حذيفة فتحي: رسالة إلى أبي

0

مات أبي. هكذا أخبروني صباح ذلك اليوم. مات وحيدًا في غرفةٍ باردة. مات بعيدًا عن بيته وآلته الكاتبة.

كنتُ ما أزالُ صغيرًا حين بدأتُ أفكّر بالموت. أحاول تخيّلَ ما سيحدث بعد الموت. أتقلّب طوال الليل في سريري. أتعرّق بغزارة. أرتعش من الخوف. أقرص يدي. أصفع وجهي. أختنق. أنهض من السرير. “ماذا لو كنتُ غير موجود؟”. كان هذا السؤال يُؤرّقني على الدوام. يَبعث القلق في نفسي. يَجعلني غير مبالٍ في الوقت ذاته. بماذا أكترث ولماذا أهتمّ في الأساس إن رسبتُ في الامتحان؟ ما الذي سيتغيّر إن فقدتُ أحد أصابعي؟ هل سيَحدث فرقٌ ما لو أصبتُ بمرضٍ عضال؟ ما الذي سأضيفه لو أصبحتُ مُخرجًا سينمائيًا كبيرًا أو كاتبًا مرموقًا؟ لا شيء. وجودي وعدمه سواء.

العام 2009، كانت الساعة تُشير إلى منتصف اليوم حين رنّ هاتف البيت. كنتُ ما أزال نائمًا. ظَهَرَ رقم هاتف بيت جدّي على الشاشة الصغيرة. استيقظتُ على بكاء أمّي ونحيب صوتها. أخبروها بموت والدتها. أخرجتُ رأسي من تحت الغطاء وصرتُ أراقب أمّي. قالتْ لي: ماتت حبّابة. أجبتها ببرود: الله يرحمها. اجتمع حول أمّي من كان في البيت حينها. حاولوا تلطيف الموت بكلماتٍ عاجزة. كلماتٌ تُقال على الدوام في مواقف كهذه. كنتُ أظنّ حينها أنّ آباءنا اعتادوا سماع أخبار الموت. هم مَن فقدوا آباءهم من قبل، والكثير من الأقارب والأصدقاء. كان الجميع يحبّ حبّابة. الذهاب إلى بيتها عيدٌ استثنائي. يزداد ذلك العيد بهجةً حين كانت هي مَن تزورنا وتستقرّ لأيّام في بيتنا. كنتُ أرى في حبّابة ذلك الشخص الفريد، الخبير في الحياة، الجامع بين ثلاثة أجيال. هي مزيجٌ بين الأمّ والصديق. نُفشي إليها بأسرارنا وتُبادلنا بدورها قصصًا عن أناسٍ لا نعرفهم. لطالما كانت تُحدّثنا عن ذلك الزمن الجميل. زمن ارتداء فستان السهرة والذهاب برفقة جدّي لحضور فيلمٍ مصري في “سينما فؤاد” وسط المدينة. لم ألتقي بجدّي قطّ. رأيته في الصور فقط. كان يبدو وسيمًا. أسمر اللون وممتلئ الجسد. يحرص دائمًا على حلاقة ذقنه وترسيم شاربه الخفيف. كان لديه درّاجة نارية ذات طرازٍ كلاسيكيٍّ قديم. أسرّتْ لي حبّابة ذات يوم بأنّ جدّي كثيرًا ما كان يناديها باسمها: جميلة، ثمّ يتبعها بكلمات أغنية سعدون جابر:

