مصطفى الولي
كاتب وقاص وناقد فلسطيني سوري.
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق الدراسات
أنجزت إسرائيل في حرب حزيران 1967 ما يعادل إنجاز الحركة الصهيونية بإقامة دولة إسرائيل في العام 1948. وفي هذا الخصوص، وصف أكثر من محلل، انتصار إسرائيل في تلك الحرب بأنه ولادة ثانية “للدولة”.
نظر البعض لمكاسب إسرائيل، في حزيران 1967 بشكل مبسط، مكتفياً بالتوسع الجغرافي الذي حققته قواتها في ميدان المعركة. لقد أصبحت فلسطين بكامل مساحتها في قبضة إسرائيل. وزادت سيناء المصرية والجولان السوري.
إنه وعلى أهمية الأرض التي وقعت تحت قبضة قواتها، لكن الأمر الاستراتيجي الأهم، الذي تحقق لإسرائيل بانتصارها العسكري على جيوش ثلاثة بلدان عربية (مصر وسوريا والأردن)، هو نجاح مؤسستها السياسية باحتلال الموقع الأساسي في الحلف الأميركي دوليا، متفوقة بذلك على حلفاء أميركا في آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
في الربع الأخير من الستينيات كانت الحرب الباردة في ذروتها. الاتحاد السوفييتي يعتمد على حلف وارسو وحلفائه في “العالم الثالث” من قوى الثورة والتحرر، والولايات المتحدة توظف حلف النيتو وإلى جانبه الدول الحليفة لها في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. ولعل الحرب الفيتنامية شكلت في حينه مسرح الصراع المحتدم، كما تُعد السيطرة على مصادر الطاقة (النفط في الجزيرة العربية والخليج) هدفاً أميركياً، تسعى واشنطن إلى حماية أنظمته من أي تهديد سياسي. وما قدمه انتصار إسرائيل على الدول العربية في حزيران جاء خدمة للاستراتيجية الأميركية. فبعد الحرب، بدأ دور المملكة السعودية وإمارات الخليج، يتعزز أولاً بأول على حساب المد الناصري في مصر والقومي عموما في البلاد العربية، مشرقها بالذات.
في ظل هذه التناقضات، كانت سوريا محكومة بسلطة عسكرية تنتمي لحزب البعث، وهو الحزب الذي كانت تتفاعل في داخله التناقضات بين تيارين رئيسيين، يقف على رأس أحدهما حافظ أسد، وكان يشغل موقع وزير الدفاع في سوريا.
روايات كثيرة، واكبت أحداث حرب حزيران على الجبهة السورية، أكثرها اعتبر أن الإعلان عن سقوط مدينة القنيطرة، مركز هضبة الجولان، دليل على تواطؤ من حافظ أسد مع إسرائيل، ليتمكن من القبض على السلطة في سوريا.
لن نعتمد هذه الرواية في تناولنا لمسار الإعداد للانقلاب الذي جاء بحافظ أسد للسلطة، دون أن نستبعد بشكل قاطع أن قرار الانسحاب من الجولان، والإعلان عن سقوط القنيطرة قبل سقوطها الفعلي، ارتبط بشكل ما بالتطورات اللاحقة داخل السلطة السورية. أي بالتحضير للانقلاب في 1970، وحسم الصراع مع التيار الآخر في موقع القرار السياسي في سوريا، التيار المتعارف عليه “جماعة صلاح جديد”، بعد سنتين من الهزيمة، مرتكزا إلى عدد من الترتيبات العسكرية والأمنية، خلف ستار إعادة تأهيل “القوات المسلحة” من أجل “الدفاع عن البلاد”، وبصياغة أخرى “حماية سلطة البعث”.
بعد الهزيمة وسقوط الجولان، شرع حافظ أسد في خطوات تمكنه من الفوز بالسلطة، وتمنع معارضيه من إحباط أطماعه للتحكم بالبلد ومقدراته. فأبعد الضباط غير الموالين له شخصيا، وأعاد توزيع المراكز القيادية، في فرق الجيش وألويته وأسلحته، خاصة سلاح الطيران، تمهيدا للتخلص من خصومه في السلطة (صلاح جديد، نور الدين الأتاسي، يوسف زعين) ومن يدور في فلكهم.
