في البداية لا بدّ من الإشارة إلى أن تعبير “الإسلاميين” يختلف عن تعبير “المسلمين”، إذ يُقصد به أولئك الذين انطلقوا من الدين الإسلامي، وبنوا أيديولوجية إسلامية خاصّة بهم، ويمارسون السياسة من خلال أحزاب أو حركات أو جماعات استنادًا إلى هذه الأيديولوجيا، وهم متنوعون جدًا، ولا يمكن حصرهم في أيديولوجية واحدة أو حركة سياسية واحدة أو نمط تفكير واحد. ما يعني أن هذه الأيديولوجيات الإسلامية المتعدِّدة تعكس رؤى وتصورات متباينة في ما بينها على الرغم من انتسابها جميعها إلى الإسلام، ولذلك لا يمكن أي طرف من أطراف “الإسلام السياسي” أن يدعي أنه الممثل الشرعي والوحيد للإسلام. أما تعبير الثقافة” فله معانٍ عديدة، وتحتاج إلى حديث طويل، لكننا نستخدمه هنا في سياق الإشارة إلى الآداب والفنون، والثقافة العامة المتصلة بالحياة.
واحدة من المسائل التي تعيق تقدّم الإسلاميين سياسيًا، خطابًا وأداءً، وتجعل الحوار معهم معاقًا منذ البداية، هي غيابهم عن الثقافة. لا حضور للثقافة والفكر عند أكثرية الإسلاميين، وهناك غياب للإسلاميين معظمهم عن الساحة الثقافية والفكرية. عند الإسلاميين، تحضر الأيديولوجيات الإسلامية بكثافة وحدة، أي الأيديولوجية الإسلامية بتنويعاتها وطوائفها ومذاهبها المتنوعة، فيما يغيب الفكر، وتغيب الثقافة. الفكر والثقافة يغيبان بدرجات متفاوتة عند اليساريين في الأحزاب السياسية أيضًا، أكانوا شيوعيين أم قوميين عربًا، لكن غيابهما عند الإسلاميين أكثر. وحتى عندما يكون هناك اهتمام بالثقافة فإنهم يعودون إلى التراث العربي الإسلامي لينهلوا منه، ويجدون أنفسهم غير معنيين بأدب وفنون العصر الحديث أو ثقافات الأمم والشعوب الأخرى.
مع ضمور الثقافة تضمر الروح الإنسانية ويغيب الخيال، وينحسر التفاعل مع الثقافات الأخرى، وفهمها وتفهمها واحترام أهلها، مثلما تضمر الروح الديمقراطية، لأن هذه الأخيرة تستدعي أن نؤمن بأننا لسنا شعب الله المختار، ولا أصحاب الحضارة الأفضل، ولا الاعتقاد بأننا مركز الكون أو الوحيدون الموجودون على كوكب الأرض، ولا الاعتقاد بأن التاريخ يسير نحو غاية محددة سلفًا، ليثبت ويؤكد لنا أننا على صواب وأهلَ فضيلة فيما الآخرون على ضلال.
لذلك، فإن واحدة من المسائل المهمة التي يمكن أن ترفع من سوية خطاب الإسلاميين، ومن أدائهم السياسي أيضًا، ما داموا جزءًا من النسيج السياسي واقعيًا، هي الاهتمام بثقافة أعضاء الحركات الإسلامية، فلا يبقوا في إطار اختزال الفكر والثقافة إلى أيديولوجية وشعارات، ما يؤدي إلى تبسيط الحياة إلى جملة من الأوهام عن الذات والآخر. غياب الثقافة عنصر مهم في تغذية التفكير الاستبدادي، والجهل بثقافة الآخرين يولِّد بيئة خصبة لكراهية الآخر، وفي السياسة يؤدي غياب الثقافة إلى توليد مواقف سياسية حدية أو عوراء بصورة دائمة. ليس قليلًا ما يمكن أن يفعله الاطلاع على ثقافات ومعارف الشعوب والأمم وطرائق تفكيرها ومعاشها والقيم التي تحملها والأفكار والتصورات التي تختزنها.