جميلة ولابسة عالشّعر طاقة

سَبَتْ عقلي.. ما خلّت لي طاقة

لا تقبل لا.. لا تقبل صداقة

والشكوى لله حلاّل الشّكاوي

جميلة ولابسة فستان الأسود

نادت باسمي قالت لي.. تبعّد

والقلب الـ حابها مذلول وهاوي

في التاسعة من عمري، كان قرار والداي بالعودة إلى سوريا. العودة بصورة نهائية إلى مكانٍ لا أعرفه. كنتُ قد أمضيتُ حينها نصف طفولتي في المملكة السعودية. ما زلتُ أذكُر جيّدًا منزلنا هناك. ملعب كرة القدم الترابي في الجوار. مدرسة المرحلة الابتدائية وصفوفها الواسعة. سيّارة أبي ولونها الداكن. سيّارات جيراننا التي كنتُ أمطرها بين الحين والآخر من شرفتنا بالبيض النيء. كانت حافلة العودة أشبه ما تكون بمنزلٍ ضخمٍ مُتحرّك. هكذا تخيّلتُ الحافلة من الخارج. أمضينا يومًا كاملًا بداخلها. العام 1996. لا شيء من وسائل الترفيه كما هو الحال عليه اليوم. لم يكن القلق باديًا على أبي آنذاك. كُنّا قليلًا ما نتحادث. كان التوقّف عند محطّات الوقود هي اللحظة التي أنتظرها. ألتصق بالنافذة أكثر وألتقط رائحة البنزين والديزل. أتخيّل خزّان الوقود كملعب كرة قدم. يلتهم الكثير من السوائل ولا يرتوي أبدًا. تسري النشوة في رأسي. محطّات الوقود، الطريق الأقصر إلى السعادة. تدور العجلات من جديد. تعود الحافلة إلى الطريق السريع. تشقّ الصحراء كمُتزلّجٍ على جليد. لا شيء في الجوار سوى رمالٍ ذهبيّة وأشواك مُتيبّسة. في الليل، يبدو المشهد أكثر إمتاعًا. يحلّ الظلام، تختفي الصحراء، وينام الجميع.

تعلو وتهبط أصوات البكاء. تزداد الوتيرة مع كلّ وافدٍ جديد. تسيل الدموع كجداول ماء. العيون مُتّسعة وحمراء. دخلتُ بعد تردّدٍ إلى الغرفة الأكثر حُزنًا خلال حياتي. احتضنني البعض ورحتُ أبكي مثلهم. وجدتُ نفسي تائهًا بعد لحظات. لم أنطق بشيء. لا داعي للتحدّث هناك. البكاء هو المُسيطِر. سمعتهم يقولون: ما بدّك تودّع حبّابة؟ كانتْ تحبّك حيل. تعال شوفها! كانت حبّابة مُستلقية على سريرها، مُغطّاة بالكامل، وبين حينٍ وآخر، يُرفع الغطاء من على وجهها لنظرة من هنا وقبلة من هناك. ألقيتُ بدوري نظرة الوداع وواصلتُ البكاء.

كانت أشعّةُ شمس ذلك الصباح ما تزال خفيفةً حين اجتزنا نقطة العبور الأردنية – السورية. تفتيشٌ دقيقٌ للأمتعة استغرق ساعاتٍ من ليلٍ صيفيٍّ حارّ. انطلقت الحافلة من جديد. كان مقعد أبي شاغرًا. حاولتْ أمّي إقناع السائق بالانتظار فترةً أطول. صارت تلتفت يسارًا ويمينًا علّها تعثر على أبي. حشودٌ هنا وتجمّعٌ هناك. كان الباب قد أُغلق. لا فائدة من الانتظار. كان أبي قد اُحتُجِزَ في مفرزةٍ أمنية خلال فحص أسماء المُسافِرين. وصلنا إلى دمشق. التحق بنا أبي في اليوم التالي. كان عليه مُراجعة مقرّ “الأمن السياسي”. ذهبَ في الصباح وعاد في آخر اليوم. أخبروه بقرار المنع النهائي من العودة لمزاولة مهنته في تدريس مادة اللغة الإنجليزية. كان ذلك يعني الحرمان من المرتّب الحكومي الشهري والمرتّب التقاعدي لاحقًا. استقلنا حافلة العودة إلى دير الزور. كانت شركة النقل تُدعى “الفرات”. طريقٌ صحراويٌّ آخر لكنه أشدّ قسوة. نوافذ الحافلة كانت مفتوحةً على طول الطريق. لهيب الاسفلت زاد في اصفرار الوجوه واحمرار العيون. اسفنج المقاعد أذابته حرارة المحرّك. قماشةٌ رقيقة هي ما بقي فوق حديدٍ مُشتعل. كان الوصول إلى تدمر أشبه بالخلاص من عذابٍ مستمر. استراحةٌ لالتقاط الأنفاس وتجديدٌ للطاقة. عاد المسافرون إلى الحافلة بعد أن شرب بعضهم الشّاي السّاخن! المحطّة القادمة هي دير الزور. رحتُ أنشغل بمراقبة لوحات المسافة على يمين الطريق. أحسبُ الوقت اللازم لقطع عشرة كيلومترات بين كلّ لوحتين. دير الزور، 190 كم، 180 كم، 130 كم، 70 كم، 20 كم. يتناقص الرقم. تعود الدماء إلى الوجوه. 10 كم، يعتدل الراكبون في مقاعدهم، يميلون في جميع الاتجاهات، يبسطون أذرعهم، يتنحنحون، يلملمون حاجاتهم. أخرج أحدهم عبوةً بلاستيكية. شَرِبَ ما فيها دفعةً واحدة. مَسَحَ القطرات من على شاربه وقال: ما بي مثل ميّ الفرات!

