح عاملا على مصر، بدلا من الصحابي الذي قام بفتحها، عمرو بن العاص، كما ألغي قرار الرسول بنفي الحكم بن أبي العاص إلى الطائف، وهو أحد الذين نكلوا به، وتم تعيينه جابيا لصدقات قضاعة.
أخذت الانتقادات في الأمصار المفتوحة، التي جاءت من المقاتلة/القراء، طابعا أكثر حدة، ففي الكوفة تم خلع عبد الله بن عامر الوالي الذي عينه الخليفة، وإعادة أبي موسى الأشعري الذي كان واليا قبله، وعمّت الآراء المعارضة الأمصار، فكان أن حشد المقاتلة/ القراء صفوفهم حتى بلغوا قرابة 1800 شخص توجهوا إلى المدينة للضغط على الخليفة، وانتهى الأمر، كما هو معلوم، بمحاصرته وتجويعه وصولا الى اغتياله عام 35 للهجرة.
من دولة المدينة إلى الإمبراطورية
في نظرة موضوعية للأحداث المذكورة يمكن اعتبار سياسات عثمان انعكاسا لتحول الدولة الإسلامية الناشئة إلى امبراطورية، وبالتالي يمكن النظر إليها كتفاصيل على مشهد واسع جدا، أملاه تحوّل دولة الشريعة الصغيرة في المدينة والجزيرة العربية إلى دولة امبراطورية كبيرة، فاضت عليها الثروات الهائلة وصار طبيعيا، كما رأينا لاحقا لدى الأمويين والعباسيين، بدء التحول نحو سياسة مختلفة، كما أننا، لو وضعنا في اعتبارنا الطابع النسبي لتلك الممارسات والتداعيات الرهيبة التي قاربت تفكك «الأمة» الإسلامية عدة مرات لاحقا، والمذابح الفظيعة التي أدى إليها حدث اغتيال الخليفة، لفهمنا الغضب والندم الكبيرين، اللذين أصابا المسلمين نتيجة هذا الحدث، ولتفهمنا المعنى التسووي الذي قام به منشئو المذهب السني لاحقا، من وصف الخلفاء الأربعة بالراشدين، وباعتبار كل ما حصل لاحقا اجتهادات من الصحابة والمسلمين، في مصالحة صعبة داخل الوعي الإسلامي الجريح.
في الوقت الذي جرى فيه تنصيب عثمان عبر توافق مجموعة عبر اجتماع «أهل الحل والعقد» في مجلس شورى، فقد جرى تنصيب علي بن أبي طالب (رغم ممانعته) بسرعة لتدارك الكارثة التي حلت، لكن مبايعة المقاتلة/ القراء للخليفة الجديد ستستخدم، مع أسباب أخرى لمعارضة تولي علي «إمارة المؤمنين»، لتبدل التوازنات في المدينة، ولاحقا في الأمصار مع رفع السيدة عائشة أم المؤمنين، راية الثأر لعثمان، وإيجادها حلفا مع الصحابيين الجليلين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام (اللذين كانا قد بايعا عليا من ضمن من بايعه من الصحابة في المدينة).
مسلسل مذابح القرّاء
تمكن المتحالفون من دخول البصرة والسيطرة عليها طالبين من القبائل التي شارك أبناؤها في احتلال المدينة تسليمهم للقصاص منهم، وكان ذلك فاتحة مقتلة رهيبة ذبح فيها 600 من القراء/المقاتلة، وكانت تلك نقطة فاصلة أخرى كبيرة في مصير أولئك القراء ستدفع قصتهم، وقصة الإسلام والمسلمين، إلى أطوار عنيفة أكبر، تمثل موقعة الجمل، بين علي وحلف طلحة والزبير وأم المؤمنين، التي أدت لموج من القتلى (قرابة عشرة آلاف قتيل في عدادهم مشاهير من الكوفة والبصرة، وأشراف قرشيون، ورؤساء قبائل)، واستعادة علي للبصرة.