هناك كثرة هائلة في مشايخ أو شيوخ أو دعاة الإسلام، وهناك قلة في المفكرين والمثقفين الإسلاميين. هناك نقص كبير في إنتاج فكر إسلامي في مقابل كثرة الشروحات والتفاسير والتحقيقات والروايات والسير. المشايخ والدعاة، عمومًا، لا يفعلون شيئًا سوى تكرار ما قاله الأولون، ومن ثم يفتقدون إلى القدرة على تقديم إجابات عصرية أو هم يقيسون الواقع بمقاسات الماضي، وهذا لا ينتج إلا إعاقة واقعية وبشرًا معاقين. الثقافة المترهلة والشعارات المترهلة هي ابنة الجمود والبقاء في حيز الاجترار والتكرار.
إذا كان الإسلاميون يريدون ممارسة السياسة التي هي فن وعلم إدارة الحياة، كون السياسة هي فن وعلم إدارة الشؤون العامة أو فن وعلم إدارة البشر والأشياء، فهذا لن يكون ممكنًا في حال آثروا البقاء في دائرة السيف والخطابة. تتحول الحياة، وكذلك السياسة، من دون الثقافة، إلى حياة بلا خصب، بلا روح، إلى عَيشٍ بلا حياة، أو في الأحرى إلى موات. والميتون لا ينتجون إلا الموت.
ما زال الإسلاميون خارج دائرة الحياة الثقافية الفاعلة. ربما من النادر أن نجد بين الإسلاميين (وليس المسلمين) أديبًا أو فنانًا أو روائيًا أو قاصًّا أو مسرحيًا أو فنانًا تشكيليًا أو عازف بيانو أو مخرجًا سينمائيًا أو رسامًا… إلخ. الإسلاميون أيضًا بعيدون عن الاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وعلم النفس الاجتماعي، والطب النفسي. هم أكثر اهتمامًا بالعلوم الطبيعية والطب والهندسة والرياضيات والعلوم التقنية. هم أميل إلى الجانب العملي المباشر في الحياة، وهذا مهم بلا شك، لكن الانحشار فيه، والابتعاد من الثقافة يجعل البشر بلا خيال، ليعيشوا على هامش الحياة أو خارجها. تختلف الثقافة عن العلوم الطبيعية وغيرها، فهذه الأخيرة لا تختلف بين الشرق والغرب، إلا من حيث فلسفتها وطرق تعليمها، أما الثقافة والعلوم الإنسانية فهي التي تصنع ثقافات البشر وأرواحهم.
في بلداننا، عمومًا، تختزل الأحزاب السياسية الثقافة بأيديولوجية الحزب، ومنها الحركات الإسلامية. الأمر نفسه ينطبق على التيارات اليسارية التي تبتعد من دراسة الأديان، ومن التعرف إلى الثقافة العربية الإسلامية؛ أخبرني أحدهم، ذات مرة، نقلًا عن يساري عتيق في الحزب الشيوعي السوري أنهم لم يكونوا يقرؤون إلا جريدة أنباء موسكو. هناك حساسية مرضية من غير الإسلاميين تجاه الثقافة الإسلامية، ومن ثمّ هم لا يعرفون الكثير عنها؛ كيف لهم أن يمارسوا السياسة من دون معرفة مجتمعهم وثقافته؟!
هناك تنوع هائل في الثقافة العربية الإسلامية، إن جاز التعبير، في العصور الوسطى؛ لدينا مثلًا صوفية ابن عربي، وزهديات أبي العتاهية، وخمريات أبي نواس، وإلحاد ابن الرواندي وأبو بكر الرازي، وسلفية ابن تيمية، وغزليات عمر بن أبي ربيعة… إلخ، بينما تكاد تغيب خصيصة التنوع هذه عن ثقافتنا في العصور الحديثة. ماذا يمكن أن نفهم حين يُصدر الأزهر قرارًا بمنع كتاب مثل “وليمة لأعشاب البحر” أو عندما يُصدر فتوى بتكفير فرج فودة؟! الإسلاميون مغرمون بملاحقة المثقفين والمفكرين، وبمحاكمتهم أيضًا. فعلوا ذلك في محطات كثيرة خلت، فعلوها مع نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم. وهذا لا يدعو إلى الاطمئنان. الدلالة واضحة؛ حينما تكون الأمم قوية وواثقة لا تخشى على نفسها، وحينما تضعف وتدرك هشاشتها تخاف على نفسها، وتتقوقع، وتنغلق، وتموت.