كانت المرّة الأولى التي أشارك فيها بتشييع أحدهم. لم يسبق لي ذلك. لم أكن أعلم شيئًا عمّا يجري خلال الجنازة وأثناء الدفن. كان الحفّارون قد انتهوا من تجهيز قبر حبّابة. فُتِح التابوت. أُخرِجَ الجسد وأُنزِلَ في القبر. رافق ذلك توجيهاتٌ حول الطريقة السليمة لاتّجاه الرأس. رحتُ أبكي مع البدء بهيل التراب. صاروا يقولون: آجروا.. آجروا. تقدّمتُ قليلًا. تناولتُ الكريك من أحدهم بعد أن مرّره لي. كانت الرؤية لديّ غير واضحة من أثر الدموع. صرتُ أدفع بالتراب إلى القبر دفعًا متأنيًّا. مَن هم حولي كانوا يفعلون ذلك مُسرِعين. رحتُ أنحني أكثر في محاولة لرؤية حبّابة. كنتُ على وشك أن أفقد توازني وأسقط في القبر. انزلاقه خاطفة لقدمي كادت تُفسِد هيبة الموقف. تداركتُ الأمر وعدتُ أدراجي سريعًا. كانت حبّابة قد اختفت تمامًا. أيقنتُ حينها أنّ الموت هو هذا الشيء: أنْ لن أرى حبّابة مُجدّدًا.

العام 1990، تناولتْ حبّابة عباءتها وأخبرت مّن كان في البيت أنها ستعود قبل حلول الظلام. توجّهتْ إلى مدينة البوكمال. دخلت من معبر القائم الحدودي إلى الأراضي العراقية. اتّصلتْ على الفور بهاتف منزلنا في السعودية. صارتْ تصرخ وتُكرّر التحذير: لا تأتوا.. لا تأتوا هذا الصيف.. اسمه ما يزال على الحدود! كان والداي يهمّان بزيارة سوريا وتمضية الصيف هناك. كان أبي قد غادر وسط أحداث الثمانينيات ولم يعد منذ ذلك الحين. ظنّ أنّ الأمور قد سوّيت وأنّ التُّهم ضدّه قد أُسقِطَت. كان الاشتباه يقع على الكثيرين مِمّن غادروا سوريا في تلك السنين. الاشتباه في ارتباطهم بجماعاتٍ مُعارِضة أو التنسيق معهم أو حتى دعمهم مادّيًا. أُلغيت الزيارة في ذلك الصيف. عادت أمّي لوحدها. لم تسلم هي الأخرى من جلسات التحقيق والأسئلة المُتكّررة حول حياة أبي. في كلّ مرّة، كان يقول لها المُحقّق: لماذا تُسافرين أنتِ لرؤية زوجك، بينما هو لا يأتي أبدًا؟

