حسام الدين محمد : أحرار أم يسيّرنا القدر: العلم يجيب على أسئلة الدين؟

0

تعيد كتب علمية صادرة حديثا أسئلة كنا نظنها محصورة في المجال الديني، فتتساءل حول القدر وإن كنا مسيّرين أم أحرارا؟ وتربطها بالاكتشافات الحديثة في علوم الدماغ والأعصاب والجينات، فاتحة بذلك الطريق نحو مراجعة مجموعة من الفلسفات والأساطير القديمة، التي عبّرت عنها في الفكر الإسلامي، على سبيل المثال، مدارس المسيّرة والمخيّرة والقدريين والمعتزلة والأشعريين إلخ، وتبعتها السرديات الحديثة حول الحرية المطلقة للإنسان وصولا إلى «السوبرمان» الذي لا يسيطر فقط على قدره وينهي سطوة الله، بل كذلك يسيطر على الطبيعة ويغير العالم.
بعد أيديولوجيات التنوير والتقدم والتغيير شهد العالم اتجاها تمثله مئات الكتب والطروحات التي تشرح للأفراد كيفية القيام بتغيير مصائرهم، والوصول إلى أي هدف أو رغبة يرغبون في الحصول عليها، وأحد الطروحات الممتعة هي التي تعلم الفرد كيفية تطوير دماغه وجعله أكثر مرونة، وهناك مصطلح صار شائعا بالانكليزية Placticity (قدرة الدماغ على التغير الفيزيولوجي)، وبهذه الفكرة، إضافة إلى مسألة الذكاء الاصطناعي الذي سيتجاوز إشكاليات العقل البشري الموروثة عبر ملايين السنين من التطور، سنصبح قادرين على تغيير سلوكياتنا ونتائجها، وبذلك يكتمل مسار التقدم الإنساني ويتخلص النوع البشري من القيود التي تحبطنا كأفراد وجماعات، ليس الاقتصادية ـ الاجتماعية وحسب، بل كذلك القيود البيولوجية.

الدماغ الجائع والعاشق

يولد الطفل البشري عادة وهو مجهز بعدد الخلايا العصبية نفسها عند البالغ، رغم أن حجم دماغه هو 25% من حجم دماغ الكبير، وهو يبدأ منذ الدقيقة الأولى لولادته بالتفاعل اجتماعيا مع العالم المحيط، والرسالة الاجتماعية التي توجهها حركاته ونظراته وأصواته هي خلق رابط مع الشخص، أو الأشخاص الذين يحيطون به ليوفروا له الطعام والرعاية والتعلم. يتركز التفاعل بعد ذلك على سماع اللغة المحيطة، واكتساب مهارة اجتماعية، وبقدر ما تشتغل مناطق دماغه في سنواته الأولى، بقدر ما ينعكس ذلك على إمكانيات التنوع في سلوكه لاحقا، وكلما ازدادت الاتصالات العصبية، نمت فروع لها لتصل إلى شبكة اتصالات تقارب الـ100 تريليون فرعا، والعملية المستمرة لاستلام الاتصالات من البيئة، ومراقبة أفعال الآخرين والانتباه إلى التشابهات في التفاعل، هو ما يعطينا بصمتنا الفردية وحياتنا التي نتميز بها.
يناقش كتاب «علم القدر: لماذا مستقبلنا متوقع أكثر مما نظن؟» لهانا كريتشلو فكرة أن الجنس البشري «محكوم» بحدود الدماغ الذي يملكه، ورغم الإنجازات الكبرى التي مكننا هذا الدماغ من الوصول إليها، فكل رغباتنا محتومة ومقدرة، بدءا من الحاجة إلى بالغين يقدمون لنا الرعاية والغذاء حين نولد، ونوعية الطعام الذي نأكله، مرورا بعدم قدرتنا على رؤية «الواقع» على حقيقته بسبب حاجة الدماغ للأرشفة وإعطاء الأولوية لقضايا على قضايا أخرى، وكذلك بأوهامنا حول الحب الذي ليس غير الحاجة البيولوجية للتكاثر، وصولا إلى تحكم السرديات الكبرى، كالأديان والأيديولوجيات والسياسة.
شهيتنا للطعام، كجنس بشري وكأفراد، على سبيل المثال محكومة بجيناتنا، وبتوصيلات أدمغتنا، التي أنتجت «جهاز مكافآت» للحفاظ على نوعنا البشري من الانقراض، وهذا الجهاز هو الذي يجعلنا نميل إلى الأطعمة السكرية والدهنية، والنهم الدائم للأكل، والكسل الطبيعي الذي يريد توفير الطاقة، وهذه عناصر «محتومة» لا تفرق بين كارل ماركس أو الدالاي لاما أو البيولوجيين والأطباء أنفسهم، وتغيير هذه الشروط يحتاج انقلابا جينيا، أما عاطفة الحب فهي تركيب شعوري للآليات الداخلية العميقة التي تدفعنا للتناسل، أو لتأمين شبكة دعم لمستقبلنا كجنس بشري عبر أولادنا وأحفادنا.