يمكن، من وجهة نظر التحليل الموضوعي (وغير الديني) للتاريخ، رؤية معالم رغبة عليا في المساواة في الإسلام، وهو ما تمسك به القراء وعبروا عنه في رفض القبلية ومحاباة الأقرباء ومبدأ محاسبة الرعية للحاكم، واعتبار النص المقدس لا الأشخاص، هو المرجعية، واستدخال مبدأ الدين في مواجهة الدولة. نشهد أمثلة على ذلك في أن القراء كانوا يعلنون أن أهل المدينة لم يكن لهم حق في أخذ العطاء ما عدا «الشيوخ من أصحاب رسول الله»، وفي كونهم لم يظهروا احتراما خاصا للصحابة، وحتى استثناؤهم لعليّ، لم يغيّر من واقع أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم، مزودين بقراءتهم وتأويلهم الحاد للقرآن، أعلى شأنا من أي كان، ومن هنا نفهم تهديدهم عليا بالموت في صفّين «إن لم يطع كتاب الله».
وجود القراء، الذين شاركوا في الحشد لمقتلة عثمان، في وضعية المتهم الذي سيخضع للإبادة، مترافقا مع رؤيتهم الأحادية للدين والوقائع، ستدفعهم إلى الخلاف مع علي بعد واقعة التحكيم، وستجر عليهم لقب «الخوارج» على الإسلام، كما ستجر عليهم مقتلة جديدة في معركتهم معه في موقعة «النهروان»، وصولا إلى مقتل علي لاحقا على يد أحد عناصرهم، ليكونوا بذلك، في نظر التاريخ، مسؤولين عن إنهاء «الخلافة الراشدة» واغتيال خليفتين.
القاعدة الأيديولوجية للفتنة
كان القراء نخبة إسلامية وقرآنية موجودة في كل الأمصار، ولم تكن لهم مراكز عليا في قبائلهم، ولا كانوا ضمن الصحابة، وقد زودهم القرآن بتعويض لهذين الأمرين، ولم يجعلهم ذلك متساوين مع غيرهم من المسلمين، بل متفوقين عليهم، وهو ما يفسر قدرتهم على محاسبة الخليفة وصولا إلى اغتياله وهو ما كان الحدث المحرّك لأزمة كبرى ما تزال تداعياتها تتردد بعد أكثر من أربعة عشر قرنا على ظهور الإسلام.
لقد كان القراء، حسب هشام جعيط، «القاعدة الأيديولوجية للفتنة»، وضمن رؤيتهم الأيديولوجية تتسيّد فكرة أن القرآن نطق بكل شيء وأن كل شيء يمكن تأويله على ضوئه، لاسيما ما يتعلق بالسياسة، وهو ما مثّل، عمليا، «رفضا للسياسة كتفاوض، كمساومة، كاتفاق بين الناس في سبيل غاية معقولة». كانت السلطة في نظرهم مؤسسة ضرورية، لكنهم كانوا «يرفضون رفضا مطلقا كل طاعة عمياء للإمام». لقد مثلوا التطرف الثوري الذي يستخدم لغة الدين وقانونه، وصادروا بذلك معاني الإسلام لصالحهم، وجعلوا من أنفسهم مفسرين حصريين له، فارضين ديكتاتورية تفسيرهم على الجميع. انتهى القراء (أو الخوارج كما صار لقبهم) إلى اعتبار كل من يختلفون معهم كفارا، ودمهم حلال، وصارت إراقة دم المختلفين معهم، في المعركة أو بالاغتيال الفردي، واجبا. يمثل القراء التطرف الذي يحصل في الثورات، وينقلب فيه المتمردون الكبار الباحثون عن العدالة المثالية إلى إرهابيين صريحين، وهم يشكلون، بهذا المعنى، أسلافا لبعض الحركات الجهادية المتطرفة التي نعايشها في عصرنا هذا. غير أن استيعابا للجدلية المعقدة للتاريخ لا يستقيم من دون أن نذكر أن أطراف الصراع الإسلامي (كلّها) قامت أيضا بأشكال من العنف الانتقامي الدموي الرهيب، كما لا يمكن أن يكتمل من دون أن نشير إلى التراث الذي مثلته الدولة (والإمبراطورية السابقة) العُمانية، التي يدين ملوكها بمذهب الأباضية، وكيف حصل تصالح بين الإرث العقائديّ للقراء مع منطق السياسة والدول، ولعلّ السياسة التي مثّلها السلطان العُماني الراحل قابوس، التي انتهت به إلى وسيط في كل أزمات المنطقة، أكبر مثال على المآل العجيب لهذا الإرث.
يجب أيضا أن نؤكد أن إرث القرّاء توبع أيضا في حركات تمرّد آل البيت، من جهة، وحضر دائما في التوتّر المستمر بين الفقهاء والملوك، وبين الدين والسياسة.
*القدس العربي