مضت السنوات سريعًا في بيتنا بدير الزور. اعتدنا عليه كما اعتادوا علينا ساكنو الحارة. كان قد سُمِحَ لأبي بممارسة التدريس في القطّاع الخاص. كان لزامًا عليه أن يزور فرع “الأمن السياسي” مرّةً كلّ ثلاثة شهور. يذهب في الصباح. ينتظرُ في إحدى الرّدهات لساعاتٍ طوال. يُنادى عليه لمقابلة رئيس الفرع مع انتهاء النهار. الأسئلة ذاتها تتكرّر على الدوام: هل تواصلتَ، أو تواصلَ معك أحدٌ، من هذه الأسماء (تُرَدَّد أسماءُ بعض الأشخاص المقيمين خارج البلاد)؟ هل من نشاطاتٍ سريّة تقوم بها قد تُهدّد أمن الوطن؟ هل تهتمّ بالسياسة؟ كيف ترى أوضاع البلاد وقيادة السيّد الرئيس؟ أصبحتْ لاحقًا هذه الزيارات الإجباريّة جزءًا من روتينٍ مملّ. تقدّم أبي في العمر. بقيت الزيارات على حالها. كان يعود في كلّ مرّةٍ وفي وجهه الكثير ليُقال. لم يكن يسرّ لنا بما في داخله. في أحد الأيّام، عاد أبي وبدا مُثقلًا بالهموم حينها. كان قد انفجر في وجه رئيس الفرع: ألم تكتفوا منّي؟ ما الذي تريدونه من هذه الشّيبة؟ ألم يحن بعد موعد إلغاء هذه الزيارات؟ تلقّى حينها جوابًا باردًا مع نبرةٍ حاسمة: يبدو أنّكَ مَللتَ من زيارتنا، لكنّنا لم نملّ بعد من رؤيتك! استمرّت تلك الزيارات حتّى اندلاع الثورة في آذار (مارس) 2011. في أواخر كانون الثاني (يناير) 2013، وصلت إلى أبي أخبار اقتحام الفرع والسيطرة عليه من قبل بعض الفصائل المُقاتِلة. لم يُبدِ الكثير من ردود الفعل. كان نازحًا ويأمل في العودة قريبًا إلى بيته.

احترق بيتنا وتدمّر. كان أبي يرفض مغادرته مهما حصل. غادره في الآخر في تموز (يوليو) عام 2012. حَمَلَ بعض الثياب ورَحَل. كان البقاء أشبه بانتحارٍ بطيء. لا مياه للشرب. لا كهرباء لحفظ الطعام الذي فَسَدَ سريعًا. لا خبز. لا شيء للنجاة. القذائف تساقطت كالمطر. الهواء صار ثقيلًا مُحمّلًا بالموت. صَعَدَ أبي وأخي في سيّارةٍ من أجل عبور نهر الفرات. انطلق السائق بهما مُسرِعًا فوق جسر السياسيّة (نسبة إلى فرع “الأمن السياسي” الذي يتربّع على ضفّة النهر عند مدخل المدينة الشمالي). وصلوا إلى الضفّة الأخرى بعد أن حالفهم الحظ. كانت طلقات القنص تترصّد أيّة حركةٍ على الجسر. كان أبي مُنهكًا وشاحب الوجه. أخبرني أنّ ما عاشه خلال الأيّام السابقة لم يشهد مثله حتّى في حرب تشرين عام 1973. كان أبي ما يزال محتفظًا ببدلته العسكرية التي ارتداها على خطّ الجبهة. مُلازمٌ في “الشرطة العسكرية”. البيريه ذات اللون الأحمر. الرّتب على الكتفين. كنتُ أشاهد أحيانًا البدلة وهي مُعلّقة في زاوية الخزانة. أسألُ أمّي عن وسام الشجاعة الذي بحوزة أبي. تُبدِي استغرابها عن مصدر هذه الأنباء. كان وسام الشجاعة أشبه بأسطورة لا يمكن التحقّق من صحّتها. في كلّ مرّةٍ نسأل فيها أبي عن الوسام، كان يبتسم ويُعيد سرد أحداث الحرب. يُخبرنا عن أصدقائه الذين فقدهم هناك. عن ضُبّاطٍ من الجيش كيف وأنّهم نزلوا في الخنادق وراحوا يبكون من الخوف. عن مجزرة الدبّابات والمُدرّعات التي حصلت بفعل الطيران الإسرائيلي. عن بسالة الجيش العراقي ودوره في وقف تقدّم القوات الإسرائيلية نحو دمشق. كُنّا نقترح على أبي تسجيل شهادته وتوثيق هذه المعلومات في برنامج “شاهد على العصر”. كان يُؤكّد على أهميّة ما في ذاكرته من تفاصيل. يُغمِض عينيه قليلًا. يغوص في طيّات الزمن. يهزّ رأسه بالإيجاب. يعود سريعًا ويَسرد أسماء مَن كانوا فوقه في هرم القيادة. يُعدّد أسماء مناطقَ في سهل حوران. تلك المناطق التي أصبحنا نعرفها جيّدًا بعد عام 2011.

