لاحظت باحثة أمريكية في علم الحيوان تدعى ماكسين موريس، سلوكا غريبا لدى الفيلة الآسيوية في حديقة حيوان في ولاية إنديانا. في ساعة الأكل، عند توزيع حصص كبيرة من العشب لكل فيل، كان فيلان يقومان بالتهام حصتيهما بسرعة ثم يقومان بحركات سريعة بخرطوميهما. بعد أيام من التدقيق اكتشفت الباحثة أن الحركة كانت مقصودة لخداع الفيلة الأخرى، وتشتيت انتباهها لالتهام جزء من حصصها. كان الفيلان ينفذان خطة محكمة للخداع والسرقة!
بعد انتقادات وجّهت لبحاثة اكتشفوا أنماطا من الكذب المقصود والخداع لدى القردة، اتجه علماء نفس لدراسة إمكانيات الكذب لدى أطفال بشريين في عمر الثالثة، حيث أخضعوا لتجربة طُلب منهم ألا ينظروا إلى لعبة خلفهم. وجد الباحثون أن مجمل الأطفال الذين شاركوا في التجربة اختلسوا نظرة للعبة، وأن نصفهم كذبوا حين سئلوا عن ذلك، وهو ما اعتبر دليلا على أن الكذب يخلق مع الإنسان ويتطوّر مع تعلّم اللغة.
غير أن حركة بالخرطوم لسرقة بعض العشبى تبدو أمرا مسلّيا ومضحكا، حين نعلم أن هناك نوعا من الطيور يدعى cuckoo يضع بيوضه في أعشاش طيور أخرى، وتتلخص حياته في خديعة كبرى لطيور أخرى. الخداع، بهذا المعنى، هو أمر «وجودي» بالنسبة لطائر الككّو. يعمل ذكر ذلك الطير على إلهاء ذكور الطيور الأخرى لإبعادها عن أعشاشها وبذلك يسمح لأنثاه، الشريك الثاني في الخديعة، بوضع بيوضها في عش أنثى أخرى، وبخداعها لتربّي صغارها هي!
تطوّر إناث ذلك النوع من الطيور قدرات فريدة على الإباضة السريعة، لكن الغرابة في الأمر هي أنها تضع أيضا بيوضا تشبه كثيرا بيوض العش الذي ستحتله، كما أن صيصانها تفقس أبكر من صيصان العش المسروق فتحظى بعطف الأم البديلة، كما أنها تقضي، حين تقنص الفرصة، على البيوض الأخرى برميها من العشّ.
نوع كامل تطوّر معنى حياته ليكون في استغلال الآخرين واحتلال بيوتهم والقضاء على صغارهم فهل يذكّرنا هذا بشيء من سلوكيات «القرد العاري» (كما يسمي ديزموند موريس الإنسان)؟
هتلر شخص يمكن الوثوق بكلامه!
من الخدع الشهيرة في تاريخ العالم الحديث، ما قام به الزعيم الألماني أدولف هتلر حين التقى رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين عام 1938 قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. كان هتلر يستعد سرا لاجتياح تشيكوسلوفاكيا، ولمنع حكومتها من الاستعداد العسكري، فقد أكد لتشامبرلين أن لا نيّة لديه لاحتلالها. كتب رئيس الوزراء البريطاني لأخته حينها يقول إن «هتلر شخص يمكن الاعتماد عليه حين يعطي كلمته» كما طالب التشيكوسلوفاكيين بألا يحركوا قواتهم نحو الحدود، لأن قيامهم بذلك قد يعتبر خطوة عدائية ضد الألمان. ساهم الدفاع الضعيف للتشيكوسلوفاك في تسريع قرار الهجوم الألماني وبدء الحرب العالمية الثانية، وغيّرت تلك الخدعة التاريخ.