كما أطلق يد شقيقه رفعت لبناء قوة عسكرية خاصة باسم “سرايا الدفاع”، لتتولى دورا حاسما في حسم الصراع في تشرين ثاني 1970، ولم تكن هذه القوة تأتمر بقيادة الجيش وهيئة الأركان. كما أن اختيار عناصرها قد تم اعتمادا على ضمان الولاء المطلق لرفعت وحافظ.
وعلى مستوى أجهزة الأمن أو المخابرات، شرع حافظ أسد من موقعه كوزير للدفاع، بتجاوز قرارات “القيادة القطرية للحزب” التي كانت الأكثرية فيها تناوئ توجهاته، واستطاع بسط نفوذه على تلك الأجهزة بعد أن تم التخلص من الرجل القوي عبد الكريم الجندي. وزاد عليها فرعا جديدا، تحت مسمى “المخابرات الجوية”، بعد أن كانت جزءاً من المخابرات العسكرية، محدودة المهام والصلاحيات.
في الجانب الاقتصادي، برزت بعد هزيمة حزيران وسقوط هضبة الجولان بيد الجيش الإسرائيلي، مؤشرات على تدهور ما يدعى “النظام الاشتراكي”، الذي لم يكن اشتراكياً إنما “تشريكياً”، سيطرت فيه السلطة على القطاع العام، واحتكرت العمليات التجارية، وتقاسمت مع البرجوازية البيروقراطية، التي نمت في ظل سلطة البعث، كل عمليات الاستثمار، فتشكلت فئة جديدة لا صلة لها بالبرجوازية السورية التقليدية، وأصبح الاختناق الاقتصادي سمة ظاهرة في الوضع السوري العام. في الغضون أدى التداول الداخلي للأزمة إلى ظهور توجهين داخل سلطة البعث، أحدهما يطرح أيديولوجيا جذرية “لتعميق الإجراءات الاشتراكية”، والثاني يناور داخليا مع الطفيليين البيروقراطيين، وخارجيا يغازل بخجل دول النفط التي تقودها السعودية. حافظ أسد وقف على رأس هذا الاتجاه.
هكذا، وباستثمار منه للخطاب “الأيديولوجي القومي” للصراع مع إسرائيل، مضى الأسد بخطوات مدروسة استعدادا لحسم الصراع على السلطة. ففي الوقت الذي سعى تيار جديد- الأتاسي إلى بناء قوة عسكرية “شعبية مسلحة” وتأسيس منظمة “الصاعقة” كفرع للبعث السوري في العمل الفدائي الفلسطيني، مضى الأسد في ترتيباته داخل الجيش النظامي، ومعه أجهزة الأمن والأجهزة العسكرية الخاصة، غير آبه بتأثير “الصاعقة” والجيش “الشعبي” وما يدعى “كتائب البعث” على ميزان القوى في حسم الصراع في اللحظة المناسبة. ولقد نقل عن محسن ابراهيم، أمين عام منظمة العمل الشيوعي في لبنان، تصريحا، بعد لقاء له مع قادة التيار المناهض للأسد، قال فيه لرفاقه من أعضاء الوفد المرافق، معلقاً على استعراض جماعة جديد لقوتهم وقدرتهم (الحزب، المنظمات الشعبية، الاتحادات، كتائب البعث، قوات الصاعقة) كلها معهم، وليس مع الأسد سوى الجيش وأجهزة الأمن، فقال محسن، وبلهجة تهكمية “اهربوووا”. إشارة منه إلى عدم التكافؤ في موازين القوى إذا انفجر الصراع. كان ذلك في أواخر 1969 أو مطلع 1970. حينها كانت القوى السياسية في البلاد العربية تتابع المعلومات الواردة من دمشق حول تطور التناقضات داخل السلطة في سوريا.