في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفيّة، كان صوت الآلة الكاتبة يملأ البيت. وقعتُ على الفور في عشق ذلك الصوت. يَضرب أبي على الأحرف. تَخرج النغمات الحادّة. مفتاح المسافة كان له وقعٌ مختلفٌ عن باقي المفاتيح. مفتاحٌ عريضٌ لكسر الرّتم. ينتهي السطر ويخرج ذلك الجرس. تُسحب نحو اليسار قطعةٌ أشبه بقبضة. يعود الرأس ويبدأ سطرٌ جديد. يَضرب أبي مُجدّدًا بوتيرةٍ متناسقة. يَسحب الصفحة بعد القاء نظرةٍ فاحصةٍ من فوق النظّارة. يَضع صفحةً جديدة ويَضبط هوامشها. مات حافظ الأسد عام 2000. أطلق أبي زفرةً حينها وقال: ذهَبَ إلى حيث لا ظُلم هناك. صار لدينا حاسوب عام 2003. لم ينقطع صوت الآلة الكاتبة. صار أبي يطلب منّي من حينٍ لآخر كتابة أسئلة الامتحانات التي كان يُعدّها. كان يُبدي بعض الملاحظات ويطلب تعديلاتٍ هنا وهناك. بعد الانتهاء، أضع الملف على قرصٍ مرن (Floppy disk) وأذهب لطباعته. شيئًا فشيئًا، استسلم أبي على ما يبدو لهيمنة الحواسيب. صارت الصفحة تبدو أجمل بإضافة تنسيقاتٍ مُعيّنة. جدولٌ لاحتواء بعض النصوص وخطوطٌ بأحجامٍ مُختلفة. أعاد أبي آلته الكاتبة إلى صندوقها الأبيض. أغلقَ الصندوق ولم أسمع مُجدّدًا تلك النغمات مُذ ذاك.