خلص عالم نفس بريطاني، يدعى ريتشارد وايزمان، خلال استفتاء علمي أجراه على الجمهور البريطاني لصحيفة «الديلي تلغراف» أن أغلب الناس يكذبون كذبتين كبيرتين كل يوم، وأن ثلث الأحاديث بين الناس تتضمن أنواعا من الخديعة، وأن أربعة من كل خمسة أكاذيب لا يتم اكتشافها، وأن 80% من الناس كذبوا للحصول على عمل، وأن 60% من البالغين والبالغات خانوا شركاءهم مرة على الأقل! في مرة ثانية حاول وايزمان إجراء تجربة إحصائية لتتبع مهارات كشف الكذب لدى سكان بريطانيا، بإقناع سياسيين أن يكذبوا أو يقولوا الحقيقة في برنامج تلفزيوني، وكان هدفه من ذلك كشف أي الأحزاب السياسية تحوي أكبر قدر من السياسيين القادرين على الكذب، لكنه فوجئ برفض السياسيين للمشاركة، فاختار إعلاميا شهيرا طرح نسختين من رأيه أي فيلم يفضّل، وكانت النتيجة أن 52% من الجمهور خدعوا و48% عرفوا الحقيقة.
والنتيجة التي استخلصها باحثون أن قدرة البشر، بمن فيهم من يفترض تخصصهم العلمي أو المهني، كالقضاة ومحققي الشرطة وأطباء النفس، على كشف الحقيقة من الكذب هو أمر خاضع للمصادفة البحتة.
من السحر والحكاية إلى الوطن والأمة
يعتقد الناس، حسب تجربة علمية طبقت على جماعات من شعوب متعددة عبر العالم، أن ما يكشف الكذاب من الصادق إشارات من قبيل، إن الكاذب لا ينظر في العين مباشرة، أو أنه يحرّك يده بعصبية، أو يتحرّك في مكان جلوسه، لكن الحقيقة أن الكذبة المهرة لا يفعلون ذلك، وهو ما يعني أن قدرة البشر على كشف الخداع عبر ترقّب إشارات جسدية تصدر عن الكاذب، أمر غير ممكن. لكنّ هناك، مع ذلك، أبحاثا أخرى، تحدد «إشارات» أخرى تساعد في التفريق بين الكذبة والصادقين، وهي إشارات لغوية. يستخدم الكاذب عدد كلمات أقل، فكونه يعلم أنه كلما دخل في تفاصيل أكثر، زادت إمكانيات كشفه، فإنه يسعى للكلام أقل من الصادق، ويحاول التعميم بدل الدخول في عمق الموضوع. يحاول الكذبة الابتعاد نفسيّا عن أكاذيبهم، ولذلك يقلّلون من التفاصيل التي تخصهم فيها، ويخففون إعلان مشاعرهم في القصص التي يحكونها، وبالتالي فمن المتوقع أن يقول يستخدم الصادق ضمير المتكلم أكثر من الكاذب.
المفارقة أن الكاذب يمكن، أحيانا، أن يستخدم تفاصيل صغيرة أكثر من الصادق، بحيث يدعي تذكّر أحداث تافهة لتدعيم روايته، وأن يستخدم حركات العينين واليدين لدفع المتلقي لتصديق ما يحكيه، لأن هذه أشياء يمكن التحكم فيها.
ما يكشف الكاذب إذن هو اللغة التي يستخدمها؟
استطاعت إحدى التجارب العلميّة المثيرة للاهتمام إثبات أن بحاثة استطاعوا التلاعب بذاكرة الأشخاص المشاركين في تجربة، وهو ما يمكن استخدامه للقول إن الذاكرة يمكنها أن تصدّق أن أحداثا لم تجر في حياتها قد جرت فعلا!
أظهرت بحوث علمية أيضا أن جزءا من نجاح السحرة في خداع المتلقين هو مشاركة البشر الإيجابية في عملية الانخداع التي يقترحها الساحر (عبر القول للحضور أن أشياء تحصل رغم أنها لا تحصل فعلا) وهو أمر يشبه علاقة البشر بالحكايات والروايات والأفلام، كما يوضّحها كتاب «الحيوان الحكّاء: كيف تجعل منا الحكايات بشرا؟» لجوناثان غوتشل.
تطور الخداع في المملكة الحيوانية من الخدعة البسيطة للفيل الآسيوي إلى «احتلال» و»استيطان» طائر الككّو لأعشاش الطيور الأخرى وخداعها لتربّي طيوره، أما في مملكة البشر فقد تطوّر مجال السحر إلى الإيمان بالأرواح والآلهة والأديان، وحلّت، في العصور الحديثة، الجماعات القوميّة المتخيّلة (كما يوصّفها بندكت أندرسن في كتابه «الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها») والشركات والدول والسرديّات الحديثة (كما يشرح يوفال نوح هراري في كتابه «العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري») وهو ما يحتاج لتحليله مقالة أخرى لاحقة.
*القدس العربي