تقدم آخر الأبحاث العلمية حول جذور الإنسانية، خريطة جديدة مفاجئة تهز أفكارا راسخة عن الموطن الأول للجنس البشري، كما أنها تزعزع آراء قارّة أخرى حول ما يسميه العلماء بالإنسان الحكيم سواء حول تاريخه، الذي أعادته بعض هذه الأبحاث إلى قرابة نصف مليون عام، أو حول خريطة جيناته، أو حول هجراته العظيمة منذ حقب سحيقة.
اكتشف الباحثون في هذا المجال بقايا بشرية تعود لقرابة 315 ألف عام في جبل إرهود في المغرب، كما اكتشفوا بقايا أخرى في فلسطين التاريخية في كهفي مسلية وسخل في جبل الكرمل تعود لـ177 و120 ألف عام، وكذلك في الهند (385 ألف إلى 172 ألف عام)، والصين (260 ألف عام) وأستراليا، وهناك نظريات عديدة على هذا الانتشار الواسع للجنس البشري في فترات بعيدة جدا، لكن هذه النظريات لم تستطع بعد إزاحة نظرية ظهور «الإنسان الحكيم» في إفريقيا، وهناك حقائق كثيرة تدعم كلها فكرة الهجرات البشرية من موطن أول بعينه.
من الاكتشافات المثيرة التي تهمّ بحثنا الحالي هو أن أوروبا شهدت ثلاث هجرات كبرى مما يسمى «الشرق الأوسط» بدأت منذ 40 ألف عام وتلاحقت بعدها فغيّرت خريطتها الجينية بحيث يعتبر سكانها الحاليون خليط جينيّ من هذه الهجرات الثلاث.
حسب كتاب «هومو سابينس: تاريخ موجز للبشرية» ليوفال نوح هراري فإن معركة كبرى وقعت في «الشرق الأوسط» في عصر سحيق بين الإنسان الحكيم والنياندرتال، وهذا قد يكون أحد أصول السرديات الدينية حول الصراع النهائي بين الخير والشر، أرماغدون، في النسخة التوراتية، و«دابق» في النسخة الإسلامية، ويطرح الكتاب فرضية مثيرة حقا: انتصار الإنسان الحكيم كان بسبب الدين، فالأيديولوجيا الدينية قادرة على جمع آلاف الجنود للحرب، ويبدو أن النياندرتال، لم يكن قد وصل إلى المرحلة الدينية بعد، ولم يستطع بالتالي أن يجمع عددا كافيا من جنسه لمواجهة الإبادة التي تعرض لها على أيدي «الإنسان الحكيم». لا نعلم إن كان التزاوج بين هذين الجنسين القديمين طوعيا، أم كان شكلا من أشكال الإخضاع الجنسي والاسترقاق، ولكن الاحتمالين واردان فلا بد أن التزاوج كان شكلا من أشكال فض النزاعات، كما كان الاسترقاق سببا من أسبابها.
طلاق الحروب وزواج الشعوب
أيا كانت الخريطة النهائية لجينات البشر، أو موطنهم الأول فليست مجازفة فكرية أن نقول إن الهجرة هي أحد أهم أصول نشوء وانتقال الحضارات والثقافات واللغات من مكان لآخر. لقد انتقل الإنسان الحكيم في رحلات مذهلة ورهيبة ومتعددة من إفريقيا إلى الجزيرة العربية وشرق المتوسط، ومن هناك إلى آسيا وأوروبا وأستراليا وأمريكا، وقد حصلت أيضا رحلات معاكسة، بسبب تغير المناخ، من أوروبا إلى آسيا وإفريقيا، وكذلك بسبب الحروب، بطبيعة الحال، ومنها الحروب الصليبية والاستعمار الحديث. تشير التواريخ المكتوبة والأساطير واللغات والثقافات إلى حضور عاملي الحروب والتزاوج، وعلى دورهما المؤسس في التكوين البشري، وتقدم العلاقة المعقدة بين الحضارات القديمة، كالبابلية والكنعانية والفرعونية مع الحضارة الإغريقية أمثلة هائلة على ديناميات اشتغال هذين العاملين.
قام مارتن برنال في كتابه «أثينا السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية» بتقديم أدلة مثيرة على أن الحضارة الإغريقية قامت على أسس مصرية وكنعانية (فينيقية)، وهو أمر لقي اعتراضا كبيرا من أكاديميين وباحثين، ويمكننا أن نلحظ بسهولة هنا الجذور السياسية الغربية لهذا الاعتراض (النظرية الآرية والمركزية الأوروبية الخ). تشير الأساطير اليونانية بوضوح إلى أن الأبجدية (الألفباء) جاءت من كنعان (فينيقيا) عن طريق قدموس، حاكم صور، كما تذكر أن الإله اليوناني زيوس، قام بخطف أخت قدموس المسماة أوروبا، وقيامه بإطلاق اسمها على القارة بأكملها، وأنه أنجب منها سلالة ملوك حكمت كريت. يقلب برنال الأسطورة على قدميها لتتسق منطقيا مع فكرة الانتقال من إفريقيا إلى أوروبا عبر مصر ومدن الشام الكنعانية، وهو أمر لا ينكره علماء الآثار، أما التاريخ الكلاسيكي، المتمركز حول أوروبا، فلا زال يتجاهل هذه المسألة.
