حسام الدين محمد: أسئلة برهان غليون: كيف خدم «التنوير» العنصرية والاستبداد؟

0

يخوض برهان غليون، في كتابه الصادر مؤخرا «سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية» معركة مدهشة مع أيديولوجيات وأفكار وطروحات قوى ونخب قادت العرب إلى المصير البائس الذي ترزح بلادنا تحته حاليا. يستعيد الكاتب سؤالين كبيرين في تاريخ الفكر العربي، الأول كان لعبد الله النديم (عام 1889) ويقول: «بم تقدّم الأوروبيون وتأخرنا والخلق واحد؟» والثاني لشكيب أرسلان (عام 1926): «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟». يقود جواب النديم، كما يرى غليون، إلى الاشتباك مع سلطات الأمر الواقع، الداخلية والخارجية، بينما يقود جواب أرسلان إلى الاشتباك مع التراث والماضي، وبين هذين الاشتباكين توجد أطروحة الكتاب الرئيسية.
يبين الكتاب كيف قامت النخب العربية خلال فترة الصراع مع الاستعمار وبناء الدولة الحديثة بمحاولة الإجابة على طريقة النديم، وبعدما جوبهت بهزائم ساحقة (تضافرت عناصر الاستعمار والاستبداد المادية والفكرية على صنعها) ارتدّت إلى طريقة أرسلان.
الإجابة الثانية جرت بطريقين تفرعا عن الصدع الكبير الذي أدى إليه التدخّل الغربي، لكنهما أفضيا للإفلاس نفسه: أشهر أحفاد المثقف الحديث رايات التنوير والعقلانية والعلمانية ضد الشعب «الجاهل المتخلف» وحمل أحفاد الفقيه رايات السلفية والجهادية، فصبّ كلاهما جهد الشعوب في طاحونة الاستبداد العربي والسيطرة الغربية.
يحلل غليون مفاصل كبرى ضمن مشهد عريض لقرنين عاصفين من تاريخ العرب، في جولة ملحمية تشرّح أسباب العطب السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي نعانيه والمآلات المأساوية الراهنة لسكان المنطقة العربية واصلا إلى خلاصات خطيرة مزلزلة.

من العنصرية إلى «التنوير»

أحد أكثر النتائج إيلاما في تحليل غليون يوضح كيف أصبحت الأيديولوجيا التي أجمع عليها «التقدميون والعلمانيون» العرب، وصرفوا نصف القرن الفائت بأكمله لتكريسها، لم تختلف في مضمونها ونتائجها عن العنصرية، أيديولوجيا أوروبا عصر الاستعمار لـ»فهم العالم وإعادة إنتاجه كسيطرة عالمية» أو الإسلاموفوبيا، عنصرية حقبة السيطرة المتراجعة. كما عبّرت العنصرية عن الحاجة إلى أيديولوجيا تبرر مصالح الاستعمار في السيطرة على الموارد والمصالح والمنافع التي يوفرها غزو البلاد الأخرى، عبّرت طبقة كبيرة من المثقفين العرب عن حاجة «مجتمع النخبة» المسيطر، إلى أيديولوجيا تعزز هذه السيطرة وتشرعن استمرارها، وتلقي المسؤولية في الإخفاق أو الفشل أو النقص أو البؤس القائم، على رفض عامة الشعب وأكثريته، «للتقدم والحداثة».
تتدرّج فصول الكتاب في سياق يبدأ من لحظة «وعي التاريخ» مع نشوء المثقف العربي الحديث «في سياق الاحتفاء بالتقدم الأوروبي». يؤكد الكاتب أن رغبة النخب والسلطات بالتحديث، منذ الحقبة العثمانية وما بعدها، أدت إلى «قطيعة شبه كاملة على مستوى المتعلمين مع الثقافة التقليدية ومناهجها» وأنه كان هناك قناعة، حتى ضمن الفقهاء ورجال الدين بضرورة تقبل مثال التقدم الاجتماعي والفكري، لا الصناعي والتقني، الغربي فحسب. يقوم حيز كبير من الكتاب على تحليل أثر التدخلات الغربية التي لم تنقطع في التاريخ الحديث والمعاصر، والأفكار التي استخدمها الغرب لتبرير سيطرته، ودورها في فشل تجارب الحداثة، غير أن فرادة الكتاب تكمن في كشف الكارثة التي شارك في صنعها المثقفون العرب، خلال نصف القرن الأخير، عبر اعتبارهم أن المعركة الأساسية هي في نقد التراث «الديني» ومحاولة «كسر جدار التخلف وتحرير العقل العربي» وإعادة بناء الأيديولوجيا العربية «على أسس عقلانية وتاريخية» للتغطية على تخاذلهم عن الاشتباك مع سلطات الأمر الواقع، الداخلية والخارجية.