في الحاجة إلى معنى

تبدو شروط تعامل دماغنا مع قضيتي الجوع والتكاثر بسيطة حين ننتقل إلى مسألة طلب الحاجة إلى معنى، وصولا إلى تشكل الأديان والأيديولوجيات. حسب أستاذ علم النفس مايكل شيرمر، في كتابه «الدماغ المؤمن: من الأشباح والآلهة إلى السياسة والمؤامرات»، فإن قدرتنا على إنشاء عقائد مترابطة جاءت مع ارتقائنا كبشر، وهي نتيجة لحاجة الدماغ البشري لتحليل العالم والتفاعل معه. الدماغ هو «محرك آلي للاعتقاد بشيء»، وهو يحاول بشكل مستمر استخلاص معنى من المعلومات التي تنهال عليه. يقوم بذلك عبر التصنيف وإعادة التدقيق كل المعطيات التي تقدمها الحواس لإنتاج قوالب ونماذج. الهدف من كل هذه العمليات التي أغلبها يتم بشكل غير واع، هو السماح بفهم واع لمساعدتنا على التوقع والتخطيط للمستقبل.
تلعب العلاقات الاجتماعية لدى البشر دورا أساسيا في تشكيل الاعتقاد. لقد اكتسبنا القابلية الواعية للتعبير عن العالم وسرد القصص حوله، ولإيصال معتقداتنا الفردية عبر اللغة، التي تعتبر ذروة المهارات الإنسانية الواعية. اعتقاداتنا هي نتيجة اجتهاد دماغنا على بناء صورة متماسكة لتفسير العالم الخارجي. يرفض الدماغ عادة المعلومات الجديدة التي تتحدى رؤيتنا للعالم وتدفعنا لإعادة تقييمنا لافتراضاتنا التي اعتدنا عليها. يرفض الدماغ ذلك بداية، لأنه يحتاج طاقة كبيرة، ولأن أولوياته هي فلترة التحديات ومواجهتها، وهذا يفسر سبب صعوبة تغيير اعتقاداتنا أو اعتقادات الآخرين. يوازن الدماغ هذه الآلية بآلية أخرى تمثلها النزعة الدافعة للحركة والاكتشاف، والبحث عن الجديد، وكما أن هناك أمثلة مأساوية كبرى حول تحالف أيديولوجيات خطيرة مع قوة الدولة، وصولا إلى جرائم كبرى ضد الإنسانية، فإن هناك أمثلة لا تحصى على تغيرات فكرية كبرى انتجت تحولات في قيمنا الجماعية وثقافاتنا، فالحركة والتفاعل مع بيئات جديدة واكتشاف العالم الفيزيائي محفزات كبيرة لا تقل عن محفزات الإبقاء على الأوضاع والعقائد والثقافات القديمة.

محافظون وليبراليون

إحدى التجارب الحديثة المثيرة للتفكر كانت قياس تفاعل أدمغة مجموعة متطوعين عرفوا عن أنفسهم بصفتهم محافظين وليبراليين، وقد قيست أنشطة أدمغتهم بعد تعريضهم لتجربة مخيفة، فتبين أن منطقة في الدماغ تدعى «اميغدالا» Amygdala لدى المحافظين أكثر حجما وتفاعلا منها لدى الليبراليين. هذه المنطقة حساسة جدا للمخاطر وهي تصدر هرمونا يوقف بشكل مؤقت عمليات التفكير المنطقي، أما الليبراليون فكانت منطقة Insula أكبر لديهم وهي مختصة بالتنظير العقلي وتقبل الآخرين. لا يولد الناس «رجعيين» أو «تقدميين» بالفطرة، بل يمرون بتجارب عديدة في الحياة تجعلهم كذلك، فقد تنمو منذ الطفولة مشاعر الخوف من الآخرين، سواء كانوا من فئة اجتماعية أو جنسية أو اقتصادية أو لغوية، أو تيارات سياسية أو دينية، ما يمثل خطورة على منظومات الاعتقاد، وهذا المسار المعقد قد يحولنا إلى محافظين أو ليبراليين أو إسلاميين ومسيحيين متطرفين إلخ… حسب جوناس كابلان، عالم الأعصاب الأمريكي، فإنه ليس هناك إرادة حرة. «نحن لسنا مؤلفي أعمالنا لأن كل شيء حصل نتيجة شيء سبقه»، لكنه يضيف بحذر: «غير أن قراراتنا تنتج جزئيا عن حالتنا العاطفية، وحيث أن أغلب البشر يجدون الاعتقاد بعدم وجود إرادة حرة لهم أمرا محبطا فإن الإيمان بالحرية أمر مفيد».
الخلاصة أن اعتقادنا بأننا أدوات مسيرة للظروف التي صنعت أدمغتنا، وللشروط التي نحن مرغمين عليها قد تجعل الناس يعتقدون أن لا شيء يغيّر العالم المحيط، بحيث قد يتركز اهتمامنا على أنفسنا وتجاهلنا لقواعد المجتمع، أما إيماننا بالإرادة الحرة قد يكون وهما لكنه ضروري لسير المجتمع والعالم.

٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»

لقراءة المقال من المصدر انقر هنا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here