أولاد العم… البرابرة
تشير المسرحية الأولى «النساء الداعيات» من ثلاثية إسخيلوس «الدانوس» (التي تتضمن مسرحية ضائعة بعنوان «المصريين») إلى هروب بنات ملك إغريقي قتيل للاحتماء بأولاد عمومتهم المصريين، هربا من زواج قسري، كما يشير هيرودوس، الذي يعتبر «أب التاريخ»، إلى التأثيرات الشرقية في الحضارة الإغريقية، ويعزو برنال إنكار ثيوسيديس، المؤرخ والجنرال الإغريقي للتأثيرات المصرية والكنعانية في الإغريق إلى اتجاهه القوميّ المعادي لمن يسميهم «البرابرة». يمكن اعتبار قسطنطين كافافيس، تجسيدا مذهلا لفكرة لقاء الثقافتين المصرية الإغريقية فهو شاعر ولد وعاش ومات في مصر وكتب شعره باليونانية ساخرا من الأساطير الشوفينية للبشرية، وتعبر قصيدته «في انتظار البرابرة» (التي ترجمها كثيرون بينهم رفعت سلام وسعدي يوسف ومحمد مستجاب) عن هذه الفكرة المذهلة لانتظار مدينة إغريقية لقدوم «البرابرة»، حيث يتوقف مجلس الشيوخ عن العمل ويخرج الملك مستعرضا مجوهراته وتاجه في انتظار الفاتحين، لينتهي اليوم بتجهم وفراغ الشوارع، بعد تأكد خبر أن البرابرة لن يأتوا، ليصل كافافيس في قصيدته إلى هذه الخاتمة المذهلة على لسان أهل المدينة: «والآن ماذا سيحل بنا من دون برابرة؟ لقد كان هؤلاء القوم نوعا من الحل».
استخدم اليونانيون مصطلح البرابرة كوصف تحقيري للشعوب غير الإغريقية، وقد انتقل منهم إلى اللغات الأخرى، كاللاتينية، واستخدمه العرب أيضا لتوصيف الأمازيغ أو شعوب شمال إفريقيا، كما في كتاب ابن خلدون «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر»، ولكن العرب، على ما يظهر، نزعوا منه الطابع التحقيري.
تعيدنا هذه الديناميات الميثولوجية والتاريخية لهجرة الثقافات والحضارات إلى عصرنا اليوم لمقاربة الاتجاهات السياسية العنصرية واليمينية المتطرفة في رؤيتها وتعاملها مع المهاجرين واللاجئين على أنهم «برابرة» جدد قادمون لتهديم أسس «الحضارة الأوروبية» التي تختصر إلى العرق واللون والدين. تتعامى هذه الاتجاهات السياسية الطامّة قصداً عن فكرة بديهية وبسيطة وهي، أن الشعوب كلّها ليست غير موجات متلاحقة من الهجرات المستمرة. مثير للتأمل هنا أن الإغريق والرومان كانوا أقرب لشعوب الشرق «المتحضرة» وأنهم كانوا يعتبرون شعوب القارة الأوروبية برمتها «برابرة». انقلب الزمن وقام أولئك البرابرة باختراع أوروبا منفصلة عن العالم وهو أمر فائق السخافة. يتضاحك الإنكليز، أحيانا، على كون سلالتهم الملكية الحالية هي من أصول ألمانية (اضطرت عائلتها لتغيير اسمها من ساكسي – كوبورغ الألماني إلى وندسور الإنكليزي)، ولكنهم ينسون أنهم ينتسبون إلى الأنغلو والساكسون وهي قبائل ألمانية اجتاحت الجزر البريطانية في القرن الميلادي، وينسى الفرنسيون أيضاً أن قبائل الفرانك، التي سادت بلجيكا وشمال فرنسا، واعطت فرنسا اسمها، جاءت أيضا من ألمانيا (معنى كلمة فرانكفورت، المدينة الألمانية الشهيرة، هو بوابة الفرانكيين). لقد جاءت شعوب الأرض برمتها من إفريقيا، القارة التي تعاني من الازدراء العنصريّ (وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي هو ابن مهاجر ألماني، بلدانها بـ«حفرة القاذورات») مع العلم أن «هجرة» مواطني أوروبا المعاكسة نحو موطنهم الأصلي لـ«استعمار» القارة السوداء و«استيطانها» من أهم أسباب ما تعانيه اليوم، والذي يدفع أفواجاً من الإفريقيين لمحاولة الهرب إلى أوروبا، في تكرار لدائرة الحروب والتزاوج والهجرات التي لا تنتهي.
ألا يمكننا، بناء على ما ذكر، اعتبار أن كل شعوب العالم مهاجرون ارتحلوا من موطن سابق؟ ألسنا كلّنا، من نسكن هذه الأرض، بهذا المعنى أحفاد مهاجرين و«برابرة»: مرّة يتم تقديسهم، مثل الأميرة أوروبا (وأليسار أميرة قرطاجة)، ومرّة مدنّسين، مثل عابري البحر المتوسط البائسين حاليّا؟
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
رابط المقال من المصدر :
https://www.alquds.co.uk/%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%AA%D8%AF/