هناك أجيال من الإسلاميين عاشت في ظلال كتب وأفكار سيد قطب والبنا وفتحي يكن وسعيد حوّى ومحمد عبد السلام فرج، وغيرهم، تعلمت الخوف من الخوض في كتب وثقافة الآخر، وفي غمار الفكر والمعرفة. لكن أيضًا هناك تباين بين الإسلاميين أنفسهم في ما يتعلق بالنظر إلى الثقافة، وليس فحسب بين الإسلاميين والتيارات الأخرى. هناك إسلاميون غير متشنجين، يحاولون الاندماج نسبيًا في الحياة الطبيعية للبشر، فيمسكون بالعصا من منتصفها، يظهرون تقبلهم للفنون والآداب، فيُواجهون بتشدّد إسلاميين آخرين يرون أنهم يخالفون مقاسات أيديولوجياتهم الإسلامية.
هناك تخوف شائع من وصول الإسلاميين إلى الحكم في أي بلد عربي. ويُعبر عن ذلك بالخوف من انقلابهم على الديمقراطية. هذا الخوف مشروع، لكنه لا يتعلق بالإسلاميين وحدهم، فكل التيارات الأخرى في المنطقة عندما سنحت الفرصة لها للانقلاب على الديمقراطية فعلت ذلك، والأمثلة أكثر من أن تحصى. مع ذلك، هناك تخوف عام من الإسلاميين يتعلق بالخوف على الثقافة منهم، وهناك أسئلة عديدة يمكن أن تُطرح في هذا السياق؛ هل يقبل الإسلاميون بحرية الثقافة، أو في الأحرى، هل يقبلون بوجود الثقافة أصلًا؟ هل سيسمحون بوجود دور السينما والمسارح وصالات الفن التشكيلي ومدارس الباليه وأكاديميات الغناء والموسيقا؟ وفي حال قبلوا هل سيذهبون في طريق أسلمة الثقافة؟ هل سنكون أمام مصطلحات “مبتكرة” على هيئة “السينما الإسلامية” و”الأدب الإسلامي” و”المسرح الإسلامي” و”الموسيقا الإسلامية”… إلخ بما يُلغي البعد الإنساني والكوني للمجالات هذه كلها؟ ما الأفلام والمسرحيات التي ستحظى بموافقتهم؟! هل ستوضع معايير “شرعية” للثقافة؟!
من حق الجميع أن يتخيّل؛ عندما يصل الإسلاميون إلى الحكم، هل سيكونون بين طريقين لا ثالث لهما؛ إما مصادرة الثقافة وطردها من التداول العام أو أسلمتها؟! الإسلاميون في حاجة إلى إثبات أنهم ليسوا ضد الثقافة، وأنهم لن يجعلوا الثقافة خادمًا للسياسة كما فعلت الأنظمة الحاكمة، أكانت قومية أم يسارية. في أواخر آذار/ مارس 2016، قال عبدالإله بن كيران، رئيس الحكومة المغربية، والأمين العام لحزب العدالة والتنمية الإسلامي: “إن البلاد ليست في حاجة إلى مثقفين أو فلاسفة وشعراء، بقدر حاجتها إلى تقنيين”. شكوك الناس في الإسلاميين من حيث علاقتهم بالثقافة لم تأتِ من عبث.
يفسِّر لنا عداء أكثرية الإسلاميين للثقافة والفن والأدب مسألتين اثنتين؛ الأولى، خوف الآخرين منهم، وعدم الثقة بهم في ما يتعلق بقضية الحريات؛ لا ثقافة من دون الحرية والنقد والتساؤل. أما الثانية، فهي فشلهم في ممارساتهم السياسية عندما يكونون في السلطة، فهم يميلون إلى تطبيق أيديولوجياتهم وشعاراتهم على البشر، بطريقة أوتوماتيكية تفتقد إلى الروح والخيال، وكأنهم يتعاملون مع أحجار شطرنج جاهزة لتحريكها في الاتجاه الذي يريدون، بدلًا من الانهماك في تحفيز المثقفين والمبدعين لإظهار كل ما لديهم، وفي حل المشكلات الواقعية للبشر. للأسف، لم يتعلّم إسلاميو المنطقة العربية شيئًا من التجربة التركية في مستواها الداخلي.
ما الفريضة الغائبة؟ إنها الثقافة. وليست كما دعا الشيخ محمد عبد السلام فرج قبل أربعة عقود؛ جهاد المعرفة هو الجهاد الأكبر! الثقافة هي بوابتنا إلى الحياة والعصر والإنسانية، ومن دونها سنبقى كائنات تتلاطم وتصرخ وتنشر عويلها في الأرجاء من دون أن يسمعها أحد أو يكترث لها.
*المدن