حسام الدين محمد: ابن زيدون في بلاط الأمير كيم جونغ أون!

0

أثار الشاعر الفلسطيني نائل بلعاوي نقاشا مثيرا، بعد تعليق على قصة نشرت مؤخرا حول القبض على سيدة من كوريا الشمالية، تمكنت من إنقاذ طفليها من الحريق، ولكنها لم تقم قبل ذلك بإنقاذ صور ممثلي السلالة الجمهورية ـ الملكيّة الذين حكموا البلاد منذ 1948: كيم إيل سونغ، المؤسس والرئيس الأول للدولة والحزب، وابنه كيم جونغ إيل، الرئيس الثاني للدولة والحزب، وحفيده كيم جونغ أون الحاكم بأمره حاليا.
في تعليقه على الحادثة تساءل بلعاوي عن الخلل الذي أصاب الأرض، فقاد إلى «ولادة هذا الشر»، مستعيدا رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد، وأجواء فيلم فرانسيس كوبولا «القيامة الآن»، ومعتبرا كوريا الشمالية «رعبا على شكل دولة»، ثم، وفي ربط لهذه الدولة بواقعنا العربي، اعتبر أن «هذا هو النموذج الذي يحلم به اليسار العربي»، وأن هذا يفسر انجذاب هذا اليسار إلى «القذافي وصدام وحافظ الأسد وإيران والسيسي وبوتين»، خالصا إلى أن «قلب الظلام الكوري» ذاك هو «التمثيل الشرق آسيوي لما حدث ويحدث في الجغرافيا العربية كلها».
تلقّى بلعاوي ردا على صفحته في «فيسبوك» من الشاعر الفلسطيني يوسف عبد العزيز رأى فيه أن الخبر «مجرد فبركة أمريكية أو غربية» لكوريا الشمالية، وسرد فيه كيف شاءت الأقدار أن يدعى عام 1990 إلى مهرجان شعري في كوريا الشمالية، حيث أقام هناك خمسين يوما شاهد خلالها الحياة عن كثب، وتعرف على الناس و«الأهم على الحضارة العظيمة التي هي أهم من حضارة الغرب».

نهر على المسرح

استرسل عبد العزيز في وصف الحضارة العظيمة لكوريا الشمالية، فأوضح أن في العاصمة بيونغ يانغ «12 دار أوبرا، و10 سيركات، و8 متاحف، وكلها صروح ضخمة، ومجهزة بأحدث أدوات التكنولوجيا». حضر الشاعر مسرحية وفوجئ، كما يقول، بأن القائمين عليها «أجروا نهرا على المسرح»، وأن المسرحية كانت مترجمة إلى 8 لغات. وأشار إلى قصور الثقافة التي زار أحدها وتم إعطاؤه طابقا كبيرا فيها للكتابة على مدار يومين، وكذلك «الأرصفة النظيفة الواسعة المزروعة بالورد، وهناك التروموي ومترو الأنفاق».
يتبين لعبد العزيز لماذا يكره «الشعب الكوري» أمريكا، حين يزور متاحفها و«يشاهد المدن التي دمرها الأمريكان»، وعند مشاهدة الشاعر مناحات الكوريين في تلك المتاحف، وجد نفسه «يشاركهم البكاء بشدة». إضافة لكل ذلك يشير عبد العزيز إلى أمر لفت انتباهه وهو «وجود آلاف من الأعلام الفلسطينية المعلقة في الشوارع» وحين يسأل عن السبب تقول له المرافقة، التي تتحدث العربية، إنهم علقوا تلك الأعلام حين استقبلوا ياسر عرفات قبل شهر و«أنهم لعشقهم لفلسطين لم تطاوعهم قلوبهم نزع الأعلام»، خالصا إلى أن «كل ما يبث عن هذا البلد هو عبارة عن دعاية مسمومة من الغرب وتحديدا من أمريكا الرجيمة».
تتواجه هنا سرديّتان متعارضتان كلّيا، تجد الأولى مرجعيّتها في خطاب معارض للاستبداد بوجوهه الشرق آسيوية والعربية. خطاب يرى منظومة تربط بين النظام الحاكم في كوريا الشمالية والأنظمة العربية، وبقايا اليسار الذي يناصر هذه النظم ويدافع عنها.

حضارة أعظم من حضارة الغرب

ترى السرديّة الثانية في النظام الكوري الشمالي «حضارة أعظم من حضارة الغرب» وتستدلّ على ذلك بعلامات الحضارة: دور الأوبرا والسيرك والمتاحف، والأرصفة النظيفة، كما تستدلّ أيضا بعلامات السياسة: الأمريكيون دمّروا المدن الكوريّة والكوريون يكرهونهم لهذا السبب، وهناك بالتالي «صراع بين حضارة عليا (هي الحضارة الكورية) وسفلى (الحضارة الغربية) لا تجد معها «أمريكا الرجيمة» غير بث «الدعاية المسمومة» ضد ذلك البلد وفبركة الأخبار المزيفة، كما حصل مع قصة المرأة والحريق، فهذه الأخبار تبثها «الآلة الإعلامية الأمريكية والغربية عن هذا البلد المتطور».