أما على المستوى الدولي، فلقد كان تيار صلاح جديد محسوباً كمناهض جذري “للإمبريالية”، في خطابه ودعايته الأيديولوجية، بينما كان حافظ أسد يظهر امتعاضه من هذا الخطاب، ويبني حوله شبكة من أصحاب المصالح الخاصة، وهؤلاء كانوا نافذة له على دول الخليج، وعلى الأنظمة العربية ذات الارتباط بأميركا ودول الغرب. ويذكر في هذا الخصوص أن الجنرال عبد الكريم الجندي، قبل موته الغامض، ما انفك يعلن: أن حافظ أسد رجل أميركا، وسوف لن يسمح له بإلحاق سوريا بالسياسة الأميركية.
في الفترة بين حزيران 67، وتشرين الثاني 1970، بلغت التناقضات الداخلية في سلطة البعث بسوريا ذروتها. ويشير بعض العارفين، بما كان يجري في أروقة الحكم، أن السيطرة الفعلية على مقاليد الأمور في دمشق، تم في أيلول 1970، أي قبل الإعلان الرسمي والسافر لانقلاب حافظ أسد في (16 تشرين الثاني 1970) والذي أطلق عليه اسم “الحركة التصحيحية”.
ويربط أكثر المحللين والخبراء السياسيين، بين توقيت الانقلاب، وما سبقه من أحداث دموية في الأردن، الذي تفجرت فيه أعنف حرب بين المنظمات الفلسطينية وقوات الجيش الأردني.
في حينه، لم يستجب حافظ أسد لقرار القيادة القطرية، ورفض تقديم الإسناد العسكري، خاصة من سلاح الجو، لحماية منظمات الفدائيين الفلسطينيين. يومها كان القادة الإسرائيليون يحذرون من أي تدخل سوري في الأردن، تحديدا من سلاح الجو السوري الخاضع لقرار حافظ أسد. ولقد تلقت الدروع السورية، التي دخلت شمال الأردن، ضربات قوية من سلاح الجو الأردني، وكانت تلك القوات تتبع لتيار جديد- الأتاسي، وتحركت دون قرار من حافظ الأسد وزير الدفاع في حينه. ورفض الأسد إسناد تلك القوات وحمايتها من القصف والتدمير.
لا شيء يؤكد ما ذهب اليه كثير من المحللين والمراقبين، بأن الجولان سقط “باتفاق” بين الأسد وإسرائيل عبر طرف دولي، يتم بموجبه “تسليم الجولان مقابل السماح للأسد بالسيطرة على السلطة في سوريا”. غير أن التطورات التي تداعت في المنطقة، بعد هزيمة حزيران، جعلت تلك الرواية أقرب إلى أن تكون واقعية.
عموما، وفي الواقع الموضوعي الناشئ بعد الهزيمة، وفي تداعيات الوضع السياسي في المنطقة (وفاة عبد الناصر وصعود السادات، خروج الفدائيين من الأردن، انقلاب الأسد وسيطرته على السلطة)، ثمة رابط بين تلك التطورات وبين هزيمة 1967.
مع انفجار ثورة الحرية في سوريا 2011، ظهرت إلى العلن “مكانة سلطة آل الأسد” في التفكير الاستراتيجي لقادة إسرائيل. في مؤتمرات هيرتسليا السنوية التي تعقدها إسرائيل لتقييم الوضع الأمني الاستراتيجي للدولة، كان الاستخلاص الأهم في المناقشات للوضع السوري بدءا من هيرتسليا في العام 2012:
“لا توجد أية ضمانة لنظام جديد بديل لنظام الأسد. التجربة على الجبهة الشمالية، خلال أربعة عقود، أثبتت أن لا تهديد من هناك لأمن إسرائيل”.
قابلها قادة ومسؤولون في النظام بإعلانهم:
“إن تعريض أمن سوريا للخطر سيهدد أمن إسرائيل”.