شباط (فبراير) عام 2021، اشتدّ الألم بأبي واحتاج لإجراء عملٍ جراحيّ. أُجريت له الفحوص والتحاليل اللازمة. كان وباء “كوفيد-19” يضرب العالم من جديد. تَحدّد موعد العملية وأُدخِل أبي إلى المستشفى. كانت أمّي تُرافقه. استقلتُ درّاجتي الهوائية ورحتُ أجوب شوارع المدينة البعيدة. كانت السماء مُلبّدةً بالغيوم. وجوه المارّة بدت لي كئيبة. صرتُ أنظر في هاتفي كلّ بضعة دقائق. لا رسائل جديدة. مضت نصف ساعةٍ الآن. أبي لا يزال في غرفة العمليات. أزيدُ من سرعة درّاجتي. الغيوم تقترب أكثر من الأرض. الهواء صار أثقل. الوجوه استطالت وفقدت ملامحها. صرتُ أردّد: انهض يا أبي.. انهض يا أبي! كانت ما تزال في مخيّلتي صورة ذلك الرجل الشديد، دائم النشاط، صاحب النظام الصّارم. شباط (فبراير) عام 2013، كان آخر لقاءٍ يجمعنا. كنّا نتحادث بعد ذلك في الأعياد وبعض أيّام السنة. نكتفي بمحادثةٍ صوتيّة. نهرب ربّما من رؤية ندبات النزوح. أهرب بدوري من رؤية أبي وقد قهره الزمن. “أبي خرج من العمليات وهو بخير. ما يزال تحت تأثير البنج”. أخيرًا وصلت الرسالة التي طال انتظارها. انقشعت الغيوم وصار الجوّ صحوًا. تبدّلَ حالُ وجوه المارّة. تسلّلت الابتسامات اليها. استيقظ أبي لاحقًا وصرتُ أمازحه: بدأتُ البحث لك عن امرأةٍ فرنسية. أجاب بلا تردّد: ليس بعد كلّ هذا العمر مع والدتك.

أتى أيلول (سبتمبر) من العام ذاته. كان شهر الوداع. عانى أبي من أعراض كورونا. موجةٌ جديدةٌ ضربت جدران العالم بعنف. حظرٌ للتجوال فُرِضَ في القامشلي. محاولات شقيقتاي للوصول سريعًا إلى أبي باءت بالفشل. رحلات الطيران توقّفت. الحياة تعطّلت. تدهورت حالة أبي بعد أن تحسّنت قليلًا. انخفضت نسبة الأكسجة لديه. صارت الحاجة ماسّة لتأمين أسطوانات الأكسجين. كنتُ في العمل حين علمتُ بذلك. ما الذي أستطيع فعله؟ عجزٌ رهيب وغصّة قاتلة. رحتُ أرسل لهذا وذاك من أجل تأمين أسطوانة أكسجين. مع اقتراب المساء، صار القلق يساور أخي من نفاذ الأكسجين. كان القرار بنقل أبي إلى المستشفى المُتخصّص بمرضى كورونا. لم يكن أبي على وفاق مع هذا القرار. قال لأخي في سيّارة الإسعاف: سأذهب لأموت هناك. ارتفعت نسبة الأكسجة في اليوم الأوّل. انخفضت بشكلٍ حادّ في اليوم التالي. دخل أبي في غيبوبة ونُقِل إلى العناية المُشدّدة. تسلّل الخوف وسط الأخبار الواردة. صارت شقيقتي تُصارحني بخطورة الوضع وتطلب الدعاء لأبي. رحتُ أبحث عن فسحة أمل. كتبتُ في غوغل: غيبوبة كورونا. ظهر لي عنوانٌ مليءٌ بالتفاؤل: “تسعينيّة تهزم كورونا بعد غيبوبة شهرين”. أرسلتُ الرابط لشقيقتي. أجابت بحذر: لعلّ أبي يعود. لم يعد أبي. رَحَلَ فجر الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر). مات وحيدًا في غرفةٍ باردة. مات بعيدًا عن بيته وآلته الكاتبة.

إلى أبي: ربّما تستطيع قراءة هذه الكلمات. لطالما كُنتَ تقول: أريدُ العودة الى بيتي.. أريدُ الموت هناك. كنتُ أُفكّر حينها: ما الفرق في أن يموت الإنسان في أيّ مكانٍ بعيدًا عن بيته؟ علمتُ لاحقًا ما كُنتَ تقصده: ألّا تموتَ وحيدًا.