المثقف العربي يطبق برنامج الاستشراق

يرى غليون، أن أطروحات أساسية في أعمال عبد الله العروي وفؤاد زكريا وعابد الجابري ومحمد أركون وياسين الحافظ ومراد وهبة، مرورا بأجيال كاملة من المثقفين، ساهمت في تطبيق برنامج المستشرقين الغربيين، عبر «حرف النقاش عن جوهره السياسي» عبر التركيز على الدين، بحيث صار المطلوب، حرف نظر المجتمعات عن الاستبداد العربي، وتجنب «النظر إلى الواقع الذي شارك المثقفون العرب أنفسهم في صنعه». يربط الكاتب بين فكرة «تحضير الشعوب» التي تبنتها النخبة المثقفة الأوروبية، في الحقبة الاستعمارية، وفكرة «تنوير» الشعب الجاهل التي أعاد المثقفون العرب تأويلها لتكون سلاحهم الرئيسي لشرعنة نظم السلطات العربية الراهنة. نشأت «معركة التنوير» ضمن السياق الآنف، لـ»تغيير وعي الجمهور» كبديل عن معركة تغيير علاقات السلطة وشروط حياة الناس وأحوالهم المادية والاجتماعية والثقافية، وكما كانت نخب الاستعمار و»الرجل الأبيض» تتمايز عن الشعوب المستعمرة وتنظر إليها باحتقار، شهدنا نخب «التنوير» وهي تعلن تمايزها وانفصالها عما يمثله الشعب المتخلف والمتمسك بتقاليد الماضي وخرافاته، لينقسم المجتمع إلى متعلمين/مثقفين لهم الحق في الحكم والثروة والسلطة والحياة، وجهلة متخلفين بدائيين عوام على الاستبداد أن يسوسهم بالإبادة والاستئصال.
ضمن المشهدية التاريخية للكتاب سنلاحظ كيف أدت «خيانة» الدول الأوروبية الاستعمارية، وعودها للعرب في بداية القرن العشرين إلى صعود الانقلابية الراديكالية (على شاكلة انقلابي «البعث» في العراق وسوريا، وحكم جمال عبد الناصر في مصر) وقادت «خيانة» الانقلابيين للحداثة وهزائمهم الفاضحة بعد منتصف القرن إلى صعود الحركات الجهادية السلفية المسلحة، وبالتزامن، إلى تدهور دور المثقف الحديث بالعلاقة مع النظم، والشعوب، والموقع التاريخي.
يحلل الكتاب الأفق المسدود للحركات السلفية والجهادية ويعتبر انتشارها «ردا على العنف المستبطن بعنف ظاهر، والانتقام من مجتمع حداثي يعيش كالعلقة على امتصاص دماء الأكثرية من المهمشين والأذلاء والمقهورين» لكنه يلاحظ، في الوقت نفسه، كيف أدى انتشار إرهابها إلى زيادة استخدام العلمانية في موضع العداء للإسلام، وإلى مساهمة المثقفين العرب، مع أصوات العنصرية المتطرّفة في الغرب، في تأجيج الإسلاموفوبيا في أوروبا وفي دعم «تحول الجلاد الى ضحية والضحية الى جلاد».
يضيء غليون، بقوة كشّاف ضوء كبير، على إشكاليات الفكر العربي الحديث الكبرى، ويدخل، مدركا، وبجرأة شديدة عشّ زنابير حلف السلطة والمثقف العربيّ، وهو ما يمكن أن يعرّضه لـ»هجمات مرتدة» من المتضررين الكثر من أعضاء هذا الحلف غير المقدس، لكنّه، في المقابل، سيجعله مرجعا للقراءة والتوسع والإضافة. يقدم الكاتب تكثيفا شديدا مركزا لتاريخ طويل معقد، وخلاصات خطيرة، وهو ما يجب أن يدفع الكثيرين، سواء المختلفين معه، أو المتقاطعين معه (وأنا أحدهم) لنقاش نقديّ واسع لعلنا نساهم في الإجابة على السؤال الأخير الذي يختتم به غليون كتابه: هل لا يزال التقدم ممكنا؟

(القدس العربي)