دخّل كثيرون في الجدال فأعاد الشاعر غازي الذيبة التأكيد على الجامع بين النظام الكوري ونظائره، فقال إنه زار إيران وهو «بلد فيه الكثير من المعالم والمرافق الطريفة، لكن أهلوه يعيشون تحت أفقر خطوط الفقر والبؤس، والاستبداد هناك تراه في الشوارع بأبشع صوره وهو ما حدث أمامي في لاذقية (بشار) الأسد حين قتل أمامي مواطن على يد أفراد من عائلة الأسد»، وقال الشاعر عصام السعدي إنه «رغم كل هذه الصروح الثقافية وأعلام فلسطين، فهم يعيشون جاهلية مطبقة منذ الرفيق الإله/ الصنم كيم إيل سونغ»، مشيرا إلى أنه «عند الكيان الصهيوني مسارح ومتاحف وصروح ثقافية، وحدائق وساحل مسروق هو الأحلى في الكون وأنهار، وزراعة متطورة واقتصاد هائل»، منددا بالثقافة «التي لا تنتج سوى عبادة الحاكم الصنم».
تقوم فكرة عبد العزيز عن كوريا الشمالية على زيارة «مرتّبة» حصلت قبل 20 عاما لإبهار سياح/ شعراء في فترة كان الاتحاد السوفييتي ما زال فيها حيّا، وكانت «الآلة الدعائية» للمنظومة الشيوعية ما تزال فاعلة لدى نخب واسعة في الشرق والغرب. يثير التساؤل هنا أن عبد العزيز ما زال ثابتا على موقفه المبني على تلك الزيارة، وهو موقف يقوم على استقراء تبسيطي، يتطابق نظريا مع مواقف نقرأها بعد قيام فاشيين أوروبيين بزيارة بلد عربيّ منكوب مثل سوريا، حيث تستضيفهم السلطات فيتحدثون بدورهم عن نظام «الحضارة» السوري، الذي يواجه «الإرهاب الإسلامي»، متجاهلين محو مناطق بأكملها، لا تبعد أكثر من 5 كيلومترات من فنادقهم، أو زيارة صحافيين عرب لتل أبيب، واستفاضتهم في الحديث عن الحضارة الإسرائيلية و«الهولوكوست» وتجاهل الاحتلال والتهجير والقمع والتنكيل للفلسطينيين.
المشكلة في هذه القراءة بالأبيض والأسود للسياسة والحضارة والإرهاب، أنها مثل الألبسة التي يمكن لبسها على وجهين، فهي قادرة على تجميل نظم كوريا الشمالية وسوريا وإيران، وتأثيم أمريكا الرجيمة و«الآلة الدعائية الغربية» وتجريم إسرائيل، كما أنها قادرة، عند لبسها معكوسة، على اعتبار إسرائيل قلعة الحضارة الغربية في الشرق المتخلف، وتأثيم الفلسطينيين باعتبارهم إرهابيين ولاساميين بالولادة، واعتبار العرب عموما بدوا مسلمين متخلفين وهمجا، كما يمكنها تلميع أنظمة مستبدة عربية باعتبارها بلاد السعادة والتسامح والانفتاح الاقتصادي، التي تخوض معركة الاعتدال و«التجديد الديني» مع الحضارة الغربية ضد الإرهابيين الإسلاميين والأنظمة المارقة كإيران.
لا ينتبه خطاب الشاعر، على ما يبدو، إلى وجوده في مركب واحد مع كل هذه المواقف، التي تجمع بين المصالح السياسية والفردية والأيديولوجيات القائمة على القوّة، التي تتعايش وتتغذى على بعضها بعضا، من الفاشية إلى الستالينية إلى السلفيّات الدينيّة المتطرّفة. لم يقرأ عبد العزيز تقارير مؤسسات الأمم المتحدة أو منظمات حقوق الإنسان العالمية، ولا يصدق طبعا أن سكان البلد ممنوعون من حقوقهم الأساسية، كالتعبير والتنقل والحصول على معلومات، وأن النظام يستخدم العقوبات الجماعية والإعدامات العلنية، وأن 25٪ من الأطفال يعانون من سوء التغذية، وأن فيها أكثر من 120 ألف سجين سياسي.
لم يسمع بكتاب «كنت طاهي كيم جونغ إيل» لكينجي فوجيموتو، الذي يشرح فيه كيف كانت لدى الزعيم الشيوعي مؤسسة من 200 شخص تتكفل بنظامه الغذائي، ومؤسسة أخرى لتسليته بالراقصات (وحتى تحميمه)، وأنه كان يصرف 800 ألف دولار سنويا على نبيذ هينيسي الفرنسي، وهو لا يعلم، أو لا يهتم، بأن ألوفا من الكوريين يجازفون بأنفسهم للهرب من «الحضارة العظيمة» لبلادهم، وأن عملية الهرب تكلف 12 ألف دولار، وأنه لو ألقت السلطات الصينية القبض على المواطن الكوري وأعادته فسوف يقضي حياته هو وعائلته في السجن السياسي، وقد يتم إعدامه.
لقد عاين يوسف عبد العزيز في زيارته الظريفة الطرائف الميكانيكية للمسارح من دون أن يتساءل كيف يمكن ظهور «حضارة عظيمة» في بلد ترث فيه عائلة واحدة دولة «اشتراكية»، أو يتخيّل أن الزيارة كلها كانت مشهدا مسرحيا في بلد قائم على الهندسة السياسية والاجتماعية لسكانه.
مهم طبعا أن الشاعر كتب عددا من قصائده الجميلة في كوريا الشمالية.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here