إلى أبي: لم يُخبِروا شقيقتكَ بوفاتك. كان أبناؤها يخشون عليها من صدمةٍ تودي بحياتها. الأمراض أنهكتها. أنتَ تعلم جيّدًا كم كانت تُحبّك. كنتَ الشقيق الأقرب اليها. هي آخر مَن بقي على قيد الحياة من عائلتكم. في كلّ مرّة كانت تسأل فيها عن أحوالك، كانوا يخبرونها بأنّك على ما يرام. قلبها كان يُخبرها بشيءٍ آخر. لم تعد هذه الإجابات القصيرة كافيةً لها. أصرّت على الاتّصال والتحدّث إليك. كان سمعها ثقيلًا. أجابتها أُمّي. حاولتْ أُمّي التهرّب من الإجابة على السؤال الأصعب. أخبرَتها بأنّك لا تستطيع التحدّث إليها الآن. كانت أُمّي تحاول تبرير ذلك. قالت لها: أنا عند باب البيت أحاول التقاط إشارة الانترنت، وشقيقكِ يصعب عليه مغادرة الغرفة. كان جواب عمّتي أنها ستنتظر إذن تسجيلًا صوتيًّا لك. أرسلتْ لنا أُمّي تسأل إن كان لدى أحدٍ منّا تسجيلٌ لك. كان السؤال مؤلمًا. عُدنا إلى التسجيلات القليلة التي كنتَ قد أرسلْتها لنا. صوتكَ بدا مختلفًا هذه المرّة. كُنتَ حزينًا وهادئًا. كُنتَ تُردّد في كلّ تسجيل “ابني” أو “ابنتي”. تتمنّى لنا الأفضل وتدعو لنا على الدوام. لم تُرسِل أُمّي شيئًا في الآخر. لم تتّصل شقيقتكَ مُجدّدًا. هي في انتظارٍ دائم لسماع صوتك.
إلى أبي: لم أخبركَ بهذه القصّة مِن قبل. حين مات شقيقكَ الأكبر. ذهبتُ في اليوم التالي من دفنه إلى المقابر. رحتُ لوحدي رفقة درّاجتي الهوائية. كنتُ أظنّ أنّ العثور على قبر عمّي أمرٌ سهل. صعدتُ الطريق الإسفلتيّ عبر الجبل. كانت المقابر تنتشر على مدّ النظر في كلّ الاتّجاهات. الشمس وسط السماء تزداد لهيبًا مع صعودي أكثر فأكثر. أنعطفُ يمينًا. أحاولُ استعادة طريق الجنازة في الأمس. أقف بجوار أحد القبور. “لا بُدّ أنّ هذا هو قبر عمّي”. كنتُ مُتيقّنًا من ذلك. ذهبتُ للتحقّق من شاهدة القبر فظهر لي اسمٌ آخر. واصلتُ رحلة البحث. لا شيء هناك سوى قبورٍ وصمتٍ رهيب. بدأ التعب والخوف يتسلّلان إليّ. عثرتُ بعد جولةٍ جديدة على قبرٍ بدا حديثًا. لم يكن هناك شاهدةٌ فوقه. رحتُ أقرأ الفاتحة. لم أكد أنتهي حتّى خرج من بين القبور رجلٌ شبه عارٍ يشبه ماوكلي. كان ينظر نحوي رافعًا يديه مُباعدًا بين أصابع كفّيه. بلحظةٍ خاطفة، كنتُ على درّاجتي أنطلق كالسّهم. ابتعدتُ قليلًا. راحت دقّات قلبي تنتظم شيئًا فشيئًا. وصلتُ إلى أوّل الطريق. نظرتُ ورائي. كانت القبور تُراقب المدينة من أعلى نقطةٍ فيها.

إلى أبي: حلّ الشتاء هنا سريعًا هذا العام. عامٌ على رحيلك. عامٌ لكي أكتب هذه الكلمات. لا أعلم كم من شتاءٍ آخر سيأتي قبل أن أزور قبرك. لن أضيع القبر هذه المرّة. حتّى يحين ذلك الشتاء، وداعًا أبي.

*الترا صوت